هندسة ما بعد الإبادة: خريطة المواقف العربية من “اليوم التالي” في غزة

يبدو مشهد جلوس قادة الدول الثماني العربية والإسلامية مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في نيويورك، على هامش اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، كأنه لحظة رمزية تُلخِّص طبيعة المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية، فذلك الاجتماع، الذي خُصِّص لبحث جهود إنهاء الحرب على قطاع غزة وتبادل الأسرى، مثَّل أحد أندر اللحظات التي اجتمع فيها هذا العدد من الزعماء العرب والمسلمين لمناقشة الملف الفلسطيني بصورة مباشرة مع رأس الإدارة الأمريكية.

وعلى الرغم من أن مخرجات اللقاء، الذي عُقد في 24 سبتمبر/ أيلول المنصرم، بدت توافقية في عناوينها، فإن ما دار في كواليسه كشف تبايناتٍ عميقة بين الدول المشاركة، سواء في قراءة المشهد الفلسطيني الراهن، أو في تصوّرها لشكل النظام السياسي الذي يُفترض أن يدير المرحلة المقبلة.

لكل دولة رؤيتها الخاصة، ومصالحها الأمنية، ومستوى نفوذها في الملف الفلسطيني، وهو ما يجعل الموقف العربي منقسمًا – أحيانًا بحدَّة – بين من يسعى إلى تجديد السلطة الفلسطينية ودمج الفصائل في إطارها، ومن يدفع نحو هندسة نظام جديد بالكامل يخلو من قوى المقاومة ويُدار بوصاية إقليمية أو دولية.

تحت عنوان “هندسة المستقبل”، يتحرك كل طرف وفق مقاربته الخاصة لما بعد الحرب، فثمّة من يرى أن استقرار الإقليم يبدأ من إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني بما يتوافق مع معادلات الأمن الإقليمي، وثمّة من يُدرك أن الشرعية السياسية في المنطقة ما تزال تمر عبر البوابة الفلسطينية، وأن التحكم بمخرجات هذه المرحلة يمنح نفوذًا مضاعفًا على مسارات السياسة والأمن في الشرق الأوسط.

وبالتالي، فإن ما يجري اليوم لا يقتصر على إعادة إعمار غزة، بل هو إعادة تشكيلٍ للنظام السياسي الفلسطيني بكل رموزه وبُناه وموازين قواه، فالاحتلال يسعى إلى فرض معادلات جديدة، والولايات المتحدة تُعيد صياغة المعادلة عبر “خطة ترامب” التي تحوّلت إلى مشروعٍ سياسي شامل، بينما تتنافس العواصم العربية والإسلامية على تثبيت حضورها في معادلة “اليوم التالي”، كلٌّ وفق حساباته الخاصة للنفوذ والشرعية والوزن الإقليمي.

ومن هنا، تأتي أهمية تفكيك المشهد العربي والفلسطيني الراهن، عبر تتبُّع الخلفية التاريخية لمحاولات الهيمنة العربية على القرار الفلسطيني، مرورًا بأنماط التدخل بعد اتفاق “أوسلو”، وصولًا إلى مرحلة ما بعد الإبادة التي تشهد سباقًا محمومًا لإعادة هندسة النظام السياسي الفلسطيني على أنقاض غزة المنكوبة.

محاولات تاريخية للهيمنة العربية على النظام السياسي الفلسطيني

منذ بدايات تشكُّل الحركة الوطنية الفلسطينية، ظلَّت محاولات الدول العربية للتأثير في شكل وتركيبة النظام السياسي الفلسطيني حاضرة بوصفها أحد الملامح الثابتة في مسار الصراع على القرار الوطني المستقل.فالقضية الفلسطينية لم تكن منذ النكبة شأنًا فلسطينيًّا خالصًا، بل ميدانًا مفتوحًا لتقاطع المصالح والحسابات العربية المتناقضة، إذ سعت كل دولةٍ – وفق موقعها ومخاوفها وطموحاتها الإقليمية – إلى أن تكون لها اليد العليا في توجيه المسار السياسي الفلسطيني أو احتوائه ضمن رؤيتها للأمن القومي.

