ما حقيقة تراجع التنسيق الأمني بين مصر و”إسرائيل”؟

للمرة الأولى منذ توقيع اتفاقية السلام قبل أكثر من أربعة عقود، تكشف تقارير إعلامية متقاطعة عن تحوّل نوعي في طبيعة التنسيق الأمني بين مصر و”إسرائيل”، تمثل في قرار القاهرة خفض مستوى هذا التنسيق إلى الحد الأدنى. القرار، وإن لم يُعلن رسميًا، اكتسب بعدًا سياسيًا داخليًا واضحًا، بعدما وصفه زعيم الأغلبية البرلمانية في مصر، عبد الهادي القصبي، بأنه “إرادة وطنية صلبة”.
جاء هذا التحول وسط تصعيد عسكري مستمر في قطاع غزة، وضغوط داخلية على الحكومة المصرية، ومواقف إسرائيلية يُنظر إليها في القاهرة باعتبارها استفزازية أو تجاوزًا للخطوط الحمراء. ومع دخول الإعلام الإسرائيلي، خصوصًا اليميني منه، على خط التصعيد الكلامي، بدأت ترتسم ملامح مرحلة جديدة من العلاقة بين البلدين.
هل تراجع التنسيق الأمني بين مصر و”إسرائيل”؟
يُعد التنسيق الأمني بين مصر و”إسرائيل” منذ توقيع اتفاقية السلام عام 1979 آلية محورية لضمان الاستقرار على الحدود المشتركة، وخاصة في منطقة سيناء التي تتميز بحساسية أمنية عالية. هذا التنسيق يشمل تبادلًا دوريًا للمعلومات الاستخباراتية والتنسيق الميداني بين الجيشين، عبر اللجنة العسكرية المشتركة بخصوص تنفيذ البنود الأمنية في اتفاقية السلام فقط، وبهدف منع أي تحركات قد تُفسَّر على نحو خاطئ وتؤدي إلى اشتباك غير محسوب.
في 17 سبتمبر/أيلول 2025، نقلت وسائل إعلام مصرية عدة، منها “اليوم السابع”، “المصري اليوم”، “مصر 360” و”مصراوي”، إضافة إلى قناة “العربية الحدث”، أن القاهرة خفضت مستوى التنسيق الأمني مع “إسرائيل” إلى أدنى حدوده. وعلى الرغم من عدم صدور إعلان رسمي من مؤسسات الدولة السيادية بهذا الشأن، فإن هذه التقارير، تزامنت مع تصريحات داعمة من زعيم الأغلبية البرلمانية عبد الهادي القصبي، تعطي مؤشرات على أن الخطوة تمثل توجهًا سياسيًا متعمدًا وليس مجرد تعديل فني مؤقت.
السياق الإقليمي الذي جاءت فيه هذه الخطوة يُضيف إلى المشهد مزيدًا من التعقيد. فالعلاقات المصرية الإسرائيلية تشهد منذ أشهر ضغوطًا متزايدة بسبب الحرب الوحشية المستمرة في قطاع غزة وما يصاحبها من حصار وتجويع، إضافة إلى استمرار تداول فكرة تهجير سكان غزة إلى سيناء كحل للأزمة من قبل ترمب.
وهو ما يثير قلق الطرف المصري باستمرار حيث أصدرت وزارة الخارجية المصرية في 16 سبتمبر/ أيلول الجاري بيانًا وصفت فيه الأوضاع الإقليمية بأنها على “أعتاب مرحلة جديدة من الفوضى الشاملة”، مُحذّرة من “التهور والتمادي في الغطرسة” في إشارة إلى السلوك الإسرائيلي في غزة.
وقد سجّل الخطاب الرسمي المصري تحولًا لغويًا غير مسبوق. فخلال القمة العربية الاستثنائية في قطر، استخدم الرئيس عبد الفتاح السيسي مصطلح “العدو” في إشارته إلى “إسرائيل”، وهي مفردة لم تُستخدم في الخطاب الرئاسي المصري منذ عقود.
كما أشار محللون إلى أن تصاعد نفوذ الأحزاب اليمينية في “إسرائيل” والسياسات المعلنة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشأن قطاع غزة والضفة الغربية يضاعف من تعقيد المشهد.
