“كنا مجرد حيوانات”: شهادات تكشف الانتهاكات الجسيمة في صيدنايا

ترجمة وتحرير: نون بوست
لا تزال روائح العرق والدم الكريهة تلتصق بجدران سجن صيدنايا بعد أشهر من تحريره على يد قوات المعارضة.
تُلطّخ بقع الدم أرضية السجن، وما زال الموت يفوح من أحد أسوأ معتقلات سوريا، الذي كان يُلقب بـ”مسلخ بشار الأسد البشري”.
عمر البدوي، الرجل الأربعيني وأحد الناجين من المعتقل، يشعل سيجارة ويتجه نحو الزنزانة المظلمة التي احتُجز فيها لأربع سنوات. يروي كيف كان الحراس يبولون في أفواه السجناء عندما كانوا يطلبون الماء، ويجبرون المعتقلين الجائعين على أكل الصراصير من خلال فتحة في باب الزنزانة.
يقول البدوي: “كنّا بالنسبة إليهم مجرد حيوانات”.
اعتُقل عام 2018 عند أحد الحواجز عندما كان يهرّب أدوية إلى منطقة تحت سيطرة المعارضة، وأُفرج عنه بعد أربع سنوات، نحيفًا ومثقلًا بالصدمات النفسية.
في حمام ضيق بنهاية الممر، يصف الانتهاكات الجنسية التي كانت تحدث هناك بشكل روتيني. سجناء نِحاف عراة يُجبرون على ممارسة أفعال جنسية أمام أنظار الحراس الذين يضحكون بهستيريا. غالبًا، لم يكن المعتقلون قادرين على الاستحمام بسبب انقطاع المياه، وكانت الحمامات مكانا للتعذيب والإذلال.
ليس من المستغرب أنه عندما خرج من سجن صيدنايا كان يعاني من اكتئاب شديد. يقول: “لم يكن لدي شيء، ولا رغبة في الحياة… كنت أريد الموت”. كما يعاني من آلام مبرحة في الظهر، نتيجة سنوات من الضرب والتعذيب.
في الليل، كان يتلوّى من الألم على فراشه، وفي النهار كان يخشى الخروج، غير قادر على تحمل الزحام أو ضوء الشمس.
خرج نحو 24,000 سجين من مراكز الاعتقال السورية الملطخة بالدماء في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. حرّرت قوات المعارضة التي اجتاحت البلاد وأطاحت بالنظام بعد أربعة وعشرين عامًا من الحكم العنيف والقمعي، آلاف الأشخاص الذين ظلوا محتجزين ويتعرضون للتعذيب على مدى سنوات.
يعاني جميع المعتقلين السابقين تقريبًا من حالات صحية خطيرة، جسدية ونفسية على حد سواء. يعاني كثيرون من تلف في الفقرات، وعظام لم تلتئم بشكل صحيح، وأسنان متعفنة، وفكوك مكسورة نتيجة الضرب، بينما ينتشر مرض السل. الاكتئاب والقلق أصبحا شائعين أيضًا.
تقول الدكتورة ماسة المعري، طبيبة نفسية تبلغ من العمر 29 عامًا: “معظم المعتقلين السابقين لا يحبون الخروج. الضوضاء، الناس، الضوء… كل شيء يفوق طاقتهم”.
أسست الدكتورة المعري منظمة “سيلا”، التي تقدّم رعاية صحية مجانية للمعتقلين السابقين. أحد مرضاها، سجين سابق في صيدنايا، عانى من التعذيب إلى درجة أنه لم يعد يعرف نفسه في المرآة.
توضح المعري: “تنفصل عن الواقع، ويحدث هذا عندما تواجه صدمة لا تستطيع التعامل معها”.
تحاول منظمة “سيلا”، التي ساعدت حتى الآن نحو مئتي سجين سابق، سد فجوة ضخمة جدًا. وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد اختفى 112,444 شخصًا داخل شبكة اعتقالات النظام بين 2011 و2024. وبينما يحتاج المحررون حديثًا إلى مساعدة عاجلة، يكافح العديد من الناجين من السنوات السابقة في بلد دُمّر نظامه الصحي بفعل الحرب.
بعض السجناء كانوا مقاتلين في صفوف المعارضة، بينما كان معظمهم مدنيين وقعوا في المكان الخطأ والزمان الخطأ. أُلقي بالناس في صيدنايا بسبب “جرائم” تافهة، مثل رسالة على واتساب، أو ارتداء أربطة حذاء خضراء اعتُبرت علامة دعم للمعارضة.
