كيف تؤثر فيضانات السودان على الأمن الغذائي؟

يقف سلمان عبد الحكم والحسرة تكتسي ملامحه أمام مزرعته في قرية مينا، قرب مدينة سنجة جنوب شرق السودان، دون أن يملك القدرة على وقف تدفق مياه الفيضان التي بدأت تُدمِّر ما زرعه بعد أن اجتازت الحاجز الترابي الذي شيده مع أولاده.
يقول عبد الحكم إنه، مثل بقية المزارعين في السودان، لا توفر لهم السلطات المعلومات المناخية بشكل مبكر لاتخاذ تدابير تحول دون تدمير المحاصيل المزروعة، حيث يعتمدون على عامل الخبرة الذي يفيد بأن منسوب النيل الأزرق يرتفع من أغسطس/آب إلى منتصف سبتمبر/أيلول من كل عام.
ويُوضح، لـ”نون بوست”، أنه زرع الخضروات وشتول الموز في منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أن تيقن من عدم ارتفاع منسوب النيل الأزرق، لكنه سرعان ما تفاجأ بزيادة معدل المياه إلى أن بدأت تغمر بعض زراعته. كما لم يُخفِ خشيته من أن تغمر المياه أشجار فواكه المانجو والجوافة.
اكتر من ١٠ ساعات ولسه الناس ما وقفوا الوضوع الحمدلله احسن من اول لكن لسه ما امان وفي تهديد، والله يا جماعة قاعدين نعافر بحاجات بدائية pic.twitter.com/BjIOGV0rTo
— الاء FreePalestine# (@Alaakhlaf) October 1, 2025
التغييرات المناخية
لم تنفذ السلطات الحكومية، في فيضان هذا العام، إجراءات احترازية على نطاق واسع على خلاف ما درجت عليه العادة كل عام، باستثناء تدخلات بسيطة من الدفاع المدني اقتصرت على الخرطوم فقط، رغم أن تأثير مناسيب الأنهُر وصل مرحلة الفيضانات في 6 ولايات وفقًا لوزارة الزراعة والري.
وفي السابق، كان الدفاع المدني، بدعم واسع من الحكومة، يقوم بوضع حواجز ترابية في المناطق المنخفضة ويكون على استعداد للمساعدة في إجلاء السكان مع تركيز التحذيرات عبر وسائل الإعلام، لكن هذه المرة لم يفعل شيئًا يُذكر أمام كارثة تتمدد يومًا بعد الآخر.
تتحدث وزارة الزراعة والري عن انخفاض المياه الواردة من إثيوبيا من 750 مليون متر مكعب إلى 382 مليون متر مكعب، مما أدى إلى انحسار مناسيب النيل الأزرق من مدينة الروصيرص جنوبي البلاد إلى الخرطوم مع ارتفاع المناسيب من الخرطوم إلى كجبار شمالي السودان.
وأوضحت، في بيان صدر الأربعاء 1 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أن الفيضان يتركز في ولايات الخرطوم ونهر النيل والنيل الأبيض، وذلك بعد يوم واحد من تفسيرها بأن الفيضانات سببها حدوث تغيير في نمط هطول الأمطار حيث تأخر موسم الخريف ليمتد إلى نهاية أكتوبر/تشرين الأول.
وأشارت إلى كميات الأمطار المتوقع هطولها على الهضبة الإثيوبية، وهي مصدر النيل الأزرق الذي يمد نهر النيل بـ 80% من موارده المائية، تجاوزت المعدل الطبيعي، كما يشهد النيل الأبيض، الذي منبعه بحيرة فكتوريا، زيادة في إيراد المياه بحوالي 60 إلى 100% منذ 2020، مرجعة هذه الزيادات إلى التغييرات المناخية.
