تراجع نفوذ أيباك وإسرائيل في الكونغرس: رسالتان تكشفان حجم التغيير

ترجمة وتحرير: نون بوست

راجت قصة سيئة السمعة عن لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) تؤكّد نفوذها الممتد منذ عقود. في أواخر سنة 1992، خلال الفترة الانتقالية بين إدارة جورج بوش الأب والرئيس المنتخب بيل كلينتون، استقال رئيس أيباك ديفيد شتاينر بعد تسريب تسجيل له وهو يتفاخر بأنه ضغط على بوش لمنح إسرائيل مساعدات إضافية، وأن أيباك لديها العديد من الأشخاص “داخل” إدارة كلينتون القادمة.

كانت أيباك آنذاك أكثر التزامًا بالعمل في الظلال داخل واشنطن، لذا سأل الصحفي المؤيد لإسرائيل جيفري غولدبرغ مدير السياسات في أيباك ستيفن روزن عما إذا كان هذا سيضر بنفوذ أيباك في العاصمة، فابتسم روزن قائلًا: “هل ترى هذا المنديل؟ يمكننا في غضون 24 ساعة أن نجمع عليه توقيعات 70 عضوًا في مجلس الشيوخ”. كانت إجابةً روزن متعجرفة لكن ثقته كانت مبررة. لم تكن تباهيًا زائفًا، بل يقينًا نابعًا من سنوات عديدة من تجربة حقيقة لذلك الشعور.

في الواقع، بدا لفترة طويلة أن نفوذ أيباك محفور في حجارة درجات مبنى الكابيتول. لكن الزمن تغيّر أخيرًا، وقد شهدنا مثالاً صغيرًا على هذا التغيير الأسبوع الماضي عندما نشر النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا رو خانا رسالة كان قد وزعها يدعو فيها الرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو إلى الانضمام لغالبية دول العالم وحلفاء الولايات المتحدة في الاعتراف الرمزي بدولة فلسطين.

تبدو  هذه المسألة غير مهمة في ظل الإبادة الجماعية المستمرة في غزة وتصاعد العدوان الإسرائيلي في الضفة الغربية، حتى أن رسالة رو خانا لم تلقَ اهتمامًا يُذكر وسط انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة واستعراضات ترامب هذا الأسبوع حول دعوة أخرى محكوم عليها بالفشل لاستسلام فلسطيني متنكّر في زي خطة سلام.

مع ذلك، حصلت الرسالة على 47 توقيعًا، وهو عدد لا بأس به بالنظر إلى أنها دعت إلى تحول جذري في السياسة الأمريكية، وكذلك في سياسة الحزب الديمقراطي طويلة الأمد تجاه فلسطين. لكن الإنجاز الحقيقي هنا هو فشل “أيباك” في إظهار قدرتها على “جمع التوقيعات على ظهر المناديل” التي طالما تفاخرت بها.  رداً على رسالة خانا، وزّع النائب الديمقراطي عن ولاية ماساتشوستس جيك أوشينلوس رسالته الخاصة، وكانت لكل من الرسالة والدعم الذي حظيت به دلالات واضحة. كررت رسالة أوشينكلوس نقاط الحديث المعتادة لأيباك حول “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، وهو حق لا يُمنح للدول ضد أولئك الذين تحتلهم بشكل عدائي؛ وإبراء ذمة إسرائيل من “أزمة الجوع ومعاناة المدنيين في غزة”؛ والدعم غير المشروط لـ”حماية إسرائيل – أقوى حلفائنا – ومواءمة القيم الأمريكية مع الزخم الإقليمي…”.

