تركيا تجمد أصول شخصيات ومؤسسات إيرانية: من هم ولماذا؟

في خطوة لافتة تحمل أبعادًا سياسية واقتصادية وأمنية، أعلنت الحكومة التركية تجميد أصول وأرصدة عشرات الشخصيات والمؤسسات الإيرانية على أراضيها، وذلك بموجب مرسوم رئاسي صدر عن الرئيس رجب طيب أردوغان. القرار، الذي طاول 20 شخصية و18 كيانًا إيرانيًا، جاء في إطار استجابة أنقرة لآلية العقوبات الدولية المعروفة باسم “آلية الزناد” (Snapback)، وهي آلية أعيد تفعيلها مؤخرًا ضد إيران نتيجة استمرارها في تطوير برنامجها النووي وتجاوزها للقيود المفروضة عليه.
اللافت في هذا التطور أنه يعكس تحوّلًا في موقف تركيا، التي لطالما تبنّت سياسة متوازنة حيال الصراع الغربي مع طهران. لكنّ انخراطها هذه المرة في عقوبات تتقاطع مع سياسات واشنطن والعواصم الأوروبية يشير إلى تنسيق أوسع، وربما إلى رسائل تركية موجّهة لطهران في سياقات إقليمية متشابكة، منها ما هو مرتبط بالتوازنات في سوريا والعراق، ومنها ما يرتبط بالملف النووي والتهديدات المتصاعدة للأمن الإقليمي.
قائمة الكيانات المشمولة
في الأول من أكتوبر الماضي، أعلنت الحكومة التركية رسميًا تجميد أصول وأرصدة 20 شخصية و18 مؤسسة إيرانية، في قرار وُصف بأنه غير مسبوق من حيث توقيته ومداه، ويعكس انخراط أنقرة بشكل فعلي في منظومة العقوبات الدولية المفروضة على إيران. وقد صدر القرار بموجب مرسوم رئاسي وقّعه الرئيس رجب طيب أردوغان، وحدّد الكيانات والأفراد الذين شملهم التجميد، باعتبارهم مشاركين مباشرين أو غير مباشرين في تطوير البرنامج النووي الإيراني، أو في تقديم الدعم التقني واللوجستي له.
وشملت القائمة مؤسسات محورية في البنية التحتية النووية الإيرانية، إلى جانب شركات تعمل في مجالات الطاقة والنقل البحري، ما يعطي دلالة واضحة على أن أنقرة استهدفت شبكات التوريد والتمويل التي يعتمد عليها البرنامج النووي الإيراني للاستمرار والتوسع.
على رأس هذه الكيانات جاءت:
- منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة وتطوير البرنامج النووي برمّته.
- بنك سبه وبنك سبه الدولي، اللذان يُعدّان من أبرز المؤسسات المصرفية المتهمة بتمويل صفقات متعلقة بالتكنولوجيا النووية.
- مركز أصفهان لأبحاث وإنتاج الوقود النووي، ومركز أصفهان للتكنولوجيا النووية، وهما من المرافق العلمية المتقدمة في تخصيب اليورانيوم وتطوير أنظمة الطرد المركزي.
- مركز كرج للأبحاث النووية ومركز الأبحاث النووية الزراعية والطبية، اللذان يتبعان لمنظومة البحث النووي ذي الاستخدام المزدوج، المدني والعسكري.
- شركات لوجستية وصناعية مهمة، من بينها: شركة الملاحة البحرية إيران–الهند، شركة الطاقة نوين، شركة بارس تراش، شركة جابر بن حيان، شركة صناعات الطاقة بيشغام، وشركة خطوط الملاحة البحرية بجنوب إيران، التي تؤدي دورًا في نقل المواد والمعدات المرتبطة بالنشاط النووي الإيراني، أو يُشتبه في استخدامها كواجهات تجارية.
أما على مستوى الأفراد، فقد استهدف المرسوم شخصيات ذات خلفيات فنية وإدارية في القطاع النووي، ويُعتقد أنهم ضالعون في إدارة أو دعم الأنشطة المحظورة. من بين هؤلاء:
- بهمن عسكرپور ومحمد فدائي آشياني، وكلاهما ورد اسمه في تقارير دولية تتعلق بالإشراف على منشآت تخصيب اليورانيوم.