أعلنت منظمة الهجرة الدولية، نزوح 4250 شخصًا وتدمير 550 منزلًا بعد فيضانات وأمطار غزيرة اجتاحت قرية “ميجر 6” بمحافظة أم القرى شرقي ولاية الجزيرة وسط السودان. pic.twitter.com/y4Pb7fV2rc
— نون بوست (@NoonPost) September 15, 2025
وقالت الوزارة إن الزيادات في وارد المياه تزامنت مع امتلاء بحيرة سد النهضة الإثيوبي منذ 10 سبتمبر/أيلول 2025، مما أدى إلى اجتماع مياه موسم الفيضان مع تصريف السد حيث وصلت أقصى قيمة تصريف إلى 750 مليون متر مكعب في اليوم.
ويصر البعض على أن الفيضانات سببها سد النهضة، وربما هذا ما دفع رئيس الوزراء كامل إدريس إلى إعلان عزمه إجراء مراجعات تفصيلية للسد مع إثيوبيا ومصر لتفادي أي كوارث في المستقبل، دون أن يوضح كيفية القيام بها، خاصة وأن السودان وقع اتفاقًا مع أديس أبابا في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
تأثير واسع
لا يزال نطاق تأثير الفيضانات الحالية والسيول التي حدثت في الشهرين السابقين على الأراضي الزراعية غير معروف، لكن يمكن التأكيد على أنه واسع حيث دمرت فيضانات العام السابق 4 ملايين فدان من المساحات المزروعة.
ويشير تقرير نشرته “الأناضول” إلى أن المياه غمرت مساحات واسعة من المزارع والأراضي الزراعية شمالي الخرطوم ونهر النيل والشمالية، إضافة إلى مناطق أخرى في النيل الأزرق وسنار والجزيرة.
وقال مسؤول في حكومة ولاية الجزيرة لـ “العربي الجديد”، إن مياه الفيضانات غمرت مساحات زراعية تزيد عن ثلاثة آلاف فدان في قرى ديم المشايخة وأم دلكة وقندال، بعضها قطاع بستاني والآخر يضم محاصيل موسمية.
ونقل الموقع عن المزارع عبد الله يعقوب وصفه لما حدث بأنه “كارثة”، حيث ضاعفت الفيضانات خسائر المزارعين الذين فقدوا مدخراتهم بسبب الحرب، مشيرًا إلى: “بالنسبة لنا ليست نشاطًا اقتصاديًا يُقيم بالربح والخسارة، وإنما هي مربط حياتنا الأسرية، ومصدر لقمة الخبز التي كنا نأمل أن نوفرها لأسرنا التي تكبدت معاناة النزوح لأكثر من عامين، لكن الفيضانات دمرت كل آمالنا”.
وتوقع يعقوب أن يواجه سكان القرى الذين فقدوا مزارعهم نقصًا حادًا في الحبوب التي يعتمدون عليها بصورة أساسية، مع إحجام السلطات عن التدخل رغم الأضرار الكبيرة.
إذًا، الفيضانات ألحقت أضرارًا واسعة بقطاع الزراعة والرعي الذي يعمل فيه حوالي 80% من القوة العاملة في البلاد، حيث يُساهم هذا القطاع بنسبة 31.8% من إجمالي الناتج المحلي الذي بلغ 34.3 مليار دولار في نهاية عام 2021، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، لكن هذا الرقم تراجع كثيرًا بسبب النزاع الذي دمر معظم قطاعات الإنتاج.
أضرار لاحقة
إن الفيضانات، التي كانت عصب الحياة بالنسبة إلى المزارعين الذين يعتمدون على الزراعة في موسم الشتاء، حيث يبدؤون في إصلاح الأراضي في منتصف سبتمبر/أيلول تمهيدًا لزراعتها خاصة في شمال السودان، لكن هذه المرة أتت الفيضانات متأخرة مما يضع الموسم على المحك.
يقول المزارع طلال الحسن لـ “نون بوست” إنه يعتمد على الزراعة الفيضية “مثل معظم سكان قرية الفاضلاب قرب مدينة عطبرة شمالي السودان، حيث نزرع البصل والثوم والكزبرة وغيرها، لكننا هذا العام نحتاج إلى شهر على الأقل بعد انحسار الفيضان لتجف الأرض، وهذا يعني أننا لن نزرع لأن فصل الشتاء اقترب”.