بدأت أولى محاولات “التأطير العربي” للنظام السياسي الفلسطيني مع تأسيس حكومة عموم فلسطين في غزة في العام 1948، التي أعلنت الجامعة العربية عنها (بعد تعديل المقترح الفلسطيني الأصلي) كإطار رمزي لمواجهة مشروع ضمّ الضفة الغربية إلى الأردن، غير أن هذه الحكومة وُلدت محدودة الصلاحيات ومكبَّلة بوصاية مصرية كاملة، قبل أن تُلغى فعليًّا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر في العام 1959، بعدما فقدت كلَّ مضمونها السياسي.

في المقابل، كان الأردن قد نجح في فرض ضمِّه للضفة الغربية وإدماج الفلسطينيين في جهاز الدولة الأردنية، في خطوةٍ مثَّلت أول محاولة فعلية لتحييد الكيانية الفلسطينية المستقلة وتحويلها إلى ملحق إداري تابع.

ومع انطلاق الكفاح المسلح في ستينيات القرن الماضي، تحوَّل التنافس العربي إلى ساحةٍ موازيةٍ للمعركة مع الاحتلال، فكلٌّ من سوريا والعراق وليبيا ومصر حاولت توجيه الفصائل الفلسطينية بما يخدم خطوطها السياسية، فأنشأت دمشق حركة “الصاعقة” كذراع فلسطينية تابعة لها، فيما تبنَّت بغداد وبعض العواصم الأخرى فصائل موازية لخلق توازنات داخل منظمة التحرير الفلسطينية.

أفرز هذا النمط من “الاحتضان المشروط” للفصائل أزماتٍ داخليةً متكررةً في البنية الفلسطينية، وجعل القرار الوطني الفلسطيني في كثير من الأحيان رهينةً للتجاذبات العربية البينية أكثر من كونه انعكاسًا لإرادة الفلسطينيين أنفسهم.

وجاء مؤتمر القمة العربية في الرباط في العام 1974 ليُشكِّل نقطة تحوُّل نسبية، حين اعترف القادة العرب بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، في محاولةٍ لإنهاء ازدواجية التمثيل واحتواء الصراع الأردني – الفلسطيني، لكن هذا الاعتراف لم يُنهِ تمامًا محاولات التأثير، إذ ظلَّت بعض العواصم ترى في النفوذ داخل المنظمة وسيلة لحماية مصالحها الإقليمية، أو أداة ضغط في موازينها مع أطراف عربية ودولية أخرى.

أنماط التدخل العربي بعد اتفاق “أوسلو”

مع توقيع اتفاق “أوسلو” في العام 1993، ودخول منظمة التحرير الفلسطينية في مسار التسوية السياسية، تبدَّلت ملامح التدخل العربي في الشأن الفلسطيني، وانتقل من مرحلة الهيمنة المباشرة إلى مرحلة “إدارة النفوذ” عبر أدوات ناعمة تتراوح بين الدعم المالي والسياسي والوصاية الدبلوماسية.

أفرزت “أوسلو” واقعًا جديدًا، تمثَّل بقيام السلطة الفلسطينية ككيان إداري محدود الصلاحيات، لكنه يحمل رمزية الدولة المنتظرة، وهو ما أغرى العديد من الدول العربية لمحاولة التأثير في بنيته واتجاهاته حفاظًا على مصالحها أو استثمارًا في موقعها الإقليمي.

