لماذا دعا حزب الله السعودية لـ “فتح صفحة جديدة”؟

لطالما مثَّلت العلاقة بين حزب الله اللبناني والمملكة العربية السعودية مقياسًا دقيقًا لتحولات موازين القوى في الشرق الأوسط، خاصةً فيما يتعلق بالصراع على النفوذ بين المحور الإيراني ودول مجلس التعاون الخليجي. هذه العلاقة لم تكن خطية، بل مرَّت بمسارات مختلفة، تعكس تعقيد ديناميكيات الصراع الإقليمي، حيث تحوَّل حزب الله من فاعل محلي يركِّز على “المقاومة المشروعة” في بداياته إلى “فاعل لا-دولي” ذي أبعاد إقليمية متصلة باستراتيجية إيران الكبرى.

تتبنَّى الرياض مقاربة ترى في استقرار الدول القومية وسيادتها ركيزة أساسية لأمنها الإقليمي. وبناءً على ذلك، فإن وجود كيانات مسلحة تتجاوز سيطرة الدولة، لا سيما إن كانت تتبع إيران، وتمتلك أجندات عابرة للحدود، يُنظر إليه على أنه تهديد وجودي لنظام الدولة القومية. وعلى النقيض، يُمثِّل حزب الله نموذجًا لحركة مقاومة نشأت بدعم أيديولوجي ولوجستي إيراني، وقد سمح لها التركيز على مواجهة “إسرائيل” في بداياتها بكسب قدر من القبول الإقليمي المُبطَّن.

في هذا المقال، نحاول تفكيك المسار التاريخي المعقد لهذه العلاقة عبر مراحل جيوسياسية متميزة؛ مرحلة التسامح الضمني والهدوء الحذر، مرورًا بنقطة التحول والمواجهة العلنية، ووصولًا إلى حقبة الصراع بالوكالة، قبل تقييم الدوافع الاستراتيجية وراء دعوة الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، لـ “فتح صفحة جديدة” مع الرياض، ومقارنة هذه الدعوة بالتفاهمات الأخيرة بين السعودية وإيران.

الحياد الحذر والتسامح الضمني (1980 – 2005)

شهدت الفترة الممتدة من الثمانينات، أي منذ نشأة حزب الله، وحتى عام 2005، نموًا للحزب في لبنان وسط سياق إقليمي ودولي معقَّد، تخللته حروب أهلية وصراعات إقليمية كبرى. لقد أتاحت الظروف المحيطة، وخاصة غياب قيادة عربية موحدة في لبنان، والانشغال المستمر بالقضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي، مساحةً لحزب الله للنمو تحت مظلة شرعية “المقاومة المشروعة” ضد الاحتلال الإسرائيلي، واجتياحاته في عامي 1978 و1982. هذا السياق سمح للحزب بالتركيز على وظيفته الدفاعية، التي حلَّت وبقوة بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982، دون أن يدخل في صدام مباشر أو فوري مع المصالح السعودية أو حتى مع مصالح أي دولة عربية أُخرى.

لم يكن الموقف السعودي تجاه هذه النشأة ودودًا أبدًا، بل اتسم بـ “الحذر” الشديد. لقد كان التغاضي السعودي عن نفوذ الحزب في تلك المرحلة بمثابة تغاضٍ استراتيجي مؤقت، حيث فضَّلتْ المملكة عدم فتح جبهة صراع جديدة مع طهران ووكلائها في بيروت، في ظل انشغالها بملفات إقليمية ضخمة مثل الملف الفلسطيني-الإسرائيلي وتداعيات حرب الثمانينات بين العراق وإيران، إذ وقتها كان الخطر العراقي، منذ الثمانينات حتى خروج العراق من الكويت، في أولويات الاهتمام السعودي، وهذا ما مثَّل تأجيلًا للمواجهة المباشرة، مع إبقاء التنافس الأيديولوجي والجيوسياسي في حالة كمون وفتور.