بالنظر إلى أن رسالة أوشينلوس كانت تدعم جزئيًا بشكل خاص بيان جامعة الدول العربية الذي كان يهدف بوضوح إلى تهميش حماس ودفعها إلى الاستسلام، فقد كان ينبغي أن تحصل هذه الرسالة على دعم ديمقراطي ساحق، متفوقة على رسالة خانا لتظهر مرة أخرى أن دعم حقوق الفلسطينيين ما زال هامشيًا في أروقة سلطة الحزب الديمقراطي، بغض النظر عن الرأي العام. لكن الرسالة جمعت فقط 30 توقيعَا من بعض أكثر الأصوات المؤيدة لإسرائيل تطرفًا في الكتلة الديمقراطية في مجلس النواب على الرغم من أنها كانت مدعومة بقوة من أيباك والعديد من الجماعات المؤيدة لإسرائيل، وتم تداولها لمدة أسبوع بعد بدء انتشار رسالة خانا. ومن التطورات الملحوظة أن الرسالة المؤيدة لحقوق الفلسطينيين جمعت توقيعات أكثر بنسبة تزيد عن 50 بالمائة من تلك المدعومة من أيباك.

في الواقع، كان الديمقراطيون صامتين في الغالب بشأن مسألة إقامة دولة فلسطينية. قدّم جيف ميركلي مشروع قانون في مجلس الشيوخ بعنوان “قرار يدعو الرئيس للاعتراف بدولة فلسطين منزوعة السلاح، بما يتماشى مع القانون الدولي ومبادئ حل الدولتين، إلى جانب دولة إسرائيل آمنة”، والذي حصل على ثمانية مشاركين من الديمقراطيين، بالإضافة إلى بيرني ساندرز.

كان باقي أعضاء الحزب صامتين بشكل ملحوظ في كلا المجلسين، ولم يتحدث ضد فكرة إقامة دولة فلسطينية سوى أنصار إسرائيل الأكثر تطرفًا بين الديمقراطيين وهم جوش جوتايمر (الديمقراطي عن ولاية نيوجيرسي)، وبراد شنايدر (الديمقراطي عن ولاية إلينوي)، وجون فيترمان (الديمقراطي عن ولاية بنسلفانيا)، وترك الديمقراطيون قيادة هذه النقطة في الغالب للجمهوريين.

يمكن فهم سبب ذلك من خلال استطلاع أجرته رويترز/إيبسوس في آب/ أغسطس الماضي حيث وجد الاستطلاع أن 59 بالمائة من جميع البالغين الأمريكيين يؤيدون اعتراف جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بفلسطين، وبلغ هذا المجموع 78 بالمائة بين الديمقراطيين. ومن المثير للاهتمام أن هذا الرقم أعلى قليلًا من عدد الذين قالوا إنه يجب على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الاعتراف بإسرائيل (77 بالمائة).

أيد المستقلون أيضًا الاعتراف بفلسطين بنسبة 58 بالمائة مقابل 28 بالمائة، ولا يمكن أن تكون الحسابات الانتخابية أوضح من ذلك، وقد لاحظ الديمقراطيون في الكونغرس ذلك. ووجد نفس الاستطلاع أيضاً أن 82 بالمائة من الديمقراطيين يعتبرون أفعال إسرائيل في غزة “مفرطة”، وهو تأطير مروع لإبادة جماعية بهذه الوحشية. ولكن بالنظر إلى الطريقة التي غالبًا ما يتم بها التقليل من شأن الإبادة الجماعية في غزة أو إنكارها تمامًا من قبل وسائل الإعلام الغربية السائدة، فإن نسبة 82 بالمائة تعتبر رقمًا هائلًا. وبالمناسبة، تبلغ هذه النسبة 59 بالمائة بين جميع البالغين.

تراجع نفوذ اللوبي الإسرائيلي

كان هناك سبب وجيه خلف رغبة أيباك في إبعاد ديفيد شتاينر سنة 1992 بعد أن تم بث تفاخره بنفوذ أيباك للعالم كله. فمثل معظم جماعات الضغط، يتضاءل نفوذ أيباك في ضوء النهار. ومع تنامي نفوذ أيباك على مر السنين، أصبح من الصعب الحفاظ على سرية قدرتها على التأثير في الممثلين المنتخبين، وقدرتها على العمل من خلال اتصالاتها وعلاقاتها الوثيقة مع القادة الجمهوريين والديمقراطيين للمساعدة في تعيين شخصيات صديقة في مناصب رئيسية في السلطة التنفيذية. وقد سلّط تباهي شتاينر بعض الضوء على تلك الديناميكيات، التي كانت واضحة للمطلعين في واشنطن والمحللين السياسيين، ولكنها كانت أقل وضوحًا للجمهور العام. وكان ذلك آخر شيء تريده أيباك.