اندلعت الحرب الأهلية السورية على خلفية احتجاجات انتشرت في البلاد خلال الربيع العربي. حاول الأسد الحفاظ على السلطة، ومارس على شعبه عنفا مروعا. اختطفت قواته المدعومة من روسيا وإيران وذبحت أكثر من 200,000 سوري، فيما قُتل أكثر من ألف شخص بغاز السارين السام داخل بيوتهم.
في يوم تحرير صيدنايا، شاهدت الدكتورة المعري مقاطع على وسائل التواصل الاجتماعي لسجناء بأجساد نحيلة يتعثرون خارج البوابات. كانت ترغب بتقديم المساعدة، فقررت إنشاء عيادة للصحة النفسية، لكنها سرعان ما أدركت أن السجناء كانوا ضعفاء جدًا أو مرضى، وأن حياتهم معرضة للخطر إذا لم تُلبَّ احتياجاتهم الجسدية أولًا.
تقول: “عندما يعاني الناس من آلام مبرحة ولا يستطيعون الرؤية أو الأكل، فلا يمكنك سؤالهم عن الكوابيس”. اليوم توفر “سيلا” العلاج النفسي بالتوازي مع الدعم الطبي.
في منزله المدمر في الغوطة، المنطقة التي كانت تحت سيطرة المعارضة على أطراف دمشق، يرفع عمار دغمش، 34 عامًا، صورة أشعة لرئتيه المتضررتين نحو الضوء، لتكشف عن مشاكل في الرئة ناجمة عن السل الشديد.
اعتُقل عمار عند أحد الحواجز عام 2018، بعد ثلاث سنوات من انشقاقه عن الجيش لرفضه إطلاق النار على المتظاهرين. خرج في ديسمبر/ كانون الأول عندما اقتحم المقاتلون صيدنايا عند الفجر، وفتحوا أبواب الزنازين وهم يهللون: “الله أكبر”.
يتذكر عمار ما سمعه من أحد المسلحين في تلك اللحظة: “اذهب إلى المنزل، لقد سقط النظام”.
حافي القدمين ونحيفًا إلى حدّ الهزال، ركض لساعات ليصل إلى منزله، ليجده مدمّرا بسبب القصف. أخبره الجيران أن والديه فرّا إلى مصر.
الآن، ينام دغمش في منزله شبه المهجور، ويعاني من السل، ومن آلام مزمنة في الظهر، وقلق شديد، واضطراب ما بعد الصدمة.
أثناء تحضير القهوة في منزله المتداعي للسقوط، يرتعد دغمس عند سماع أصوات الطيور. يقول إنه لم يرَ الشمس في السجن، وكان صوت الطيور إعلانا عن قدوم يوم جديد، ومعه يبدأ التعذيب.
يتذكر قائلا: “الأربعاء والخميس والجمعة كانت أيام التعذيب الرئيسية. وأي عيد أو مناسبة كان يعني أننا سنتعرض للتعذيب أيضًا”.
كان الحراس يضعونه داخل إطار سيارة ويضربونه بأنابيب بلاستيكية، وأحيانًا يعلقونه مقلوبًا في خزان ماء ويصعقون قدميه بالكهرباء.
اكتشف أحد الأطباء المتطوعين منظمة “سيلا” أنه مصاب بالسل، وأحاله إلى منظمة الصحة العالمية، التي تزوده الآن بالأدوية اللازمة لمكافحة المرض.
يُعد دغمش محظوظًا مقارنة بمعظم الناجين من سجون الأسد.
بعد ثلاثة عشر عامًا من الحرب، والعقوبات القاسية، والغارات الجوية التي كانت تستهدف أي مستشفى يُعتقد أنه يعالج المعارضين، أصبح النظام الصحي في سوريا في حالة يرثى لها. أقل من نصف مستشفيات البلاد ما زالت تعمل بكامل طاقتها.
لم تقتصر الصعوبات على العقوبات الأمريكية والأوروبية التي أعاقت استيراد المعدات الطبية، بل أيضا سرقة جنود الأسد للمستشفيات ونهب كل ما له قيمة.
كانت الرعاية الصحية مجانية في السابق، وقد أدى نقص الموارد الطبية إلى ارتفاع تكاليف العلاج بشكل يفوق قدرة غالبية الشعب السوري. يُضطر المرضى للعثور على المعدات الطبية واستئجارها قبل إجراء العمليات الجراحية، ودفع أسعار باهظة للحصول على الأدوية الأساسية. معظم المعتقلين السابقين لا يستطيعون تحمل هذه التكاليف.
الأسوأ من كل شيء، أن نحو 70 بالمئة من العاملين في المجال الطبي فروا من سوريا خلال الحرب، وفقًا للصليب الأحمر. غادر كثير من الأطباء الذكور البلاد لتجنب التجنيد في جيش الأسد، مما ترك البلاد التي يبلغ عدد سكانها 25 مليون نسبة تعاني من ندرة في الخبرات الطبية.