فاستمرار العمليات العسكرية دون أفق سياسي واضح يثير مخاوف إقليمية، ليس فقط في مصر وإنما لدى أطراف عدة في المنطقة، من أن تتسع دائرة الصراع أو أن تحدث استفزازات غير مقصودة على حدود حساسة كالحدود المصرية الإسرائيلية.
هل تغيّرت الرؤية الإسرائيلية للعلاقة مع مصر؟
في 13 سبتمبر/أيلول 2025، نقل الصحفي الإسرائيلي جاكي خوري في صحيفة “هآرتس” عن مصادر عسكرية أن مصر تتحرك نحو “إعادة صياغة” علاقتها مع “إسرائيل”، وأنها تراجع مستقبل القنوات الأمنية بين الجانبين بشكل دقيق. هذه المعلومات جاءت بعد تقارير متواترة في الإعلام المصري تشير إلى خفض مستوى التنسيق الأمني، مما فتح الباب لتكهنات حول تغيّرات هيكلية محتملة في طبيعة العلاقة بين القاهرة وتل أبيب.
غير أن مؤشرات أخرى في الخطاب الإسرائيلي توحي بأن العلاقات تمر بمرحلة تآكل تدريجي في الثقة، وهو ما عبّرت عنه صحيفة “جيروزاليم بوست” التي وصفت العلاقات بين البلدين بأنها دخلت “مرحلة تدهور متسارعة” خلال الأشهر الماضية.
واحدة من أبرز اللحظات التي ساهمت في تصعيد هذا التوتر كانت حين عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مؤتمر رسمي، خريطة تضم ما وصفها بـ”إسرائيل الكبرى”، وتضمنت أجزاءً من شبه جزيرة سيناء. هذا العرض أثار في مصر موجة استياء علني، واعتُبر بمثابة استفزاز مباشر يمس السيادة الوطنية ويخرج عن الأطر التي حددتها اتفاقية كامب ديفيد.
كما أبدت “إسرائيل” توجسًا واضحًا من قيام مصر بنشر قوات عسكرية إضافية في مناطق من سيناء المحاذية للحدود، وهو إجراء تم ضمن ترتيبات داخلية مصرية، لكنه قوبل بقراءة سلبية من الجانب الإسرائيلي. صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية نقلت أن هذه الخطوة أثارت قلقًا في تل أبيب، بينما أفاد موقع أكسيوس الأمريكي بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التدخل للضغط على مصر من أجل إنهاء هذا الانتشار، باعتباره “تصعيدًا غير مبرر”.
وفي سياق متصل، أشارت وكالة رويترز إلى أن الضربة الجوية الإسرائيلية على الدوحة في 9 سبتمبر/ أيلول، تسببت في ارتدادات إقليمية، ليس فقط على علاقة “إسرائيل” بقطر، بل أيضًا على علاقاتها مع دول عربية أخرى كانت قد وقعت اتفاقيات تطبيع معها في السنوات الأخيرة.
الحدث الذي نُظر إليه كعامل ضغط جديد على الأطراف العربية الحليفة للولايات المتحدة، بينها مصر، التي تسعى إلى الحفاظ على توازن دقيق بين علاقاتها الإقليمية ومواقفها الوطنية.
تطور آخر ألقى بظلاله على العلاقة بين القاهرة وتل أبيب تمثل في ما دار خلال لقاء نتنياهو مع وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في القدس، الإثنين 22 سبتمبر/ أيلول الجاري. خلال الاجتماع، قدّم نتنياهو للجانب الأمريكي قائمة بأنشطة وصفها بأنها “انتهاكات مصرية جوهرية” لاتفاقية السلام، تتعلق بتحركات في سيناء لا تتوافق – بحسب الرواية الإسرائيلية – مع الملحق العسكري للاتفاقية.
في المقابل، نفى مسؤول مصري هذه المزاعم، مشيرًا إلى أن الجانب الأمريكي، ممثلًا بإدارة الرئيس ترامب، لم يثر هذه القضايا في اجتماعاته السابقة مع القاهرة.