- عباس رضائي آشتیاني وهاله بختيار، المعروفان بصلتهما بمراكز الأبحاث النووية المدنية ذات الاستخدام المزدوج.
- مرتضى بهزاد وحسين حسيني، ممن يُعتقد أنهم يعملون في شبكات شراء وتوريد تكنولوجيا حساسة تحت غطاء مدني.
تنسيق دولي لفرض العقوبات
جاء القرار التركي في سياق دولي متصاعد لإعادة فرض العقوبات على طهران بعد فشل الجهود الدبلوماسية في إعادة إيران إلى التزاماتها بموجب الاتفاق النووي لعام 2015. وفي مشهد يعكس تنسيقًا دوليًا واسع النطاق، أعلنت كل من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، إضافة إلى الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا)، تفعيل العقوبات الأممية من جديد، إلى جانب فرض حزمة جديدة من الإجراءات العقابية، استهدفت بشكل خاص برنامج إيران النووي والصاروخي.
تزامن ذلك مع إعلان مجلس الأمن الدولي، الأحد الماضي، إعادة تفعيل العقوبات الدولية بعد انقضاء مهلة الثلاثين يومًا التي منحتها القوى الأوروبية لطهران للعودة إلى التزاماتها النووية. وخلال هذه المهلة، كانت الأنظار تتجه نحو ما إذا كانت إيران ستقدّم تنازلات ملموسة، لكنها واصلت تصعيدها النووي، ما دفع الأطراف الغربية إلى تفعيل ما يُعرف بـ”آلية الزناد”، التي أعادت تلقائيًا العقوبات الأممية التي كانت قد رُفعت بموجب الاتفاق.
في هذا السياق، جاءت الخطوة التركية كمؤشر واضح على انخراط أنقرة في موجة العقوبات الجديدة، والتزامها بالتوجه الدولي الرامي إلى الضغط على إيران. فتركيا، التي احتفظت بعلاقات متوازنة مع طهران رغم الخلافات، اختارت في هذه المرحلة الاصطفاف مع الإجماع الغربي، في ما يبدو أنه تحوّل لافت في استراتيجيتها الإقليمية، وربما رسالة مزدوجة إلى كل من إيران والغرب في آنٍ واحد.
الرد الإيراني على هذا التنسيق لم يتأخر، وجاء على لسان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي وصف إعادة فرض العقوبات بأنها “خطوة غير مبررة”، مؤكّدًا رفض بلاده لأي قيود جديدة. وفي خطاب تصعيدي، قال بزشكيان إن إيران تواجه خيارين: “إما الاستسلام أو الصمود”، مؤكدًا أن بلاده اختارت طريق الصمود والاعتماد على قدراتها الذاتية، دون أن تغلق الباب تمامًا أمام الحوار، بشرط أن يكون “منطقيًا وعادلًا”، حسب تعبيره.
وفي لهجة مشابهة، انتقد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قرار الترويكا الأوروبية، معتبرًا أن تفعيل آلية الزناد “باطل قانونيًا وإجرائيًا”، مشيرًا في رسالة رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة أن جميع القيود المتعلقة بالاتفاق النووي يجب أن تنتهي تلقائيًا في منتصف أكتوبر المقبل، رافضًا أي محاولة لتمديدها أو إحيائها تحت أي مسمى.
ما هي “آلية الزناد” ضد إيران؟
تمثّل “آلية الزناد” أحد أبرز البنود القانونية والسياسية في الاتفاق النووي الإيراني، وهي بمثابة صمام أمان أدرجه المجتمع الدولي في متن قرار مجلس الأمن رقم 2231، الصادر عام 2015، بهدف ضمان التزام إيران ببنود خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) التي أُبرمت بين طهران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا (الترويكا الأوروبية)، وبموجبها وافقت إيران على تقييد برنامجها النووي مقابل رفع تدريجي للعقوبات المفروضة عليها.