على الرغم من التغاضي الظاهري عن وظيفة “المقاومة”، كانت الرياض تمارس موقفًا جذريًا نشطًا، إذ عملت ببطء على “إضعاف الشعبية الشيعية” المتزايدة للحزب منذ بداياته عبر دعم قوى لبنانية داخلية، أبرزهم تيار المستقبل، وعبر قنوات أخرى دينية دعوية، ما أشار إلى أن الصراع الأيديولوجي والطائفي كان كامنًا وموجودًا في الخلفية، ويسبق بكثير المواجهة الجيوسياسية العلنية التي ستندلع لاحقًا بعد عام 2011.

علاوة على ذلك، لم تتوانَ الرياض عن تحميل حزب الله “ضمنًا” مسؤولية أي تصعيد غير مرغوب فيه تجاه إسرائيل، مشيرةً إلى قيام الحزب بـ “مغامرة غير محسوبة شكَّلت مفاجأة للجميع” قبل اندلاع حرب 2006. هذا الموقف كان أول مؤشر على محاولة السعودية ترسيم حدود “المقاومة المقبولة” التي يجب أن تخدم هدفًا عربيًا، مقابل “المقاومة المدفوعة إيرانيًا” التي تهدد الاستقرار الإقليمي والسعودي بشكل غير مباشر. في التحليل الهيكلي لتلك المرحلة، يتبين أن السعودية تبنَّت سياسة ازدواجية: قبول ضمني لوظيفة الحزب الظاهرة كمقاوم، مقابل سعي خفي لإضعاف نفوذه الأيديولوجي/الطائفي. لكن، لم يكن هذا التوازن قويًا أو مستدامًا، بل كان هشًّا ومعدًّا للانهيار فور تغيُّر الأولويات الإقليمية أو تحوُّل وظيفة الحزب من الدفاع المحلي إلى الهجوم الإقليمي، كما حدث في سوريا بعد عام 2011.

نقطة التحول والمواجهة العلنية (2005 – 2011)

شكَّلت حرب يوليو 2006، ومن قبلها اغتيال رفيق الحريري (2005)، فيما تُعرف بـ “حرب تموز”، نقطة التحول الحاسمة في العلاقة، حيث تحوَّل التنافس المُبطَّن إلى مواجهة علنية. فبمجرد انتهاء الحرب، اتهمت السعودية صراحة حزب الله بـ “المسؤولية عن العدوان الإسرائيلي على لبنان”. كان هذا التصريح إعلانًا سعوديًا بخروج الحزب من الإجماع العربي. ففي نظر الرياض، لم يعُد حزب الله يُمثِّل “مقاومة لبنانية”، بل تحوَّل إلى “مشروع إيراني” عابر للحدود، يستخدم الساحة اللبنانية لخدمة أجندات إقليمية تتعارض مع مصالح الدول العربية المعتدلة، دول التعاون الخليجي ومعهم مصر في المقدمة، وقد كان هذا التحوُّل بمثابة اجتياز الحزب لـ “الخط الأحمر” الجيوسياسي السعودي، حيث أثبت الحزب أنه سيمنح الأولوية لأجندة “المحور التابع لإيران” على حساب استقرار الدولة اللبنانية والنأي بالنفس، ما مهَّد الطريق للمواجهة المفتوحة في المراحل اللاحقة.

على الرغم من التصعيد الحاد، جرت محاولة دبلوماسية نادرة لتخفيف التوتر في يناير من عام 2007، حيث قام الشيخ نعيم قاسم والوزير محمد فنيش بزيارة تاريخية إلى الرياض للقاء الملك عبد الله بن عبد العزيز. مثَّل هذا أول اتصال مباشر رفيع المستوى بين الطرفين، واستمر لثلاثة أيام بهدف “تخفيف التوتر” بين الجانبين. لكن، دلالات فشل هذه المبادرة كانت حاسمة، فيما بدا أن مطالب الرياض المتعلقة بضرورة الابتعاد عن الأجندة الإيرانية والاندماج في محيطها العربي كانت غير قابلة للتفاوض بالنسبة لقيادة حزب الله. هذا الجمود الدبلوماسي أثبت للرياض أن الخلاف بات هيكليًا، أي أنه متعلق بهوية الحزب وولائه الإقليمي، عقديًا وعسكريًا، ولا يمكن حله عبر القنوات الثنائية البسيطة، ما عزَّز القناعة بأن الحل الوحيد هو التعامل مع مصدر القرار في طهران أو عبر العقاب.