ويشير إلى أن سكان شمال السودان يعتمدون على زراعة البصل والبهارات وحصاد التمور على مواعيد ثابتة والآن تغيرت، دون أن تُقدم الحكومات المحلية أي حلول تؤمن الأمن الغذائي للمواطنين بعد التأكد من استحالة الزراعة بعد شهر من الآن.
ويعتمد معظم المزارعين السودانيين، سواء الذين يعتمدون على الزراعة على ضفاف الأنهُر أو على الأمطار، على القروض قصيرة الأمد من التجار بضمان شيكات مصرفية واجبة السداد أو من البنوك التجارية برهن الأرض أو المنازل، حيث إن عدم السداد يعني الزج بك في السجن أو بيع ما رهنته في مزاد علني.
يقول عبد الحكم إنه استدان من تاجر قيمة بذور الخضروات والسماد والوقود من تاجر لن يمهله طويلًا، دون أن يستطيع سدادها.
تُعد فيضانات هذا العام قاصمة لقطاع الزراعة، خاصة بعد تراجع إنتاج 89% من مزارعي دارفور وكردفان بسبب استمرار المعارك وانهيار سلاسل إمداد البذور والأسمدة والوقود والآليات، فيما من استطاع الزراعة في ظل انعدام الأمن واجه ضعف هطول الأمطار في بداية الموسم.
إن تراجع إنتاج الحبوب، التي تبلغ حاجة السودان لها 7.7 مليون طن، يتطلب تغطية الفجوة من الاستيراد مما يعني أن أسعارها ستظل مرتفعة دون أن يملك معظم السودانيين القدرة على شرائها نظرًا إلى الدمار الذي لحق بسبل العيش وتدهور قيمة العملة المحلية.
لا يمكن الاعتماد على الإغاثة
تُشكل الفيضانات، إضافة إلى استمرار الحرب، تهديدًا خطيرًا للأمن الغذائي يتفاقم في غياب تدخل رسمي يُعيد الأوضاع إلى نصابها عبر حلول مبتكرة في بلاد يحتاج فيها 30.4 مليون شخص ــ 64% من السكان ــ إلى مساعدات إنسانية هذا العام.
يواجه نحو 24.6 مليون شخص في السودان أزمة غذائية حادة بينهم 2 مليون على حافة المجاعة و700 ألف طفل مهددون بسوء تغذية حاد فيما سُجلت أكثر من 105 آلاف إصابة بالكوليرا والقرّابة و2,600 وفاة حتى سبتمبر وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. pic.twitter.com/hcfoJ56KLQ
— نون بوست (@NoonPost) September 12, 2025
وخططت الأمم المتحدة هذا العام لمساعدة قرابة 21 مليون سوداني، قبل أن تُقلص العدد إلى 17.3 مليون شخص جراء نقص التمويل، حيث تلقت خطة الاستجابة 1.05 مليار دولار بنسبة 25.2% من إجمالي 4.2 مليار دولار تحتاجها، وفقًا لآخر تحديث صادر من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية.
وبينما تُكافح المنظمات الإنسانية للحصول على تمويل لإغاثة المتضررين من الحرب رغم قيود الوصول التي يفرضها أطرافها، تأتي أزمة الفيضانات لتُضيف عبئًا جديدًا قد لا تستطيع التخفيف منه، مما يترك ملايين الأشخاص دون غذاء.
تحتاج الحكومة إلى تحرك فوري لإعادة تأهيل الأراضي المتضررة ودعم المزارعين بالبذور والأسمدة وتوفير تمويل لعمليات الفلاحة، لمنع انهيار القطاع الزراعي ولتلافي أزمة جوع جديدة قد تترك آثارًا سيئة تمتد لسنوات طويلة.