قبول مشروط ورسائل مبطنة.. قراءة في رد حماس على مقترح ترامب

أثار رد حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) على مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في قطاع غزة حالة من الجدل داخل الشارع الإسرائيلي والأمريكي على حد سواء، حيث جاء عكس كافة التوقعات، وعلى نغمة مغايرة لما كان يُنتظر، إيجابيًا من حيث الشكل، تكتيكيًا في مضمونه، متوازنًا في الحفاظ على معادلة المقاربات الإنسانية والثوابت الوطنية.

الرد الذي نشرته الحركة في بيان لها مساء الجمعة 3 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، تلقفه ترامب بالترحيب سريعًا، دون أن يترك فرصة للتشاور مع حكومة بنيامين نتنياهو، حيث كتب على صفحته عبر منصة “تروث سوشيال” إنه “بناءً على البيان الصادر عن حماس، أعتقد أنهم مستعدون لسلام دائم”، فيما نشر نص البيان حرفيًا باللغة الإنجليزية.

وفي خطوة غير متوقعة طالب الرئيس الأمريكي “إسرائيل” بوقف قصف غزة فورًا، ومضى قائلاً: “نحن نناقش بالفعل تفاصيل يجب الاتفاق عليها، الأمر لا يتعلق بغزة فحسب، بل يتعلق بالسلام الذي طال انتظاره في الشرق الأوسط”.

وفي تسجيل مصور له نشره لاحقًا على المنصة وجّه الشكر إلى الدول التي ساهمت في “الوصول إلى هذه اللحظة”، خاصةً بالذكر دول “قطر وتركيا والسعودية ومصر والأردن” قائلاً: “هذا يوم كبير، وسنرى كيف تسير الأمور، يجب أن نحصل على الكلمة النهائية واضحة ومحددة (يقصد رد حماس)”.

رد فعل ترامب على بيان حماس كان دراماتيكيًا بالنسبة للكيان المحتل، فبجانب أنه سحب البساط من تحت نتنياهو للضغط على الإدارة الأمريكية في ظل ضيق الوقت بين بيان الحركة ورد الرئيس، فإنه كذلك نسف أحد أبرز المبادئ التي تمسكت بها “إسرائيل” حتى اليوم بأن تجري المفاوضات تحت النار.

هناك إجماع مطلق على حرفية صياغة بيان الحركة الذي من الواضح أنه تم بالتوافق والتنسيق بين الفصائل بعضها البعض وبينها وبين الوسطاء الإقليميين، لكنه في نفس الوقت مليء بالرسائل التي تنسف معظم بنود خطة ترامب، والتي قد تمثل ألغامًا تحول دون تنفيذ الاتفاق عمليًا، الأمر الذي يفرض تحديات من نوعٍ آخر، ويلقي الكرة في ملعب الوسطاء العرب والمسلمين لنقل هذا الرد من خانة الدبلوماسية الكلامية إلى الترجمة العملية على أرض الواقع، لوضع حد للمعاناة التي يعانيها الغزيون على مدار عامين كاملين.

قبول دون استسلام ورفض بلا صدام

نجحت حماس عبر هذا الرد الدبلوماسي المخضرم في تحقيق الثنائية الصعبة، والتي كان يراهن الإسرائيليون على فشلها، قبول خطة ترامب بمنأى عن بنود الإذعان المُدرجة، ورفض منمق لخطابها الاستسلامي دون صدام مباشر مع الرئيس.

غازلت الحركة ترامب بما يحب أن يسمعه، مركزة على النقاط التي تتصدر اهتماماته وقائمة أولوياته، فأعلنت موافقتها على إطلاق سراح كل المحتجزين المتبقين لديها، أحياء وأموات، وفق صيغة التبادل الواردة في المقترح، لكنها ربطت ذلك بتوفير الظروف الميدانية لعملية التبادل، إذ ليس من المنطقي أن تتم تلك العملية في ظل هذا القصف وتلك الهجمات واستمرار التواجد العسكري الإسرائيلي في القطاع، وهو ما يعني عمليًا إنهاء القتال ووقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي جزئيًا من مناطق عدة داخل غزة.

