احتجاجات “جيل زد”.. المغرب كمرآة لمخاوف السلطة في القاهرة

يحيا المغرب منذ أيام موجة احتجاجات غير مسبوقة، يقودها ويتصدرها تيار غير مؤدلج من الشباب، من أبناء “جيل زد” (الشباب الذين وُلدوا بين 1996 وأوائل عام 2010)، ممن خرجوا من رحم الفضاء الافتراضي إلى الشارع ليتحولوا بين غمضة عين وانتباهتها إلى قوة حقيقية تزلزل أركان الأرض في المملكة.

تلك المجموعات التي نشأت داخل جدران مغلقة من التطبيقات الإلكترونية مثل “ديسكورد”، ثمّ انتشرت كالنار في الهشيم في “فيسبوك” و”تيك توك” و”إنستغرام”، اختارت لنفسها الانزواء خلف شعارات ومطالب اجتماعية صرفة، مركزة سهامها صوب الخدمات الصحية ومستوى التعليم.

ورغم السقف المنخفض لتلك الاحتجاجات غير المركزية والتي تفتقد قيادة موحدة، إلا أن صداها تجاوز جغرافيتها الضيقة ليلقي بظلاله القاتمة على المشهد الإقليمي، حيث حالة القلق التي تخيم على الأنظمة السلطوية العربية التي تشعر بحساسية مفرطة إزاء أي حراك شعبي، لاسيما وإن كان وقوده الشباب الذي يصعب تأطيره والسيطرة عليه.

وتتصدر القاهرة قائمة العواصم التي تنظر لتلك الموجات الاحتجاجية المغربية، التي تعيد الأذهان إلى ربيع 2011، بعين الترقب والحذر، خشية انتقال العدوى، لاسيما وإن كانت الأجواء متشابهة إلى حد ما، حيث شنّ الإعلام المحسوب على النظام حملة تشويه ممنهجة لتلك الاحتجاجات وأهدافها، فما يحدث في الرباط ليس بالبعيد عن كل المدن العربية، بداية من الجزائر وصولاً إلى مسقط.. فلماذا تستشعر السلطات المصرية القلق؟

ليست مغربية خالصة

بداية لا يمكن النظر إلى حراك جيل زد في المغرب كونه حدثًا محليًا معزولًا، بل يأتي كحلقة في سلسلة مطولة أقرب إلى ظاهرة عالمية آخذة في التشكل والتمدد الأفقي والرأسي، إذ بدأت إرهاصات تمرد هذا الجيل على الأطر الأيديولوجية التقليدية، ممثلة في انطلاق موجة احتجاجية جديدة.

وكانت محطة الانطلاق الأولى لتلك الموجة من جنوب آسيا، تحديدًا من نيبال وبنغلاديش وسريلانكا، وذلك قبل أن تنتقل إلى محطتها الثانية نحو القارة الأفريقية، حيث كينيا ومدغشقر جنوب الصحراء، ثم تستهل مشوارها نحو الشمال بوابة المغرب.

هذه الموجة لاقت حضورها البارز في القارة الأوروبية أيضًا، حيث التظاهرات الاحتجاجية التي عمّت معظم عواصم القارة العجوز، من لندن إلى باريس مرورًا ببرلين وستوكهولم وأمستردام وأوسلو، وذلك بعدما فرضت نفسها كأحد الظواهر الفاعلة في المشهد الأمريكي، من نيويورك إلى واشنطن مرورًا بتكساس وسان فرانسيسكو وشيكاغو ودنفر.

الرابط بين كل هذا الحراك، رغم تباينه الجغرافي والأيديولوجي، أنه صنيعة جيل رقمي بالكامل، شباب في مقتبل العمر، قليلو الخبرة، متواضعو التجارب، يعيشون في عالم افتراضي، لكنه نجح في توظيف هذا الافتراض إلى منصة ينفّس فيها عن غضبه ورفضه لما يحدث، متجاوزًا كل الأطر التقليدية، وكافرًا بكل العقائد السياسية وممثليها، أحزابًا كانت أو حكومات.

ومن هذا العالم الافتراضي كانت نقطة الانطلاق نحو الميدان الحقيقي، حيث الشارع الذي احتضن تلك الملايين من الأمواج الشبابية الهادرة، التي نزلت وفق متلازمة هندسية برمجية عالية الدقة، وعبر طريقة شبكية مرنة، أربكت أجهزة الأمن من خلال انتشارها السريع وتغيّر مساراتها المفاجئ، رافعين مطالب واضحة، مطالبين بتحقيقها فورًا بعيدًا عن المسكنات السياسية المعروفة.

