غزة.. حيث تُكمل الإبادة طريقها إلى المقابر

عبر مكالمةٍ هاتفيةٍ تسيطر عليها نبرةٌ عصبيةٌ ممزوجةٌ بالغضب الشديد، يصدح صوت الشاب العشريني معتز عليان ناطقًا: “أريد إسمنتًا، لكي أغطّي الحجارة التي أسفلها جثمان صديق عمري فهد، قبل قدوم فصل الشتاء”. عشرُ مكالماتٍ هاتفيةٍ أجراها معتز منذ ارتقاء صديقه، وكان يتلقى ردًا واحدًا: “لا يوجد إسمنت، ما هو متوافر بأسعارٍ تتجاوز العشر أضعاف ولا يصلح للتماسك!”.
تتحجر دمعةٌ في عينيه العسليتين ويقول: “لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بقتل صديق طفولتي وعمري، بطوله وضحكته وحسّه الفكاهي، إنما لم يمنحه ويمنحني الحق الطبيعي في إكرامه، بدفنه وتغطية قبره بطريقةٍ شرعية”. تشاركه قسماتُ وجه الحُزن ذاته، ويضيف:”أتخوف من أن تنهش الكلاب الضالة جثمانه، حيث سبق وشاهدت الكلاب الضالة والمسعورة داخل المقابر تنهش وتسحب أجساد الشهداء وتتناولها أثناء المجاعة الأولى”.
يصمت الشاب العشريني لبرهةٍ من الوقت ثم يتنفس الصعداء: “برفقة أشقاء الشهيد فهد، قمنا بالبحث بين ركام البيوت المقصوفة واستصلحنا أفضل الحجارة، وخلطنا طين الأرض البني بعضه بالماء والحجارة الناعمة. التشييد لا يصلح لعمل قبر وفي أي لحظةٍ يكون عرضةً للانهيار، ومن ثم غطينا القبر بألواحِ صفيحٍ مزّقتها الشظايا الإسرائيلية، وقابلةٍ للتآكل بفعل عوامل الطبيعة والصدأ”. يتابع:”نحن ندرك أن الطينة والحجارة المتهالكة لن تسدّ مكان الإسمنت لقوته وسرعة التصاقه، لكن ما باليد حيلةٌ أخرى!”.
معاناة معتز ومصارعته للحصول على مواد بناءٍ لصناعة قبرٍ لصديقه الشهيد، ليست سوى مرآةٍ لمعاناةٍ يوميةٍ يعيشها أكثر من مليوني إنسان في غزة، لعدم سماح الاحتلال الإسرائيلي بإدخال الأكفان ومواد البناء والمواد اللازمة لتجهيز القبور، ما يحول دون دفن الشهداء وفقًا للضوابط الشرعية الإسلامية.
أزمة الدفن
يُخبر معتز “نون بوست” بصوتٍ تختلط فيه المرارة بالعجز: “أخاف من قدوم فصل الشتاء باكرًا، وأدعو الله ألّا يأتي الشتاء إلا وأكون قد أغلقت قبر فهد بالإسمنت وصنعت له شاهدًا يليق باسمه ومكانته العزيزة على قلبي. بالتأكيد الروح راحت عند ربنا الأرحم والأحن منا جميعًا، لكن إكرامها وحفظها واجبٌ ونوعٌ من الوفاء لجسده وذكراه الطيبة”.
على باب مقبرة الشيخ شعبان، المقابلة لمشفى الأهلي العربي “المعمداني”، تجلس أم نواف (60 عامًا) بجوار قبر فلذة كبدها محمد، الذي قتلت روحه صاروخُ “زنانة” إسرائيلية، ويُتمَّ أطفاله الأربعة دون أن يحظوا بطبع قبلة الوداع الأخير على جبين والدهم. تقول الأم بينما تضع يدها على شاهد قبر ابنها، ويعلوه صورته بابتسامته التي قتلتها “إسرائيل”: “استشهد محمد في بداية الحرب بعدما أخرج زوجته وأطفاله إلى جنوب القطاع، لحمايتهم من كثافة الضربات الإسرائيلية، وكنا محظوظين لأننا استطعنا أن ندفنه بطريقةٍ شرعيةٍ إسلامية، حيث كان متوافرًا أكفانٌ ومقابرُ بأسعارٍ طبيعيةٍ وحجارةٌ وإسمنت”.