وفي ذات الوقت وافقت على “تسليم إدارة قطاع غزة” غير أنها اشترطت أن يكون التسليم لهيئة فلسطينية من المستقلين (تكنوقراط) بناءً على التوافق الوطني الفلسطيني واستنادًا إلى الدعم العربي والإسلامي، معربة عن استعدادها للدخول “فورًا” من خلال الوسطاء في “مفاوضات لمناقشة تفاصيل ذلك”.

تعلم حماس وبقية الفصائل ومن خلفهم الوسطاء أن أكثر ما يهم ترامب والأمريكيين في الوقت الحالي، إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة، وتسليم إدارة القطاع لهيئة أو جهة أخرى غير الفصائل المسلحة، وهو ما بدأت به الحركة بيانها الذي لاقى ترحيبًا كبيرًا من قبل الرئيس الأمريكي.

لكن في المقابل، نسفت حماس وبشكل كامل كافة البنود الإذعانية التي تضمنتها خطة ترامب الأولى، لكن بطريقة دبلوماسية مخضرمة، دون أن تنطوي على أي صدام محتمل، مستمسكة بثوابتها الوطنية بلا استفزاز للإدارة الأمريكية.

ففي مسألة إلقاء السلاح على سبيل المثال، ورغم أن البيان لم يتطرق إليها بشكل مباشر، لكن القيادي بالحركة مصعب أبو مرزوق كشف في حديث متلفز له بعد نشر البيان مباشرة أنهم على استعداد لتسليم السلاح لكن لدولة مستقلة ولسلطة شرعية وطنية وليس لسلطة احتلال أو انتداب أجنبي، وبذلك تعلن حماس استعدادها لإلقاء السلاح، لكن لأي جهة ولأي سلطة؟ هذا هو الهروب من اللغم الأول.

وفيما يتعلق باليوم التالي للحرب والسلطة الجديدة المزمع توليها مسؤولية إدارة القطاع، أعلنت الحركة موافقتها على “تسليم إدارة قطاع غزة” لكن “لهيئة فلسطينية من المستقلين (تكنوقراط) بناءً على التوافق الوطني الفلسطيني واستنادًا إلى الدعم العربي والإسلامي” وليس لمجلس سلام مُعين بقيادة توني بلير وعدد من الشخصيات من جنسيات عدة، وهنا تجنبت اللغم الثاني.

الحركة في بيانها تقول صراحة إن حكم القطاع سيكون بأيدي أبنائه ومن كافة الفصائل، فهم وحدهم من يحكمون ويقررون ويديرون دون إملاءات أو شروط خارجية، ومن خلال التشاور مع القوى الإقليمية والدولية.

وبخصوص استبعاد حماس من المشهد تمامًا وطمسها من خارطة القطاع مستقبلًا، ونفي قادتها خارج الحدود الفلسطينية، فشددت الحركة في بيانها على أن “ما ورد في مقترح الرئيس ترامب من قضايا أخرى تتعلق بمستقبل قطاع غزة وحقوق الشعب الفلسطيني الأصيلة، فإن هذا مرتبط بموقف وطني جامع واستنادًا إلى القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، ويتم مناقشتها من خلال إطار وطني فلسطيني جامع ستكون حماس من ضمنه وستسهم فيه بكل مسؤولية”، وعليه فهي شريك أساسي في المشهد حتى وإن لم يكن لها دور رسمي فيما بعد، وهذا ثالث الألغام التي حاولت الحركة الابتعاد عن تفجيره حاليًا.

بقبولها الإفراج عن كافة المحتجزين دفعة واحدة، وتسليم قطاع غزة لسلطة أخرى، تلقي حماس بالكرة في ملعب الإسرائيليين والأمريكيين على حد سواء، وفي تمسكها بخطوطها الحمراء (رفض الثالوث: تسليم السلاح، والخروج النهائي من المشهد، وعودة الانتداب الأجنبي) تحافظ الحركة على ثوابت المقاومة متجذرة في أرض المعركة حتى الاستقلال كأحد المرتكزات الوطنية التي تقوم عليها الفصائل المسلحة، كعقيدة وممارسة.