وأثبت هذا الجيل الذي تم تهميشه لعقود طويلة أنه أكثر وعيًا وتنظيمًا مما ظنّ الجميع، لقد حوّل المنصات الترفيهية وتطبيقات اللعب والتسلية إلى أدوات للتعبئة السياسية، كسر بها جدار الخوف في فضاء عام كان يعيش حالة خمول، ودشّن من خلالها أبجديات مرحلة جديدة من المرجح أن تنسف، وبشكل كبير، التابوهات القديمة التي باتت على بعد أمتار قليلة من الانزواء.

وها هو المغرب، وبصفته أول بلد عربي وأفريقي يواجه هذا النمط من الاحتجاجات بتلك الطريقة وبهذا العنفوان، يقف على حافة تحوّل تاريخي يعيد تعريف السياسة من خارج مؤسساتها التقليدية، مُصدّرًا حالة من القلق للجيران ودول المنطقة، خاصة في ظل الأرضية المشتركة التي تجمع بينه وبين خارطة الإقليم.

مصر والمغرب.. الاقتصاد كلمة السر

يتشابه وقود الاحتجاجات في المغرب ومصر حد التطابق، وهذا باعث القلق الرئيسي بالنسبة للقاهرة، حيث الظروف الاقتصادية والمعيشية المتردية، وتجاهل جيل الشباب وتسطيح وعيه عن عمد وقصد ممنهج، فضلًا عن الإدارة الفاشلة للموارد والقدرات.

بالنسبة للمغرب، جاءت الاحتجاجات مدفوعة بتراجع الإنفاق على الصحة والتعليم، وهو ما كان له أثره على مستوى التعليم والخدمات الطبية المقدمة للشباب والمواطنين بصفة عامة، فقد بلغت ميزانية قطاعي الصحة والتعليم في موازنة عام 2025 نحو 118 مليار درهم (نحو 11.5 مليار دولار)، أي 16.4% من الموازنة التي وصلت إلى نحو 721 مليار درهم (72.1 مليار دولار)

كما صنّف المنتدى الاقتصادي والاجتماعي (دافوس) المغرب في الرتبة 101 عالميًا والتاسعة عربيًا في جودة التعليم، في حين وضع مؤشر المعرفة العالمي المغرب في المرتبة 98 عالميًا من أصل 141 دولة، فيما وصل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 3.9% في عام 2025، ورغم ارتفاعه مقارنة بعام 2024 حيث وصل إلى 3.2%، إلا أن هذا لم يكن مُرضيًا للشارع المغربي.

أما عن معدلات البطالة، فتشير أحدث بيانات المندوبية السامية للتخطيط حول سوق العمل في المغرب خلال الربع الثاني من عام 2025 إلى أن عدد العاطلين بلغ نحو مليون و595 ألف شخص، أي بمعدل بطالة يُقدّر بـ 12.8%. كما حذّر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من واقع أكثر خطورة، إذ أشار إلى وجود 4.3 ملايين مغربي خارج سوق العمل والتعليم والتكوين المهني، بينهم نحو 1.5 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا.

ووفقًا لاستطلاعات المندوبية، فإن 80% من الأسر المغربية تتوقع ارتفاع معدلات البطالة خلال العام الجاري، في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة وصعوبة الحصول على فرص عمل، ما يعكس حالة القلق العام من انسداد آفاق التشغيل وغياب بدائل واقعية لامتصاص البطالة المتصاعدة بين الشباب.

ورغم تلك المؤشرات، إلا أن البرامج التي تبنتها الرباط خلال السنوات الأخيرة كان لها صداها الإيجابي على المستوى المعيشي، حيث انخفض معدّل الفقر المطلق بشكل كبير من 15.3% في العام 2001 إلى 1.7% في العام 2019، وفقًا للمندوبية.

أما على الجانب المصري، فربما تكون الصورة أكثر قتامة وسوداوية، ففي الوقت الذي ينص فيه الدستور على تخصيص نسبة 7% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على الصحة والتعليم (3% للصحة و4% للتعليم)، فإن المنفَق فعليًا لا يتجاوز 2.7% (1.5% للتعليم و1.2% للصحة)، أي أقل من نصف الميزانية المخصصة دستوريًا، وهو ما أدى لتراجع مستوى جودة التعليم في مصر التي تحتل المرتبة 95 عالميًا وفق مؤشر منتدى “دافوس” الاجتماعي الاقتصادي، وإن ذهبت تقارير أخرى إلى تراجع تلك المرتبة مؤخرًا إلى ما قبل الأخيرة (139)، وهو ما نفته وزارة التربية والتعليم المصرية بشكل رسمي.