لذا، كان من المهم إنشاء مسارين متوازيين. أحدهما مخصص لواشنطن حيث كان نفوذ أيباك واضحًا لدرجة أن أشخاصًا مثل كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز توم فريدمان كانوا يتحدثون عن أن الكونغرس “تم شراؤه ودفع ثمنه“. والآخر كان مخصصًا للجمهور حيث كانت حتى شخصية مؤيدة لإسرائيل مثل فريدمان تتعرض للانتقاد الشديد لقولها مثل هذا الكلام “المهرطق”.

وفي الواقع، ظهرت حجة قوية في السنوات الأخيرة بأن زيادة ظهور أيباك تتناسب طرديًا مع تراجع نفوذها، وقد سلط نشطاء التضامن مع فلسطين الضوء باستمرار على أيباك وعلى الجماعات الصهيونية الليبرالية مثل “جي ستريت”، ومن خلال وجودها ذاته، ساعدت تلك الجماعات الناس على إدراك أن أيباك وغيرها من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل كانت تدفع بسياسات متطرفة للغاية تجاه فلسطين. كما ساعد بيرني ساندرز، وأعضاء “الفرقة”، وعدد قليل من السياسيين الآخرين في رفع الوعي العام بدور أيباك في صنع السياسات.

وقد جادلتُ مرارًا وتكرارًا على مدى عقود بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن اللوبي الإسرائيلي مسؤول عن كون السياسة الأمريكية سيئة إلى هذه الدرجة تجاه فلسطين، فالولايات المتحدة تعارض بشكل روتيني الحركات التحررية وتدعم القوى العنصرية والاستعمارية، ولطالما كان هذا موقفنا الافتراضي ما لم تقتضِ مصالحنا المتصورة خلاف ذلك. يمكن أن تشهد أمريكا الوسطى والجنوبية، وجنوب شرق آسيا، وأفريقيا، ومعظم أنحاء العالم بأن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى أيباك لمعارضة حقوق الإنسان والعدالة والتحرر، وتاريخنا المحلي من القوانين العنصرية والديماغوجية الرأسمالية هو دليل إضافي على ذلك.

لكن هذا لا يغيّر حقيقة أن أيباك لعبت دورًا فريدًا في جعل إسرائيل حالة استثنائية. فقد ساعدوا في تمرير تشريعات للضغط على الولايات المتحدة لنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، كما فعل دونالد ترامب في ولايته الأولى، ولضمان كميات ضخمة من المساعدات العسكرية السنوية والإضافية لدولة قادرة تمامًا على دفع تكاليف جيشها بنفسها، ولإلزام الولايات المتحدة قانونيًا بضمان أن تكون إسرائيل قوية عسكريًا بما يكفي لهزيمة أي تحالف من الجيوش العربية والإسلامية.

وهناك ما هو أكثر من ذلك، بما في ذلك تشريع مشاريع خاصة وشراكات تجارية بين الشركات الأمريكية والإسرائيلية، وإعفاءات من القوانين الأمريكية المتعلقة بالتأشيرات، وربما الأهم من ذلك كله، خلق مناخ سياسي يجعل انتقاد إسرائيل حتى بشكل معتدل أمرًا خطيرًا؛ حيث يتردد حتى الرؤساء في الإقدام على أي فعل يقلل من حصانة إسرائيل، حتى عندما تتصرف بما يتعارض بشكل مباشر مع السياسة الأمريكية.