يظهر هذا النقص جليًا في مستشفى كفر بطنا العام بالغوطة الشرقية. الفريق الطبي عبارة عن مجموعة غير متجانسة من المتطوعين ذوي النوايا الحسنة، معظمهم اكتسب مهارات طبية أساسية عبر العمل مع طبيب أو متدرب آخر.
يدخل مسعف يرتدي ملابس خضراء إلى العيادة ويخلع قفازاته، ويعترف مدير المستشفى، أحمد الطحان، بأن الرجل يعمل في الأصل نجارا. يقول الطحان إن أيًا من العاملين لم يحصل على تدريب رسمي، وهم جميعًا يحاولون المساعدة قدر استطاعتهم.
أفضل مسعف في المستشفى كهربائي، بينما تطوع صائغ فضة للعمل كممرض.
رغم صعوبة الوضع، يقول الطحان إنه مصمم على إبقاء المستشفى مفتوحا. هذه المنطقة المنكوبة بحاجة ماسّة إلى مستشفى، ومن المفترض أن يخدم مستشفى كفر بطنا نحو خمسة ملايين نسمة.
يضيف الطحان وهو يسير إلى قسم الأطفال المليء بالأنقاض، حيث تزين صورة باهتة لطائر تويتي الجدار: “ما تبقى هو ما لم يسرقه النظام”.
لم يترك جنود الأسد الكثير. لدى مستشفى كفر بطنا جهاز مسح بالموجات فوق الصوتية واحد، وآخر للأشعة السينية يشتغل بشكل متقطع.
مع نظام صحي مدمر وقلة وعي عام بالصحة النفسية، ليس من المستغرب أن يظل آلاف المعتقلين السابقين محبوسين في منازلهم، يحاولون إعادة التواصل مع العالم الخارجي.
تقول أليساندرا لينر، معالجة نفسية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر: “بينما يتمتع الناس بالحرية أخيرًا، يعاني كثيرون من الكوابيس ولا يستطيعون أن يعيشوا بشكل طبيعي. يحتاج العديد منهم إلى المساعدة لاستئناف حياتهم مرة أخرى”.
وتشير الدكتورة لينر، التي افتتحت منظمتها خطًا ساخنًا للمعتقلين السابقين، إلى أن “الألم المزمن، والاكتئاب، وفقدان الأمل وصعوبات الاندماج” هي مشاكل منتشرة بكثير.
يضيف عمر البدوي أن أكثر ما كان صادمًا في صيدنايا هو عدم معرفة موعد إعدامه المحتمل.
أثناء تجولنا في أروقة السجن الكئيبة، توقف عند عمودين صدئين. يقول: “كانت هذه للتعليق. كل أسبوع، يُسحب السجناء من الزنازين عشوائيًا، يُجوعون لأيام، ثم يُعدَمون في الفناء”.
وفقًا لمنظمة العفو الدولية، كان يُقتل عادة ما بين 20 إلى 50 شخصًا في كل مرة. وكان السجناء الآخرون يستمعون إلى صوت سحب الصناديق من تحتهم، يتبع ذلك صوت أنفاس متقطعة.
يعمل البدوي اليوم متطوعًا في جمعية المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا، لمساعدة العائلات في البحث عن سجلات أحبائهم الذين لم يعودوا. كما تربط الجمعية المعتقلين السابقين بمنظمات غير حكومية مثل “سيلا” لتوفير الرعاية الصحية.
لا يزال البدوي يسعى لإعادة بناء حياته، ويحصل على دعم مالي من صديق سوري في فرنسا يساعده على دفع تكاليف المسكن والدواء وجلسات العلاج النفسي. كما يمنحه عمله شعورًا بأن له هدفا ورسالة.
لكن معظم المعتقلين السابقين في سوريا ما زالوا يعيشون وضعا صعبا. بالرغم من تحررهم من الزنازين، يعاني كثيرون من آلام وصدمات شديدة في ظل نظام صحي متهالك لا يمكنه مساعدتهم. وفي غياب الأطباء، يتولى المتطوعون والجيران والأصدقاء تقديم الدعم.
بعد وقت قصير من مغادرة صحيفة “التليغراف” دمشق، أرسل البدوي رسالة يقول فيها: “أود أن أشكركم على نقل مأساة شعبنا وقلقه وآلامه إلى العالم أجمع”، قبل أن يعود إلى نبرته المتمردة المعتادة: “لم يستطع الأسد وعصابته النيل من إرادتنا، نريد أن نعيش”.
المصدر: تلغراف