لكن ما يجعل آلية الزناد فريدة وخطيرة في آن، هو أنها تمنح أي طرف موقّع على الاتفاق الحق في إعادة فرض العقوبات الأممية بشكل تلقائي، إذا ثبت أن إيران انتهكت التزاماتها بشكل جوهري. واللافت أن هذه الآلية تتجاوز حق النقض (الفيتو)، إذ لا يستطيع أي عضو في مجلس الأمن، بما في ذلك روسيا أو الصين، تعطيل إعادة فرض العقوبات بمجرد تفعيل المسار الإجرائي الخاص بها.
كيف تعمل؟
وفقًا للنص الوارد في القرار 2231، يمكن لأي طرف من أطراف الاتفاق النووي أن يُبلغ مجلس الأمن بأن إيران لم تفِ بالتزاماتها. وبموجب هذا الإخطار، تبدأ مهلة زمنية مدتها 30 يومًا يُفترض خلالها بحث الشكوى ومحاولة التوصل إلى تسوية. وإذا لم يتم الاتفاق على قرار جديد خلال هذه الفترة، تُعاد تلقائيًا جميع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران قبل توقيع الاتفاق، دون الحاجة إلى تصويت جديد في مجلس الأمن.
هذا البند، الذي رُوّج له في وقته كـ”ابتكار دبلوماسي كبير”، جاء لمنع طهران من اللعب على التوازنات الدولية داخل المجلس، ولضمان عدم تكرار المراوغات السياسية التي أحاطت بملفات نووية سابقة، كما حصل مع كوريا الشمالية.
لماذا فُعّلت الآن؟
في 28 أغسطس/ آب الماضي، أعلنت فرنسا وألمانيا وبريطانيا أنها قررت تفعيل آلية الزناد رسميًا، بعد إعداد قائمة مفصلة بالانتهاكات الإيرانية، شملت على وجه الخصوص تجاوز مخزون اليورانيوم المخصّب بأربعين مرة الحد المسموح به بموجب الاتفاق. كما أشارت إلى تطوير أجهزة طرد مركزي متقدمة، وتقييد وصول المفتشين الدوليين، وعدم الشفافية في مواقع نووية حساسة.
جاء هذا التصعيد في وقت تدهورت فيه العلاقة تمامًا بين إيران والدول الغربية، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 بقرار أحادي من الرئيس السابق دونالد ترامب، وما تلاه من ردود فعل إيرانية تمثّلت بالتخلي التدريجي عن الالتزامات النووية، وصولًا إلى وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الأزمة وصلت ذروتها بعد حرب الـ 12 يومًا في يونيو/ حزيران، والتي شنت خلالها “إسرائيل” ضربات استهدفت منشآت نووية إيرانية، بمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة. هذه الأحداث دفعت الترويكا الأوروبية إلى إعلان أن الاتفاق بات منتهيًا فعليًا، وأن لا مجال أمام التساهل مع استمرار الخروقات الإيرانية.
رغم تناغم الموقف الغربي وتصاعد الضغط الدولي على إيران، تبقى مواقف روسيا والصين من إعادة تفعيل آلية الزناد أحد أبرز عناصر التباين في المشهد الدولي. فقد رفض البلدان بشكل صريح إعادة فرض العقوبات الأممية، واعتبرا أن تفعيل الآلية خارج الإجماع الدولي يُعد سابقة خطيرة تهدد منظومة الاتفاقات متعددة الأطراف، وتؤكدان أن حل الأزمة يجب أن يتم عبر الحوار والعودة إلى الالتزامات الأصلية، لا من خلال إجراءات أحادية تُفرض تحت ضغط سياسي.
فيما يبدو أن العالم أمام انقسام واضح في كيفية التعاطي مع الملف النووي الإيراني، بين محور يقوده الغرب ويستخدم أدوات الضغط القصوى، وآخر يتبنى نهجًا أكثر مرونة قائمًا على التفاوض وعدم التصعيد. لكن الأكيد أن خطوة تركيا بتجميد أصول شخصيات ومؤسسات إيرانية تعكس مدى اتساع نطاق العزلة المفروضة على طهران، وتؤشر إلى مرحلة جديدة من المواجهة الدبلوماسية والاقتصادية.