برزت مصر بوصفها اللاعب الأكثر حضورًا، بحكم الجغرافيا والدور التاريخي، فأمسكت بملف قطاع غزة، واحتفظت لنفسها بموقع “الضامن والموجِّه” لكل مسار سياسي أو أمني يتعلق بالقطاع، سواء في التهدئة أو في المصالحة الفلسطينية الداخلية. وفي المقابل، كان الأردن يسعى إلى تثبيت حضوره في ملفات القدس والضفة الغربية عبر التنسيق الأمني والديني والإداري، حفاظًا على مكانته التقليدية في إدارة المقدسات الإسلامية، وضمان ألَّا يُهمَّش في أية تسوية نهائية.

وأما الدول الخليجية، فمارست تدخلها من بوابة التمويل والإعمار، إذ تحوَّل الدعم الاقتصادي إلى وسيلة ضغط سياسية ناعمة تُستخدم لضبط الإيقاع الفلسطيني وفق محددات السياسة الإقليمية. فقد ارتبطت المساعدات المالية في كثير من الأحيان بمواقف سياسية محددة، خصوصًا في خلال مراحل الانقسام الداخلي بين غزة ورام الله، حين حاولت بعض العواصم استخدام المال لتقوية طرفٍ على حساب آخر أو لضبط سقف التصعيد السياسي.

وعلى الرغم من أن مرحلة ما بعد “أوسلو” منحت الفلسطينيين شكلًا مؤسساتيًّا للحكم الذاتي، فإن القرار الوطني ظلَّ محاصرًا بين أدوات النفوذ العربية المتباينة، فكل دولةٍ حاولت أن تضمن لنفسها موطئ قدم في صياغة مستقبل الكيان الفلسطيني، سواء عبر المفاوضات، أو من خلال أدوات الدعم، أو حتى عبر احتضان التيارات السياسية المتناقضة.

وهكذا، انتقل التأثير العربي من فرض الوصاية المباشرة إلى تدوير الهيمنة بوسائل جديدة، جعلت النظام السياسي الفلسطيني مرآةً لتوازنات الإقليم أكثر مما هو انعكاسٌ لإرادة الفلسطينيين أنفسهم.

ما بعد الإبادة..

منذ الأسابيع الأولى لحرب الإبادة على قطاع غزة، برز مصطلح “اليوم التالي” على لسان وزير الخارجية الأمريكية والمتحدثين باسم البيت الأبيض، ليتحوَّل سريعًا إلى أحد أبرز عناوين النقاش السياسي حول مستقبل الحرب.

وعلى الرغم من أن هذا النقاش يبدو ظاهريًّا محصورًا في إدارة القطاع بعد الحرب، فإن أبعاده الاستراتيجية تتجاوز حدود القطاع لتطال شكل وتركيبة النظام السياسي الفلسطيني بأكمله، الذي ظلَّ عرضة لتجاذبات عربية ودولية متشابكة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994، وتفاقمت هشاشته مع الانقسام الداخلي في العام 2007، الذي عمَّق الانفصال الإداري والجغرافي بين غزة والضفة الغربية.

في هذا السياق، تعمل عددٌ من الدول العربية الأكثر التصاقًا بالملف الفلسطيني، بالتنسيق مع أطراف دولية، على بلورة رؤى متباينة لما بعد الحرب، تتراوح بين محاولات تثبيت نموذج السلطة الفلسطينية بصيغتها الراهنة، ومساعٍ إلى إعادة هندسة النظام السياسي الفلسطيني جذريًّا بما ينسجم مع التصورات الأمريكية والإسرائيلية لـ”اليوم التالي”. وبرز في هذا الإطار مصطلح “السلطة المتجددة“، الذي انطلق من واشنطن، وسرعان ما تحوَّل إلى بند ثابت في النقاشات العربية، مع انقسامٍ واضح بين العواصم التي ترى في السلطة الفلسطينية الممثل الطبيعي للشعب الفلسطيني، وأخرى تعدُّها مؤسسةً باليةً فقدت شرعيتها ومبرر وجودها، يجب استبدالها أو إعادة بنائها بالكامل.