تُكمل الأم بحرقةٍ وتنهيدة: “بينما في حال قبر زوجة ابنتي لم نكن محظوظين في دفنه، حيث لم يتوافر موادُ بناءٍ ومعداتٌ للقبر، وأغلب المقابر تم تجريفها من الاحتلال الإسرائيلي، حتى أجساد الشهداء لاحقها الاحتلال الإسرائيلي وحرمها الدفن!”.
تستكمل أم نواف: “في البداية، تم دفن جثمان زوج ابنتي في ساحة مستشفى المعمداني، لعدم توفر أماكن مع سيطرة الاحتلال على المدينة، ثم بعدها طلبت إدارة المستشفى نقل القبور من أجل وضع خيامٍ طبيةٍ لعلاج الجرحى والحالات الطارئة. ثم بدأت عائلته بالبحث عن مقابر، لكن أغلب المقابر ممتلئة، والأخرى لا يمكن الوصول إليها، مثل: المقبرة الشرقية، ومقبرة التوانسة، ومقبرة أبو الكاس في حيّ الشجاعية، حيث جرفها الاحتلال، وباتت مناطق قتالٍ حمراء”.
تشكو العديد من العائلات الفلسطينية من عدم توفر قبورٍ لدفن ذويهم الشهداء والأموات، بعد تجريف الاحتلال العديد من المقابر في قطاع غزة، ويلجأ بعضهم إلى فتح القبور القديمة من أجل دفن جثامين إضافية داخلها.
“تم فتح قبر جدّ زوج ابنتي، بعد تجاوز أسعار القبور 1000 شيكل، لعدم توافر مساحات فارغة للدفن، ولا مواد بناء، حتى حفّاري القبور في أحيان كثيرة يبنون قبورًا فوق القبور، من أجل استيعاب أعداد الشهداء”، تضيف أم نواف.
سوق مخيم جباليا في غزة يتحول إلى مقبرة جماعية في ظل تعذر دفن الشهــ..ــداء في المقابر بسبب استمرار القصــ..ــف العشوائي والحصار الإسرائيلي الخانق على القطاع #طوفان_القدس#غزة_تستغيث pic.twitter.com/R4NVYLlCYy
— نون بوست (@NoonPost) December 12, 2023
في مدينة دير البلح، يخرج حفار القبور، أبو جهاد بركة، نحو المقبرة التي يقضي فيها يومه بين الشهداء، فيما تمارس أنامله المُجعدة مهمة حفر القبور والبحث عن مساحات لإضافة قبرٍ جديد. وبنبرةٍ عصبيةٍ ممتزجةٍ بالغضب، يفتتح حديثه: “الاحتلال الإسرائيلي ما ترك الأحياء، ولاحق الأموات أيضًا. هذه المقابر جرفها وانتهك حرمتها، والأكفان يمنع دخولها، ولا يخلو يوم من الشهداء والأموات”.
يتابع حفار القبور: “المقابر باتت ممتلئة، ومواد البناء مفقودة منذ بداية حرب الإبادة. في البداية، تم استخدام ما هو متوافر من حجارة وإسمنت وبلاط، لكن في الوقت الحالي، ومع طول مدّة الحرب وكثرة الضحايا، ندفن الشهداء فوق بعضهم البعض”. يقاطع ابنه أحمد الحديث قائلًا: “فش وقت، بدنا نلحق ندور على مساحة ونحفر للشهداء القادمين!”.