مقاربات أمريكية تخلط أوراق نتنياهو

جاء رد فعل ترامب على بيان حماس أكثر براغماتية مما توقعه الكثيرون، فرغم عدم إعلان الحركة قبولها لكافة البنود المُدرجة في المقترح المقدم، والالتفاف على معظمها في خطاب دبلوماسي منمق، إلا أنه سارع في الاحتفاء بالرد، معتبرًا أنه خطوة نحو سلام دائم وشامل، بل انتقل من التصريح الكلامي إلى إعطاء الأوامر وإن لم تكن بصورة مباشرة مطالبًا الإسرائيليين بالتوقف عن قصف غزة فورًا.

وبحسب ما نشرته وسائل إعلام أمريكية فإن ترامب يسعى إلى تحقيق اختراق دبلوماسي سريع يمكن تسويقه كإنجاز انتخابي، خصوصًا بعد تراجع الدعم الدولي لـ”إسرائيل” بسبب الخسائر المدنية في غزة، ومن ثم جاء رد البيت الأبيض على البيان أكثر ليونة ومرونة من المتوقع؛ إذ أعلن أن “الكرة الآن في ملعب الطرفين، وأن الفرصة قائمة لإنهاء الحرب وإطلاق سراح الأسرى”.

لكن يجب الوضع في الاعتبار أن تلك الليونة مدفوعة ببراغماتية سياسية انتخابية واضحة، فواشنطن تدرك أن استمرار الحرب ودعمها المطلق لحكومة نتنياهو سيضرّ صورتها عالميًا، وأن أي اتفاق — حتى لو كان جزئيًا — سيُعدّ نجاحًا سياسيًا لترامب يمكن توظيفه دعائيًا فيما بعد، ومن هنا جاء ضغط الإدارة الأمريكية على “إسرائيل” لتجنّب التصعيد المفرط، وفتح الباب أمام “حلّ مرحلي”، يضمن تهدئة ميدانية دون انهيار أمني كامل في غزة.

مسألة أخرى ربما تضيف بعدًا آخر في قراءة رد فعل الرئيس الأمريكي السريع دون استشارة تل أبيب، تلك التي تتعلق بمحاولة ترامب تبرئة ساحته من تهم الرضوخ لنتنياهو والانصياع له على طول الخط، والسعي لإخراج رئيس وزراء الاحتلال من صورة المحرك له، لاسيما بعد الصدوع المتزايدة في جبهة مؤيدي ترامب الداخلية.

الرد الأمريكي على بيان حماس، سواء من حيث التصريحات الإيجابية أو سرعة الرد، أحدث حالة ارتباك في صفوف حكومة نتنياهو، بحسب موقع “أكسيوس” الذي نقل عن مسؤول إسرائيلي قوله إن نتنياهو فوجئ برد ترامب على بيان حماس، إذ كان رئيس الوزراء يرى خلال مشاورات سابقة مع فريقه أن رد الحركة يُعدّ رفضًا للخطة، في حين رأت الجهات الفنية المسؤولة عن ملف الأسرى أن الرد يحمل مؤشرات إيجابية يمكن أن تفتح الطريق نحو اتفاق.

وأوضح المسؤول أن نتنياهو شدّد في تلك المشاورات على ضرورة التنسيق الدقيق مع واشنطن لتجنّب أي انطباع بأن حماس أبدت تجاوبًا مع المقترح الأمريكي، خشية أن يُفسَّر ذلك على أنه اختراق سياسي لصالح الحركة.

وبينما بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي في حالة ارتباك سياسي بعد هذا الرد، خرج زعيم  المعارضة، يائير لبيد، ليعلن تأييده الصريح لموقف ترامب، معتبرًا أن المقترح الأمريكي يمثل فرصة نادرة لإطلاق سراح الأسرى وإنهاء الحرب في غزة.

هذا التباين يعكس انقسامًا داخليًا واضحًا في “إسرائيل” بين معسكرين: اليمين الحاكم بقيادة نتنياهو، الذي يرفض أي مبادرة قد تُضفي على حماس شرعية سياسية أو ميدانية، والمعارضة الإسرائيلية التي ترى أن أولوية الدولة الآن هي استعادة الأسرى، حتى وإن تطلب ذلك القبول ببعض البنود.