الوضعية ذاتها في معدلات البطالة، التي بلغت نحو 6.1% خلال الربع الثاني من عام 2025 (أبريل – يونيو)، ليصل عدد العاطلين في مصر إلى 2.054 مليون فرد، من بين 33.6 مليون فرد هم إجمالي عدد القوى العاملة المصرية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)

تلك المؤشرات المتراجعة ساهمت بشكل كبير في بلوغ الفقر مستويات غير مسبوقة، وذلك بعدما كسرت حاجز الـ30%. فوفق آخر بحث للدخل والإنفاق تم نشره في 2020 وصل معدل الفقر فيه إلى 29.7%، فيما وصل معدل الفقر المدقع إلى 4.5%، وذلك قبل أن يرتفع المعدل إلى 34% في بحث الدخل لعام 2021/2022، والذي لم يُنشر بشكل رسمي، ما يعني أن هناك قرابة 34 مليون مصري لا يتجاوز دخلهم اليومي دولارًا واحدًا (47.6 جنيهًا)

جيل زد.. اللاعب الجديد الأكثر تأثيرًا

يشكل “جيل زد” في كل من مصر والمغرب رقمًا صعبًا في الخارطة السكانية، يؤهلهم لأن يكونوا تحت بؤرة الاهتمام لا التجاهل والتهميش. وتشير بيانات الإحصاء العام للسكان والسكن، الذي أُجري في العام الماضي، إلى أن عدد الشباب البالغ من العمر بين 15 و29 عامًا في المغرب يصل إلى 8.2 ملايين نسمة، من بين عدد سكان يُقدّر بحوالي 36.8 مليون نسمة، ما نسبته قرابة 25%، مما يجعلهم ثقلًا ديموغرافيًا لا يُستهان به.

أما في مصر، فيبلغ عدد الشباب في الفئة العمرية ذاتها 21.3 مليون نسمة بنسبة 19.9% من إجمالي السكان، منهم 51.9% ذكور و48.1% إناث، بينما بلغ عدد الشباب في الفئة العمرية من (15-24 عامًا) 18.8 مليون نسمة بنسبة 17.5% من إجمالي السكان، وذلك وفقًا لتعريف الشباب بإحصاءات الأمم المتحدة.

اللافت هنا، والذي يشكل عنصر الخطورة الأكبر، أن هذا الجيل يمتلك وعيًا سياسيًا عميقًا، حتى وإن ابتعد عن الأحزاب والنقابات، رافضًا الانخراط فيها لفقدانه الثقة في مصداقيتها، وبعدما باتت في نظره رموزًا للعجز والفساد. فهو كما يُطلق عليه جيل “ما بعد المؤسّسات”، لا ينطلق من اللامبالاة، بل من رغبة في إعادة تعريف العمل العام وصياغة أفق بديل خارج البنى التقليدية التي استنفدت دورها التمثيلي.

ومن هذا المنطق تتجلى المعضلة الأبرز أمام الأنظمة السلطوية، فآليات الضبط القديمة التي كانت ترتكن إليها تلك الأنظمة خرجت عن العمل بشكل كبير، فلم تعد الأحزاب قادرة على لعب دور الوسيط، فيما فقدت النقابات قدرتها على امتصاص الغضب الشعبي.

وعليه كانت النتيجة إفراز مشهد مقلق يتسم بمواجهة مباشرة، وربما محتدمة وصدامية، بين جيل غاضب تم تهميشه لسنوات، لكنه يمتلك أدواته الرقمية وتنظيمه الذاتي، وبين قوات أمن تعتمد الردع كوسيلة وحيدة والعنف كخطاب لا بديل له، في غياب أي قناة حوار أو جهة شرعية يمكن التفاوض معها، ما يجعل أي انفجار اجتماعي أكثر تعقيدًا وأصعب على الاحتواء.

كابوس 2011.. مما تخشى القاهرة؟

مع كل انتفاضة أو حراك شعبي يندلع في أي مدينة — عربية كانت أو أجنبية — تهتز القاهرة سياسيًا، كما لو أن صدى الهتاف في شوارع الرباط أو تونس أو بيروت قد يتردد في ميدان التحرير، فالنظام المصري يعيش في ظلّ يناير الأبدي؛ يأبى أن يخرج منه، تلك اللحظة التي لم تنتهِ فعليًا مهما طال محوها من الذاكرة الرسمية. فكل حدث احتجاجي ناجح، ولو محدودًا، يوقظ من سباته السؤال الذي لا يريد أحد في السلطة سماعه: هل يمكن أن يتكرر المستحيل؟

وفي هذا السياق، يبدو أن انتفاضة جيل زد في المغرب لا تُقرأ في القاهرة كحدثٍ محلي، بل كـ”مرآة مقلقة” تُظهر ما يمكن أن يحدث إذا تلاقت الظروف نفسها في الداخل المصري: قمع مستمر، وانقسام سياسي مزمن، وأزمة معيشية خانقة، وقطيعة متزايدة بين الدولة وشبابها. ولهذا ترى السلطة المصرية أي حراك شبابي — مهما كان عفويًا — من منظور الخطر، وتتعامل معه كشرارة محتملة يمكن أن تلامس هشيم الداخل.