لكن أيباك اضطرت الآن إلى الخروج إلى العلن حيث وصل تدهور صورة إسرائيل بين الديمقراطيين إلى مستويات دفعتها إلى الانخراط المباشر في تمويل الحملات السياسية، وهو ما كانت تتجنبه دائمًا حيث كانت تركز على الضغط وتسمح لجهودها بتقديم إشارات واضحة للجان العمل السياسي والمتبرعين الكبار الذين يريدون معرفة كيفية توجيه مواردهم بشكل استراتيجي. وعلى عكس أيباك، كان بإمكان الكثير منهم توجيه الأموال المؤيدة لإسرائيل دون أن يتم وصفها علنًا على هذا النحو.

لكن الانخراط المباشر في تمويل الحملات له جانب سلبي كبير. فبينما تقدم الأموال مساعدة لأي حملة سياسية تعتمد قيمتها على عدد الأصوات التي يمكن شراؤها. وقد أصبحت تلك الأصوات أكثر تكلفة بشكل متزايد مع تزايد نفور الناخبين من الدعم الأمريكي لنظام عنصري استعماري استيطاني قائم على الفصل العنصري. وقد تضاعف هذا النفور بشكل كبير بسبب الإبادة الجماعية في غزة، خاصة بالنسبة للفئة المتزايدة من الأمريكيين الذين يحصلون على أخبارهم من وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي يرون جرائم إسرائيل مباشرة بدلاً من رؤيتها من خلال مرشِّحات وسائل الإعلام الرئيسية.

لقد أصبح من المعروف الآن أن أيباك تقوم بتوجيه الأموال التي كانت للجمهوريين إلى الانتخابات التمهيدية الديمقراطية من أجل الإطاحة بالمرشحين التقدميين، وكان جمال بومان وكوري بوش آخر ضحاياهم. لكن هذين السباقين كانا مكلفين للغاية، حيث حطما الأرقام القياسية للإنفاق في الانتخابات التمهيدية للكونغرس داخل الحزب. مع ذلك، خسرت بوش بفارق أقل من 7000 صوت (من أصل أكثر من 123,000 صوت)، وكانت أيباك بحاجة إلى إعادة رسم حدود لدائرة بومان الانتخابية بالإضافة إلى إنفاقها القياسي للإطاحة به. ويُشاع أن بوش تستعد للترشح لاستعادة مقعدها في سنة 2026، وخوض حملة ضد أيباك سيكون استراتيجية قوية لها.

لقد أصبحت أيباك وإسرائيل ساميْن سياسيًا بالنسبة للديمقراطيين، وقد ظهر ذلك جليًا في الرد الخافت على رسالة رو خانا الداعية إلى إقامة دولة فلسطينية، وكذلك الانتخابات الرئاسية لسنة 2024، سواء اعترفوا بذلك أم لا. ولمواجهة تلك السُمّية، ستحاول أيباك تكرار بعض نجاحاتها في تمويل المرشحين بشكل سري، من خلال تشغيل إعلانات تتحدث عن قضايا داخلية دون أن تقترب حتى من ذكر إسرائيل، وسيقومون بتمويل حملات انتخابية بشكل محدود من خلاللجنة العمل السياسي لأيباك، وسيركزون بشكل كبير على مشروع “الديمقراطية المتحدة” الذي يحمل اسمًا مضللًا.

لقد أظهر لنا الديمقراطيون للتو أنهم يعلمون أننا نراقبهم، وأن قاعدتهم الانتخابية، بالإضافة إلى الناخبين المتأرجحين الذين هم في أمس الحاجة إليهم، قد سئموا من الشيك المفتوح لإسرائيل وباتوا ينفرون من أيباك. يجب مواجهة وتحدي أي مرشح ديمقراطي يأخذ حتى دولارًا واحدًا من لجان العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل، وفضحهم بأعلى صوت ممكن. وكسر قبضة أيباك على واشنطن أصبح أمرًا وشيكًا، لكنه مجرد خطوة أولى نحو تغيير السياسة الأمريكية الراسخة منذ زمن طويل تجاه إسرائيل، لكنها خطوة كبيرة، ولدينا بالفعل أدوات المناصرة التي نحتاجها لإنجاز بقية العمل. العدالة ممكنة، لكن الطريق طويل، وقد قطعنا شوطًا أبعد مما يعتقده الكثيرون.

المصدر: موندويس