كذلك، ارتبط فشل المساعي الإقليمية بزيادة التوتر الداخلي في لبنان، والذي بلغ ذروته في أحداث 7 أيار 2008، عندما استخدم الحزب سلاحه داخليًا بشكل واسع لفرض هيمنته على مكونات المُجتمع الأُخرى، فيما عزَّز هذا الإجراء الشكوك السعودية بأن الحزب أصبح يُمثِّل “دولة داخل دولة”، وأنه يمتلك القدرة والرغبة في استخدام قوته العسكرية لفرض أجنداته السياسية، بما يتعارض مع سيادة الدولة اللبنانية، والمحيط العربي، وخصوصًا الخليجي.

الصراع بالوكالة وحرب التصريحات (2012 – الآن)

مع تمدُّد النفوذ الإيراني إقليميًا بعد عام 2011، تحوَّلت العلاقة إلى مواجهة مفتوحة بالوكالة، واعتبرت الرياض حزب الله رأس حربة للمشروع الإيراني المُهدِّد لاستقرار المنطقة، حيث شهدت هذه المرحلة انخراطًا واسعًا لحزب الله في صراعات إقليمية، أبرزها دوره في سوريا لدعم نظام الأسد، ومن ثم دوره اللوجستي والعسكري كـ “مستشار” لأنصار الله الحوثية في اليمن. هذا الانخراط حوَّل الحزب من مجرد وكيل إيراني في الشام إلى تهديد مباشر للأمن القومي السعودي، إذ كانت السعودية هي الطرف الآخر والأساسي في صراع اليمن.

وجَّهت الرياض اتهامات مباشرة لحزب الله باستخدام موانئ محددة، مثل ميناء الحُديدة ومطار صنعاء، لدعم الحوثيين لوجستيًا بالأسلحة والمستشارين. هذا التورط المباشر في حرب اليمن، التي تعتبرها الرياض تهديدًا لوجودها، عزَّز القناعة بأن الحزب يسعى لتقويض الأمن السعودي من الجبهة الجنوبية، ومن وقتها، أدركت الرياض أن الحزب لم يعُد يقتصر على الصراع مع “إسرائيل”، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية إيرانية شاملة تسعى لتطويق المصالح السعودية في المنطقة.

ردًّا على تمدُّد نفوذ الحزب، اتخذت السعودية وحلفاؤها إجراءات عقابية متعددة تهدف إلى عزل الحزب ماليًا وسياسيًا. ففي عام 2015، فرضت المملكة عقوبات على اثنين من قياديي حزب الله، وفي عام 2017، صنَّفت الحزب رسميًا كمنظمة إرهابية، متبوعة بإجراءات مماثلة من مجلس التعاون الخليجي. كان الهدف من هذه الإجراءات هو تجفيف تمويل الحزب وعزله ماليًا ودوليًا. وأيضًا، شملت العقوبات تجميد أي أصول تابعة للأسماء المصنَّفة إرهابيًا وحظر التعامل معها من قبل المواطنين السعوديين والمقيمين في المملكة.

إضافةً إلى ذلك، أدت هذه العقوبات، إلى جانب قرار وقف المساعدات العسكرية السعودية للبنان، إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في بيروت. فقد استخدمت الرياض هذا الضغط الاقتصادي كأداة للمساومة السياسية، مؤكدةً أن عودة الدعم والود مع لبنان مرهونة بإنهاء هيمنة حزب الله على مفاصل الدولة، ووصل الأمر إلى سحب قسم من ودائعها من مصرف لبنان، وهي خطوة هدفها زيادة الضغط على النخبة السياسية اللبنانية لفض ارتباطها بالحزب.