فالمعضلة بالنسبة للنظام أن جيل زد خارج حساباته بالكامل، جيل لا يعرف الخوف كما عرفته الأجيال السابقة، ولا يعترف بالوسائط التقليدية، يمتلك أدوات اتصال عابرة للحدود وشبكات رقمية خلقت له عالمًا موازيًا يصعب اختراقه. هذا الجيل المحبط، لكن المتصل بالعالم، يمثل لغزًا سياسيًا للسلطات العربية، لأنه قادر على تحويل تجربة احتجاج في الرباط إلى فكرة قابلة للعدوى في القاهرة.

ومن هنا تنبع المخاوف الحقيقية: ليست من الشارع كما هو، بل من الوعي الشبكي المتنامي، ومن احتمال أن تتحول انتفاضة مغربية عفوية إلى نموذج مُلهم يعيد تعريف العلاقة بين الجيل الشاب والسلطة في العالم العربي. فالقاهرة، وإن كانت ساكنة في ظاهرها، تدرك أن أكثر ما يهدد الاستقرار ليس الحراك نفسه، بل الخيال السياسي الذي يولّده في العقول.

في الأخير..

لم تعد انتفاضة جيل زد في المغرب مجرد حدث داخلي، بل تحوّلت إلى إشارة إنذار إقليمية تثير قلق أنظمة المنطقة، وفي مقدمتها القاهرة، التي تخشى أن تنتقل عدوى الوعي قبل أن تنتقل عدوى الشارع. فالمسألة لا تتعلق باتساع رقعة الاحتجاج أو سقف مطالبه، بل بجوهره المختلف: جيل رقمي لا يؤمن بالوصاية، ولا يحتاج إلى مؤسسات ليعبّر عن ذاته أو يطالب بحقوقه، ويعتبر أن التغيير فعل مباشر لا يحتاج إلى تفويض أو ترخيص.

لقد دخلت المنطقة طورًا جديدًا من السيولة السياسية والاجتماعية، باتت فيه الأنظمة عاجزة عن التنبؤ بمصدر الخطر أو احتوائه بالأدوات القديمة. فهؤلاء الشباب الصغار، الذين نشأوا في فضاء افتراضي بلا حدود، لا يخضعون لسلطة الجغرافيا ولا لخطاب الترهيب، كما أنهم يمتلكون أدوات للتعبئة والتنظيم تفوق قدرة أجهزة الدولة على المراقبة والسيطرة والاحتواء. ومن هنا، يبدو أن ما بدأ في الرباط ليس سوى مقدّمة لمسار أوسع يعيد تعريف العلاقة بين الأجيال الجديدة والسلطة في العالم العربي.

إن قلق القاهرة الحقيقي لا يرتبط بمشهد التظاهر في شوارع الدار البيضاء، بل بوعي جماعي جديد يتشكّل خلف الشاشات، يتحول تدريجيًا إلى طاقة سياسية خفية تنتظر لحظة الانفجار. فالخطر ليس في الحشود ولا حجم ومستوى وعدد الاحتجاجات والمشاركين فيها، بل في الخيال السياسي الذي يصنعه هذا الجيل ويعيد من خلاله صياغة مفهوم الفعل والاحتجاج، في زمن لم تعد فيه السلطة تحتكر الحقيقة أو القدرة على التأثير.

وفي ظل محاولات الأنظمة محاصرة هذه الموجة بالتشويه أو الإنكار أو القمع، يتضح أن جيل زد بات فاعلًا سياسيًا جديدًا بلا زعيم ولا أيديولوجيا. جيل لا يسعى إلى تقويض الدولة، بل إلى إعادة تعريفها بما يجعلها أكثر شفافية وتمثيلًا. ومن المغرب، قد تبدأ ملامح تحوّل عميق سيجبر الجميع — حكامًا ومحكومين — على إعادة النظر في مفاهيم السياسة والشرعية والحرية في القرن الحادي والعشرين. فهل تستوعب القاهرة الدرس قبل فوات الأوان، وتفتح مسامعها جيدًا لتلك الأصوات، وتتخلى عن سياستها المعهودة في وأد أي صوت يغرد خارج السرب بزعم حماية الأمن القومي والتصدي لتقويض الاستقرار المزعوم ومواجهة “المؤامرة الكونية” الخزعبلية التي تستهدف مصر دون غيرها من دول العالم