الأردن: التمسك بالسلطة بوصفه ركيزة للاستقرار

يرى الأردن في الضفة الغربية امتدادًا مباشرًا لهامشه الحيوي وأمنه القومي، وقد كان تاريخيًّا الأكثر احتكاكًا بالنظام السياسي الفلسطيني، لذا تتمسَّك عمَّان بالسلطة الفلسطينية بصورتها الحالية، بوصفها الشكل الأنسب لضمان الاستقرار وتوازن النفوذ في الإقليم، دون اعتراضات جوهرية على شخصياتها أو بنيتها، طالما لم تَمسَّ مصالحه الأمنية أو الرمزية في القدس والضفة الغربية.

وترى المملكة أن أية إصلاحات يجب أن تبقى ضمن النطاق الإداري، إذ يشكِّل استقرار الضفة الغربية بالنسبة إليها شرطًا لازمًا لمنع انتقال أي فوضى إلى حدودها، خاصةً أن عشرات الآلاف من سكان الضفة يحملون الجنسية الأردنية، ما يجعل أي تغيير جذري في تركيبة الحكم هناك قضية أمنٍ وطني لا مجرد نقاش سياسي.

مصر: تثبيت النظام واحتواء الفصائل

لطالما كانت مصر لاعبًا محوريًّا في الشأن الفلسطيني، خصوصًا فيما يتعلق بقطاع غزة الذي يمثِّل امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي، ومع تصاعد الحديث عن “اليوم التالي”، قدَّمت القاهرة خطة إعادة إعمار شاملة بتكلفة تتراوح بين 20 و30 مليار دولار، شكَّلت ردًّا على أطروحات تهجير أهالي القطاع، وتتضمَّن تشكيل هيئة حكومية تُشرف على الإعمار، وتستبعد حركتَي “حماس” والسلطة الفلسطينية من المعادلة التنفيذية الانتقالية، في محاكاة جزئية تهدف إلى تجاوز الطرح الإسرائيلي القائم على قاعدة “نزع السياسة مقابل الإعمار”.

وفي الوقت ذاته، ما تزال مصر تتمسَّك بالسلطة الفلسطينية بوصفها إطارًا شرعيًّا للنظام السياسي، لكنها تدعو إلى دمج القوى الفلسطينية في بنيته، بما يُحقِّق نوعًا من الاستقرار السياسي والأمني، وتحديدًا في قطاع غزة الذي تقترح الخطة المصرية أن تُفضي المرحلة الانتقالية إلى عودة حكم السلطة إليه.

كما تُبدي القاهرة حرصًا على بقاء نفوذها التقليدي في ملفات الوساطة والمصالحة، إضافةً إلى احتفاظها بعلاقات قوية مع القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، الذي تراه القاهرة أحد مفاتيح إعادة ضبط البيت الفتحاوي والسلطوي من الداخل.

غير أن تعيين حسين الشيخ نائبًا لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لم يكن محط ارتياح مصري، كونه أغلق الباب أمام إمكانية توحيد حركة “فتح” من جديد، وضرب جوهر الإعلان الذي أطلقه الرئيس محمود عباس في خلال قمة القاهرة في مارس/ آذار الماضي، حول المصالحة الداخلية والعفو الفتحاوي.

السعودية: بين الرعاية السياسية والمشروطية الأمنية

سعى السعودية إلى أن تكون جزءًا من مسار التسوية الإقليمية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة، التي تشمل إعادة إعمار غزة ضمن خطة أوسع تهدف عبرها لإحياء مسار الدولة الفلسطينية. وترى الرياض أن أي تمويل أو دعم سياسي يجب أن يكون مشروطًا بنزع سلاح “حماس”، وبوجود سلطة فلسطينية “مجدَّدة” تمتلك شرعية داخلية ودعمًا دوليًّا.