كما كانت هذه المرحلة هي ذروة المواجهة اللفظية، التي تجسَّدت في هجوم الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، على الملك سلمان بن عبد العزيز في يناير 2022، حيث جاء الهجوم ردًّا على دعوة الملك سلمان للبنانيين بـ “الوقوف في وجه هيمنة حزب الله الإرهابي”. هذه المواجهة اللفظية تكشف عن أهداف استراتيجية متبادلة، فمن جهة المحور الإيراني، سعى نصر الله إلى تبرئة الحزب عبر اتهام الرياض بـ “تصدير الإرهاب الوهابي الداعشي”، وهي محاولة لربط الصراع الجيوسياسي بالهوية الطائفية وتحويل الرياض إلى مصدر للتهديد الأيديولوجي. وشملت أبرز اتهامات نصر الله للمملكة ما يلي:

اتهم نصر الله السعودية بأنها أرسلت الآلاف لتنفيذ عمليات انتحارية في العراق وفي سوريا. وفي حرب اليمن: قال إن “الإرهابي هو الذي يشن حربًا 7 سنوات على الشعب المظلوم في اليمن، ويقتل الأطفال والنساء، ويدمِّر البشر والحجر، وهو أنتم”. كما التبعية للولايات المتحدة، حيث اتهم المملكة بأنها “الإرهابي هو الذي يقف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في كل حروبها، ويفتح لها أرضه وقواعده العسكرية لتمارس جرائمها ضد الإنسانية”. وأيضًا، تمويل الفتن، فقد زعم نصر الله بأن الرياض تموِّل كل جماعات الفتن والحروب الأهلية في لبنان والمنطقة.

وعلى الجانب الآخر، مثَّلت دعوة الملك سلمان تأكيدًا على أن عزل الحزب هو شرط مسبق لاستعادة الاستقرار اللبناني، حيث ربطت الرياض بشكل مباشر التعامل مع الدولة اللبنانية بمصير ونفوذ الحزب. وقد تبرَّأ رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي رسميًا من تصريحات نصر الله، مؤكدًا أنها لا تمثِّل موقف الحكومة اللبنانية أو الشريحة الأوسع من اللبنانيين، وهو ما أكَّد الشرخ العميق بين محور المقاومة والدولة اللبنانية، فيما ترافقت هذه المواجهة اللفظية بإجراءات عقابية سعودية حاسمة، مثل تصنيف الحزب رسميًا كمنظمة إرهابية، وهو ما يمثِّل انتقالًا من المناكفات الدبلوماسية إلى الحرب الاقتصادية والقانونية المفتوحة بهدف تجفيف مصادر تمويل الحزب والضغط على حلفائه الغربيين.

البحث عن صفحة جديدة في ظل التقارب الإيراني

تأتي دعوة حزب الله الأخيرة على لسان أمينه العام نعيم قاسم لـ “فتح صفحة جديدة” مع السعودية في سياق جيوسياسي متغيِّر، كان محرِّكه الرئيسي هو التقارب السعودي-الإيراني برعاية صينية (اتفاق بكين 2023)، كما بفعل إضعاف قوة الحزب داخليًا وخارجيًا بفعل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. هذا التقارب لم يأتِ من فراغ، بل نتج عن إدراك الرياض بأن الولايات المتحدة لم تعد توفِّر ضمانات كاملة ومطلقة لأمنها الحيوي، ما دفعها نحو استراتيجية “تخفيف التوتر” وتحويل التركيز إلى الأولويات الاقتصادية الداخلية، المتمثِّلة في تنفيذ “رؤية 2030”.

وقد تضمَّن الاتفاق تعهُّدات إيرانية بكبح جماح حلفائها لـ “تسكين الصراع” الإقليمي، وكان أثر هذا واضحًا في ملف اليمن، حيث أوجد أفقًا للتهدئة في الصراع بين الرياض وجماعة أنصار الله، وبدأت السعودية مفاوضات مباشرة مع الحوثيين لأول مرة منذ خريف 2022. هذا التطور الأخير يؤكِّد أن الهدف الإقليمي هو “السلام البارد” وإدارة الصراع بدلًا من حله بشكل شامل، أي بشكل عسكري حاسم، وهذا ما لم يستطع أي طرف تحقيقه بعد سنوات من حرب دمَّرت اليمن وشعبه، ما تطلَّب من طهران، بهدف التقارب من السعودية، ممارسة الضغط على وكلائها، بما في ذلك حزب الله.