وفي موازاة ذلك، أصدرت هيئة عائلات الأسرى الإسرائيليين في غزة بيانًا أعلنت فيه دعمها الكامل لجهود ترامب، معتبرة أن “مطالبته بوقف الحرب الآن ضرورية لحماية حياة الأسرى”، ودعت نتنياهو إلى بدء مفاوضات فعّالة وسريعة لإعادتهم.

وبعد فترة صمت إسرائيلي مؤقت إزاء رد المقاومة، وأمام هذا الموج العالي من الضغوط، أصدر مكتب نتنياهو بيانًا رسميًا أكد فيه أن “إسرائيل تستعد للتنفيذ الفوري للمرحلة الأولى من خطة ترامب الخاصة بإطلاق سراح المختطفين، في ضوء ردّ حماس”، مضيفًا أن الحكومة الإسرائيلية ستواصل العمل “بتعاون كامل مع الرئيس ترامب وفريقه لإنهاء الحرب وفق المبادئ التي وضعتها إسرائيل”.

وفي السياق ذاته، ذكرت هيئة الإذاعة الإسرائيلية أن المستوى السياسي في تل أبيب أصدر تعليمات للجيش بتقليص عملياته في غزة لتقتصر على مهام دفاعية، في إشارة إلى استعداد مبدئي لتهدئة ميدانية تتزامن مع المسار السياسي.

خطة واحدة وتفسيرات عدة

في تحليل لها، وصفت كبيرة المراسلين الدوليين في صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، بيل ترو، الخطة الأمريكية المكوّنة من عشرين بندًا بالغموض منذ البداية، وأنها فضفاضة للدرجة التي تتيح لكل طرف — من واشنطن وتل أبيب إلى حماس — أن يفسّرها وفق مصالحه الخاصة. فبدلًا من أن تكون وثيقة تفاهم واضحة، أصبحت نصًا مفتوحًا على قراءات متناقضة، حتى إن بيانات التأييد الصادرة عنها تعكس رؤى متباينة لدرجة توحي وكأنّ الجميع يتحدث عن خُطط مختلفة لا عن وثيقة واحدة، محذّرة من أن هذا الغموض، الذي يبدو مقصودًا، يهدد بإفشال أي محاولة لتطبيقها عمليًا أو تحقيق سلام فعلي.

فمن جانب حماس، وفي ردها الرسمي، فقد أعلنت استعدادها لتسليم جميع الأسرى والمختطفين خلال 72 ساعة، ورحبت بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة، وتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات فورًا، ورفض الاحتلال والتهجير القسري، كما أبدت استعدادها لتسليم إدارة غزة إلى هيئة فلسطينية من التكنوقراط المستقلين، لكنها شددت على أنها ستظل جزءًا من الأطر الوطنية الفلسطينية، ما يعني أنها لن تنسحب من المشهد السياسي بل تسعى لإعادة التموضع ضمن معادلة جديدة، ورفضت ضمنيًا تسليم السلاح وتعيين سلطة أجنبية لإدارة القطاع.

وعلى الجانب الإسرائيلي، استغل بنيامين نتنياهو الغموض في الخطة لتثبيت موقفه الرافض لإقامة دولة فلسطينية، فخلال المؤتمر الصحفي لإعلان الخطة، رحّب بتأكيد ترامب على رفض فكرة الدولة، معتبرًا أن الاعتراف بها سيكافئ “الإرهابيين” ويهدد أمن “إسرائيل”، كما أضاف شروطًا جديدة لم يذكرها الرئيس الأمريكي، مثل إنهاء “الحرب القانونية” ضد “إسرائيل” في المحاكم الدولية، ووقف ما وصفه بـ”التحريض الإعلامي”، واعتراف الفلسطينيين ب”إسرائيل” “كدولة يهودية”، في محاولة لإعادة صياغة الخطة على مقاس السياسة الإسرائيلية.