وتخشى المملكة من أن يؤدي ضخ الأموال في مشاريع الإعمار دون ضمانات أمنية إلى تدميرها مجددًا في أية مواجهة قادمة، لذلك فهي تشترط قطاعًا “منزوع السلاح“، وتُصرّ على أن تمرَّ عملية الإعمار من خلال السلطة الفلسطينية أو هيئة دولية ذات شرعية معترف بها.

وعلى الرغم من تحفُّظها على أداء السلطة، فإن الرياض لا تسعى إلى إسقاطها، بل إلى تقويتها بعد إصلاحها، وتعدُّها الشريك المقبول الوحيد القادر على إدارة مرحلة ما بعد الحرب، وقد كان واضحًا وجود دعم سعودي لنائب الرئيس الفلسطيني المُكلَّف حديثًا حسين الشيخ.

الإمارات: من المانح الإنساني إلى المهندس السياسي

تُعد الإمارات اليوم أكثر الدول العربية انخراطًا في رسم ملامح “اليوم التالي”، مستفيدةً من شبكة علاقاتها الوثيقة مع “إسرائيل” والولايات المتحدة، ومن موقعها كمموِّل رئيسي محتمل لإعادة الإعمار. وفي خلال شهور الحرب، عقدت أبوظبي اجتماعات سرية مع مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، من بينهم مبعوث الرئيس الأمريكي السابق بريت ماكغورك، ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، لمناقشة خطط إعادة هيكلة الحكم في غزة.

ووفق تقارير موقع “أكسيوس” وصحيفة “يسرائيل هيوم”، قدَّمت الإمارات مقترحًا لإنشاء إدارة مؤقتة في غزة، تستند إلى سلطة فلسطينية “مجدَّدة” أو هيئة تكنوقراطية مدعومة دوليًّا، شرط نزع سلاح حماس بالكامل قبل بدء أي تمويل.

كما عبَّرت المندوبة السابقة في الأمم المتحدة، لانا نسيبة، عن استعداد الإمارات لإرسال قوات ضمن بعثة دولية مؤقتة لحفظ السلام في غزة، شريطة أن تكون الولايات المتحدة القائد السياسي للعملية، وأن تدعوها سلطة فلسطينية جديدة يقودها رئيس وزراء يتمتع بالصلاحيات والاستقلالية.

وفي تصريحات وزيرة التعاون الدولي ريم الهاشمي، شدَّدت الإمارات على أن “الاستقرار في غزة يبدأ من تشكيل حكومة فلسطينية جديدة برئاسة شخصية مستقلة وكفوءة، تُدير إعادة الإعمار، وتمهِّد لتوحيد الضفة وغزة في ظل سلطة شرعية واحدة”. إلى جانب ذلك، تُعرف الإمارات بأنها الداعم الرئيسي للقيادي الفتحاوي محمد دحلان، الذي ترى فيه، وعن طريق حلفائه في المشهد الفلسطيني، مدخلًا لبناء بديل للنظام السياسي القائم، يمكن أن يُنتج نموذج حكم جديد “من خارج الصندوق”، ومنفصل عن البنية التقليدية للسلطة الفلسطينية.

وتقدِّم أبوظبي في هذا الإطار حزمة أفكارٍ متعددة حول قطاع غزة والمشهد الفلسطيني برمَّته، تتقاطع في كثير من تفاصيلها ومصطلحاتها مع ما ورد في خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خصوصًا لجهة إعادة صياغة النظام التعليمي، وإعادة تعريف مفهوم “الأمن” داخل المؤسسات الفلسطينية، وربط الإعمار بالتحوُّل السياسي الكامل.

جعل هذا الطرح الإماراتَ الأكثر انسجامًا مع الرؤية الأمريكية، سواء في مسألة نزع السلاح أو في فكرة الإشراف العربي – الدولي على القطاع، وتفكيك الطابع الوطني المقاوم للنظام السياسي الفلسطيني.