مثَّل تصريح الشيخ نعيم بالدعوة إلى “فتح صفحة جديدة” مع السعودية، استجابةً تكتيكية مباشرة لمتطلبات اتفاق بكين لخفض التصعيد الإقليمي. لكن، لا يمكن قراءة هذه الدعوة بمعزل عن التوجيهات الإيرانية الأوسع، ما يدل على أن قرارات الحزب الكبرى (سواء بالتصعيد أو التهدئة) هي جزء من استراتيجية المحور الإيراني الأوسع. كما أن التقييم الاستراتيجي لدعوة قاسم يشير إلى أنها أقرب إلى المناورة التكتيكية منها إلى التحوُّل الاستراتيجي الجذري. فالدوافع الرئيسية للحزب تبدو تكتيكية، وفي مقدمتها الرغبة في فك العزلة الإقليمية وكسب الوقت، خاصةً وأن العزلة الاقتصادية والسياسية المفروضة على الحزب ولبنان تضع ضغطًا هائلًا على قيادته. وأيضًا، تضمَّنت الرسالة تأكيدًا حاسمًا على أن سلاح الحزب موجَّه “ضد إسرائيل فقط”، وهذه النقطة تمثِّل تكتيكًا سياسيًا يهدف إلى تهدئة المخاوف السعودية المباشرة بشأن أمنها القومي، وإعطاء طهران غطاءً للوفاء بتعهُّداتها بعدم استهداف المصالح السعودية عبر الوكلاء.

ومع ذلك، يظل التحوُّل مرهونًا بشروط تنفيذية صعبة على الحزب: فبينما تسعى الدعوة لإنهاء الجمود السياسي في لبنان، فإن الشرط السعودي للتهدئة، المتمثل في الانضواء تحت سقف الدولة اللبنانية ومؤسساتها، أي تسليم سلاح الحزب للدولة، لا يزال يمس عقيدة الحزب وولاءه الإقليمي. وتستخدم السعودية الانهيار الاقتصادي في لبنان كورقة ضغط للحصول على تنازلات سياسية، حيث لن تقدِّم مساعدات اقتصادية كبيرة دون تراجع الحزب كي يصبح حزبًا سياسيًا ودعوة مجتمعية لا أكثر من ذلك.

من صراع مفتوح إلى “سلام بارد” تحت الرعاية الإقليمية

لقد مرَّت العلاقة بين الرياض وحزب الله بتحوُّل هيكلي عميق؛ من تنافس ضمني مُبطَّن (1980–2005)، إلى صراع وجودي مفتوح بالوكالة والخطاب الأيديولوجي (2012–2022)، وصولًا إلى مرحلة “تسكين الصراع” الراهنة. هذا التسكين هو انعكاس لاستراتيجية إيرانية–سعودية لإدارة الخلافات وتقليل التكاليف الإقليمية الباهظة، خاصةً في اليمن، تحت مظلة تفاهمات بكين.

هذا التطور لا يشير إلى مصالحة أيديولوجية عميقة، خاصةً وأن الاتهامات المتبادلة (تصدير الوهابية والإرهاب الداعشي مقابل هيمنة الوكيل الإيراني) لا تزال عميقة جدًا ولا يمكن تجاوزها بتصريح واحد. بل هو اعتراف براغماتي بالحقائق الجيوسياسية الجديدة، التي تتطلب خفض التصعيد والتركيز على المصالح الوطنية العليا للطرفين. لكن، تظل التحديات الجوهرية أمام استدامة التهدئة متمثلة في نقطتين رئيسيتين:

أولًا، الهاجس السعودي الأمني: وهو استمرار وجود قوة مسلحة غير خاضعة لسلطة الدولة اللبنانية. بالنسبة للرياض، لا يمكن تحقيق الاستقرار الإقليمي أو استعادة العلاقات اللبنانية–الخليجية بشكل كامل طالما استمر وضع “الدولة داخل الدولة” في لبنان.