يعمل حفّارو المقابر في ظروفٍ خطِرة وصعبة، إذ استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عددًا منهم أكثر من مرّة خلال عملهم في حفر القبور وتجهيزها.
يختتم حفار القبور حديثه موجهًا رسالةً بصوتٍ عالٍ: “تعالوا على المقابر، صوروها، واحكوا للعالم: حتى الشهداء إسرائيل مش تاركاهم بحالهم، يا عالم!”.
وزارة الأوقاف: أكثر من 40 مقبرة دُمّرت جزئيًا أو كليًا
تواصلت “نون بوست” مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة، فاستنكرت الوزارة بشدة منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال الأكفان ومواد بناء القبور، واعتبرتها خطوةً لا إنسانية تُضاف إلى سلسلة من الانتهاكات الممنهجة بحق الشعب الفلسطيني.
“حرمان الأسر الثكلى من حق دفن أبنائها في قبورٍ لائقة، هو اعتداءٌ صارخٌ على القيم الدينية والإنسانية كافة، وانتهاكٌ فاضحٌ للمواثيق الدولية التي كفلت احترام الموتى ومعاملة ذويهم بكرامة”، تقول وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة.
تؤكد الوزارة:”استهدف الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 40 مقبرةً من أصل 60 مقبرةً في قطاع غزة، مدمّرًا (22) مقبرةً تدميرًا كليًا، وتضررت (18) مقبرةً بأضرارٍ بالغة، علاوةً على تجريف القبور ونبشها وسرقة أكثر من 2300 من جثامين الشهداء، مما اضطر المواطنين إلى دفن الشهداء والموتى في مقابر جماعية داخل ساحات المستشفيات والمدارس، والحدائق العامة، وفي بعض الأحيان في الشوارع والطرقات”.
تسأل “نون بوست” وزارة الأوقاف عن عدد الشهداء الذين لم يتم دفنهم بالطريقة الشرعية، وترد الوزارة:”لا توجد إحصائياتٌ حاليًا لأعداد الشهداء الذين تم دفنهم بطريقة غير شرعية في الطرقات وساحات المستشفيات والمنتزهات العامة، لكن توجد تقارير وإحصاءات وتقارير ميدانية من مؤسساتٍ صحيةٍ وحقوقيةٍ وإعلامية تُوثِّق حالاتِ دفنٍ غير رسمية مثل حجز جثامين، ومقابرَ رقميةٍ/ مقابرَ جماعية”.
تُشير مصادر فلسطينية وإعلامية إلى وجود مئات الجثامين المحتجزة لدى سلطات الاحتلال، ومن ذلك رقمٌ مُجمّعٌ ذُكر بأنه يصل إلى 684 جثمانًا محتجزًا حتى أبريل/ نيسان 2025، منها 256 في ما يُعرف بمقابر “الأرقام”.
تستكمل الوزارة: “اشتداد الحصار ومنع دخول مواد البناء فاقم المشكلة، لم نتمكن من توفير وبناء قبور، ما أدى إلى استخدام الصفيح (الزينقو) في تغطية قبور الشهداء والموتى، بديلًا عن البلاط المصنوع من الإسمنت، وهذا أدى إلى انبعاث الروائح من جثث الموتى والشهداء، إضافةً إلى نبش الحيوانات الضالة للقبور”.
تختتم الوزارة الحديث: “نسعى في الوزارة والجهات الحكومية بشكلٍ مستمر لتوفير أراضٍ في مناطق أكثر أمنًا لاستخدامها كمقابر مؤقتة، إضافةً إلى زيادة مساحة بعض المقابر الموجودة في المناطق المصنفة بأنها آمنة وفق ادعاء الاحتلال، حيث لا يوجد مكان آمن البتة في قطاع غزة”.
بات الموت والدفن في مدينة غزة، رحلةً من البحث الممزوجة بالألم والشقاء، تُبَلّلها دموع الأحباب، بوجعٍ لا ينتهي لدفن كرامة جسدٍ بتراب أرضه.