هل يسعى اليمين الإسرائيلي إلى افتعال أزمة مع مصر؟
منذ بدء التحركات العسكرية المصرية على الحدود الشرقية في شبه جزيرة سيناء، تصاعدت في وسائل الإعلام الإسرائيلية اليمينية موجة من التقارير التي تروّج لاحتمالية اندلاع مواجهة عسكرية بين القاهرة وتل أبيب. هذا التصعيد في الخطاب الإعلامي، رغم أنه لا يعكس بالضرورة موقفًا رسميًا للحكومة الإسرائيلية، إلا أنه يحمل دلالات على مزاج سياسي آخذ في التشكّل داخل أوساط يمينية ترى في تحركات مصر الأخيرة مصدر تهديد مباشر أو محتمل.
موقع الصوت اليهودي، المعروف بقربه من الأوساط الدينية القومية واليمينية المتطرفة، نشر تقريرًا للمراسل عميحاي شيلو تساءل فيه صراحة: “هل نحن على شفا حرب مع مصر، رغم حديث الجميع عن عدم رغبتهما في خوضها؟”. استند التقرير إلى ملاحظات ميدانية حول ما وصفه بـ”تزايد حجم القوات المصرية في سيناء” وتكرار الإشارات العلنية من مسؤولين مصريين بشأن الاستعدادات الجارية في المنطقة. ورغم إقراره بأن “خريطة مصالح مصر لا تشمل الحرب مع إسرائيل”، أشار التقرير إلى صعوبة تجاهل حجم التحشيد المصري في المناطق الحدودية.
أيضًا قال إيريز فينر، وهو مسؤول سابق في هيئة التخطيط العملياتي في الجيش الإسرائيلي، في مقابلة مع القناة 12 إن “على إسرائيل استخدام أدوات ضغط متاحة لتقليص انتشار القوات المصرية في سيناء”، محذرًا من أن “الشر قد يتطور من الجنوب”.
وفي سياق مشابه، نقل أريئيل كهانا، محرر الشؤون السياسية في صحيفة “إسرائيل اليوم”، عن مسؤولين أمنيين زعموا أن الجيش المصري يعمل على إنشاء بنية تحتية يمكن توظيفها لأغراض هجومية في مناطق يُفترض أن يُسمح له فيها فقط بحمل أسلحة خفيفة، وفقًا للملحق العسكري لاتفاقية السلام. هؤلاء المسؤولون وصفوا هذا التطور بأنه “مقلق جدًا”، واعتبروا ما يجري في سيناء “خطيرًا للغاية”، بحسب تعبيراتهم.
وفي تحليل نشره على منصة إيبوتش، ذهب يوني بن مناحيم – ضابط الاستخبارات العسكرية السابق والمحلل في قضايا الشرق الأوسط – إلى أن مصر انتقلت فعليًا إلى مرحلة “حرب باردة” مع “إسرائيل”، وليست في حالة “سلام بارد” كما كان يُقال سابقًا. واستدل على ذلك بعدة مؤشرات، منها تراجع الاتصالات السياسية، وخفض مصر لمستوى العلاقات الدبلوماسية عقب الغارة الإسرائيلية على قطر في 9 سبتمبر، حيث باتت العلاقة تقتصر عمليًا على التنسيق المحدود لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
يشير مناحيم أيضًا إلى أن انقطاع الاتصالات بين القاهرة وتل أبيب دفع الولايات المتحدة إلى التدخل، من خلال إعادة تشغيل قنوات غير مباشرة لتبادل معلومات أساسية، كانت تُدار سابقًا عبر التنسيق الثنائي. ويعتبر هذا التطور من وجهة نظره علامة على أن القاهرة لم تعد تعتبر نفسها ملزمة بالشكل التقليدي من العلاقة الأمنية مع “إسرائيل”، وهو ما يثير قلقًا متزايدًا داخل المستوى السياسي الإسرائيلي، خاصة في أوساط اليمين.
في ضوء المعطيات المتاحة، يبدو أن العلاقة بين مصر و”إسرائيل” تمر بمرحلة غير مسبوقة من التوتر الصامت، تتقاطع فيها التحركات الميدانية مع تحولات سياسية وإعلامية على جانبي الحدود. وبينما تواصل القاهرة ضبط خطابها الرسمي وتجنّب التصعيد العلني، يزداد في المقابل حضور خطاب يميني إسرائيلي يتعامل مع مصر بوصفها خصمًا محتملاً لا شريكًا استراتيجيًا.