وبذلك، تتحول الخطة الأمريكية  – وفق ترو-  إلى نص ملتبس متعدد التأويلات، تستخدمه الأطراف لتحقيق مكاسب آنية أكثر من كونه أساسًا لتسوية نهائية،  فبينما تحاول واشنطن تصويرها كفرصة للسلام، تتعامل معها تل أبيب كأداة لتثبيت واقع الاحتلال، وتقرؤها حماس كفرصة لانتزاع شرعية سياسية جديدة، وهكذا، يبقى السؤال معلقًا: هل يمكن لخطة بهذا القدر من الغموض والتناقض أن تمهّد فعلًا لسلام حقيقي ودائم؟

الكرة في ملعب الوسطاء والشركاء

رغم إعلان حركة حماس موافقتها على مقترح ترامب، فإن هذه الموافقة لا تمثل القبول الذي كانت تل أبيب تنتظره، ولا الاستسلام الذي حلم به نتنياهو ومعسكره اليميني المتطرف. فالموافقة جاءت مشروطة ومدروسة، أقرب إلى مناورة سياسية محسوبة منها إلى تنازل حقيقي. لم تمنح حماس “إسرائيل” صورة “الانتصار المطلق” التي أرادتها، بل قلبت الطاولة بذكاء حين حولت المقترح إلى اختبارٍ لنيات واشنطن وتل أبيب، وأحرجت الحكومة الإسرائيلية أمام جمهورها الداخلي والعالمي.

بهذا الرد المنضبط، نجحت الحركة في نسف الادعاءات الإسرائيلية التي تزعم رفضها لأي تسوية، وأظهرت نفسها شريكًا قابلًا للحوار — ولكن بشروط. فقدمت مرونة تكتيكية في الشكل، دون أن تتنازل في الجوهر، ساعية إلى كسب الوقت وإبقاء خطوط التفاوض مفتوحة من دون مواجهة مباشرة مع إدارة ترامب.

إلا أن غموض بعض البنود وعموميتها يفتح الباب أمام جولات إضافية من التباحث حول التفاصيل الدقيقة، وهو ما يبدو أنه الهدف الحقيقي لحماس في هذه المرحلة: تثبيت موقعها السياسي، وتجنب العزلة، وتفادي ضغوط واشنطن.

في المقابل، جاء الرد الإسرائيلي غامضًا ومزدوجًا. فقد أعلن مكتب نتنياهو استعداد الحكومة لتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة — وقف إطلاق النار واستعادة الرهائن — لكنه تجنب تقديم أي التزام صريح بشأن ما بعد ذلك، لا سيما الانسحاب من غزة أو إدخال المساعدات أو مناقشة مستقبل الحركة. ويُطرح هنا تساؤل جوهري: ماذا سيحدث إذا نفّذت حماس الجزء المتعلق بالأسرى وفقدت آخر أوراقها التفاوضية؟ هل ستجد “إسرائيل” نفسها مضطرة للمضي في المسار السياسي، أم أنها ستبحث عن ذريعة للنكوص والعودة إلى الحرب؟

وسط هذه المعادلة المعقدة، تتجه الأنظار إلى الدول العربية الوسيطة — مصر وقطر وتركيا والسعودية والأردن — التي شكرها ترامب في بيانه. فدورها لم يعد يقتصر على الوساطة الشكلية، بل باتت مسؤولة عن تحويل المبادرة إلى واقع، من خلال ضمانات واضحة تقيها من الانهيار، وممارسة ضغط دبلوماسي على الجانبين لانتزاع التزامات حقيقية، أما التحدي الأكبر فيكمن في إقناع ترامب بترجمة حماسه المعلن إلى خطوات عملية، وعدم السماح لنتنياهو بإجهاض فرصة السلام الجديدة كما فعل مرارًا في الماضي.

تحركات مٌريبة تفتح الباب على سيناريوهات عدة

وفقًا لتقارير عسكرية غربية وإسرائيلية، رفع الجيش الأمريكي خلال الساعات الماضية عدد منصات منظومة الدفاع الصاروخي THAAD المنتشرة في “إسرائيل” من 6 إلى 11 قاذفًا، كما زوّدها برادارات متطورة من طراز AN/TPY-2، وهي من أحدث أنظمة الإنذار المبكر والدفاع الجوي في العالم، هذا بخلاف تحريكه لواحدة من أكبر حاملات الطائرات لمنطقة الشرق الأوسط.