ثانيًا، غياب الإرادة الذاتية للحزب: إن دعوة قاسم تمثِّل دليلًا قاطعًا على أن القرار بالتهدئة أملته طهران كجزء من صفقة كبرى، وليس نتيجة لتغيير جوهري في رؤية حزب الله لدوره في لبنان أو في المنطقة. بالتالي، فإن استدامة التهدئة مرهونة باستمرار التفاهمات الإيرانية–السعودية.

كذلك، مع التغيرات التي شهدتها الساحة السورية بعد سقوط الأسد، ومن ثم تولي أحمد الشرع رئاسة البلاد، ومحاولة دمج نظامه عربيًا ودوليًا، قد انعكست بصورة مباشرة على وضع الحزب، الذي فقد جزءًا كبيرًا من عمقه الاستراتيجي، سواء من ناحية خطوط الإمداد أو من ناحية الغطاء والتحالف السياسي. هذا التحوُّل منح السعودية مساحة أوسع للمناورة، ليس فقط لأنها تخلَّصت من عبء معادلة كان حزب الله فيها لاعبًا مهيمنًا، بل أيضًا لأن ميزان القوى في لبنان، وبعد الحرب الإسرائيلية، بدأ يميل تدريجيًا لمصلحة حلفائها. الحكومة اللبنانية الحالية، التي تُظهر قدرًا أكبر من التقارب مع الرياض، تُعبِّر عن هذا التحول بوضوح فهي تتحرك بثقة أكبر، مستندة إلى ترقُّب الدعم السعودي، والعربي والدولي الاقتصادي والسياسي، وباتت أقل عرضة لابتزاز الحزب أو تخويفاته كما في العقدين الماضيين.

بهذا المعنى، يمكن القول إن السعودية نجحت في تحويل سقوط الأسد وضعف حزب الله إلى فرصة لتعزيز حضورها في لبنان، وسوريا أيضًا، ولإعادة صياغة معادلة النفوذ الإقليمي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. لذا، من الضروري معرفة أن السعودية في الوقت الحالي لا يهمُّها، بشكل ضروري، التقارب مع الحزب، فأولويتها هي التهدئة مع إيران، ومن ثم جماعة أنصار الله في اليمن، وهذا ما حققته في الأعوام الأخيرة حتى من قبل تراجع قوة حزب الله.

نهايةً، لقد كان المسار التاريخي للعلاقة بين حزب الله والمملكة العربية السعودية عبارة عن تحوُّل هيكلي من التغاضي الاستراتيجي إلى الصراع الوجودي المفتوح بالوكالة، حيث تحوَّل الحزب من قوة “مقاومة” إلى ذراع إقليمي للمحور الإيراني يهدد المصالح السعودية في اليمن ولبنان، ما دفع الرياض إلى التصنيف الرسمي للإرهاب. وفي خضم التقارب السعودي–الإيراني الأخير، وضعف قدرات الحزب، جاءت دعوة نعيم قاسم لـ “فتح صفحة جديدة” لتؤكِّد أن القرار بالتهدئة أملته طهران كجزء من صفقة كبرى تهدف إلى “تسكين الصراع” الإقليمي. هذا التكتيك، المدفوع بالضغوط الداخلية على الحزب في لبنان، يمهِّد الطريق لـ “سلام بارد” هش، لكنه يمنح الرياض فرصة تاريخية لإعادة فرض شروطها، أي ربط أي دعم اقتصادي مستقبلي للبنان بتنازلات تنفيذية من حزب الله لإنهاء هيمنته العسكرية على الدولة، وبالتالي، تحويل التفاهم الإيراني إلى مكاسب استراتيجية سعودية دائمة، ورفع سقف التوقعات تجاه مستقبل لبنان.