وتشير المصادر إلى أن هذه التعزيزات تأتي بعد أشهر من الحرب القصيرة بين “إسرائيل” وإيران في يوليو/تموز الماضي، والتي كانت تمتلك خلالها تل أبيب بطاريتين فقط من منظومة “ثاد”، قبل أن يتم نقل بطارية ثالثة من الإمارات إلى “إسرائيل” مؤخرًا.

صور الأقمار الصناعية التي نشرتها بعض الصحف الدولية أظهرت توسعات كبيرة في البنية التحتية الدفاعية الإسرائيلية، إلى جانب تطويرات في الأنظمة اللوجستية ومواقع التخزين العسكري، ما يعزز فرضية أن واشنطن وتل أبيب تستعدان لجولة صراع كبرى محتملة في الشرق الأوسط.

في المقابل، كشفت تقارير استخباراتية عن رفع إيران لمستوى جاهزيتها العسكرية، وتحريكها صواريخ باليستية إلى مواقع محصّنة في عمق الجبال، وسط حديث عن “أكبر حشد عسكري في تاريخها”.

وبينما يرى مراقبون أن هذه التحركات قد تمهد لمواجهة مفتوحة بين إيران و”إسرائيل”، يذهب آخرون إلى أنها خدعة استراتيجية، فيما قد يكون المسرح الحقيقي للمواجهة في جبهة أخرى غير متوقعة.

في ضوء هذا المشهد المركب، يمكن القول إن رد حماس على مقترح ترامب شكّل لحظة فارقة في مسار الصراع، ليس فقط لأنه قلب موازين التوقعات، بل لأنه أعاد تعريف معادلة القوة السياسية والإعلامية في المنطقة، فالحركة نجحت في تحويل وثيقة وضعتها واشنطن لتكريس واقع جديد في غزة إلى منصة اختبار حقيقية للنيات الأمريكية والإسرائيلية، وأجبرت الجميع على التعاطي معها كفاعل سياسي لا يمكن تجاهله.

أما واشنطن، التي سعت إلى تسجيل اختراق دبلوماسي سريع، فقد وجدت نفسها أمام استحقاق صعب: ترجمة الأقوال إلى أفعال، وإلزام “إسرائيل” بوقف الحرب وبدء مسار تفاوضي جاد، في وقتٍ تزداد فيه الضغوط الداخلية والخارجية على الإدارة الأمريكية، وبينما يحاول ترامب استثمار اللحظة انتخابيًا، تبقى حسابات الميدان وموازين القوى أكثر تعقيدًا من أن تُختصر في خطاب أو بيان.

في المقابل، تبدو “إسرائيل” في أكثر مراحلها ارتباكًا سياسيًا منذ بداية الحرب؛ فبين حكومة منقسمة وشارع ضاغط ومعارضة ترى في خطة ترامب فرصة لإنهاء المأزق، يجد نتنياهو نفسه عالقًا بين رفض الاستجابة للمبادرة وخشية الظهور بمظهر المعرقل أمام واشنطن، وهو ما يجعل قرارات تل أبيب القادمة اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على الموازنة بين أمنها الداخلي ومتطلبات التحالف الأمريكي.

في النهاية، تبقى الكرة في ملعب الوسطاء العرب والإقليميين الذين يمتلكون اليوم نافذة نادرة للتأثير في مجريات الصراع، ليس فقط عبر الوساطة، بل من خلال فرض ضمانات حقيقية تحول دون تكرار انتكاسات الماضي، فإما أن تتحول هذه اللحظة إلى بداية مسارٍ جديد نحو تهدئة مستدامة تعيد صياغة التوازنات في غزة، أو تضيع كما ضاعت عشرات الفرص السابقة، تاركة المشهد رهينة الغموض والعنف واللا يقين والعربدة الإسرائيلية.