قطر: الإصلاح المشروط ودمج المقاومة

في المقابل، تُبقي قطر على موقعها بوصفها أحد أبرز الفاعلين في المشهد الفلسطيني، بحكم استضافتها لقيادة حركة “حماس”، وتقديمها تمويلًا متواصلًا للبنية التحتية والمشاريع الإنسانية في القطاع. وعلى الرغم من ذلك، تحتفظ الدوحة بعلاقات رسمية مع السلطة الفلسطينية، ومع الرئيس محمود عباس، وتتبنى رؤية تدعو إلى إصلاح شامل للنظام السياسي الفلسطيني عبر دمج “حماس” والجهاد الإسلامي في بنيته، كضمانة لاستقرار الحكم ووحدته.

وعلى الرغم من أن الموقف القطري ظل حتى منتصف 2024 رافضًا لأي شرط لنزع السلاح مقابل الإعمار، فقد بدأت الدوحة مؤخرًا بالتفاعل مع مبادرات عربية ودولية تتحدث عن ترتيبات تدريجية لنزع السلاح تحت إشراف أممي أو عربي، خصوصًا في إطار المبادرة السعودية–الفرنسية التي تدعو لإحياء “حلِّ الدولتين”.

تسعى قطر إلى أن تبقى طرفًا أساسيًّا في هندسة “اليوم التالي”، سواء بصفتها شريكًا في الإعمار، أو بوصفها ضامنًا لتمثيل حماس في أية بنية سياسية مقبلة، حفاظًا على وزنها الإقليمي ودورها كوسيطٍ مقبول من الأطراف كافة. وتُظهر النقاشات الجارية أن الانقسام العربي حول مستقبل النظام السياسي الفلسطيني أعمق من مجرد تباين في المواقف، إذ يعكس اختلافًا جذريًّا في الرؤى حول طبيعة “الكيانية الفلسطينية” ذاتها.

فبينما يتمسك محور (مصر – الأردن – السعودية) بسلطةٍ فلسطينية متجدَّدة دون تغييرٍ جوهري في بنيتها، تسعى الإمارات إلى بناء نموذج إداري جديد منزوع المقاومة والسيادة، وتدعم قطر خيار الإصلاح الشامل ودمج الفصائل ضمن منظومة وطنية جامعة.

وبين هذه المسارات الثلاثة، تواصل واشنطن و”تل أبيب” الاستثمار في التناقضات العربية، بحثًا عن صيغةٍ تُعيد هندسة النظام الفلسطيني بما يضمن أمن “إسرائيل” واستمرار الوصاية الإقليمية على القرار الوطني الفلسطيني، بدلًا من استقلاله الذي شكَّل لعقودٍ مصدر القلق الحقيقي للمنظومة الغربية والعربية المحافظة على حدٍّ سواء.

بين وصايتين.. والبحث عن إرادة مستقلة

على امتداد العقود السبعة الماضية، ظلَّ النظام السياسي الفلسطيني ساحةً مفتوحة لتقاطع الإرادات الإقليمية والدولية، ومحطة اختبارٍ دائمة لتوازنات القوى في العالم العربي. فمنذ أولى محاولات الوصاية العربية بعد النكبة، مرورًا بمرحلة التحرر الوطني وقيام منظمة التحرير، ثم السلطة الفلسطينية واتفاق “أوسلو”، وصولًا إلى ما بعد حرب الإبادة، لم يكن الصراع على فلسطين يومًا محصورًا بين شعبٍ تحت الاحتلال وعدوٍّ غاصب، بل كان أيضًا صراعًا على من يمتلك مفاتيح القرار الفلسطيني: هل هو الشعب نفسه، أم المنظومة التي تحاول تشكيل وعيه ومصادرة إرادته؟

اليوم، بعد عامين من أفظع الحروب التي عرفها القرن الحديث، تتقاطع المبادرات العربية والدولية مجددًا على أرض غزة، لكن لا بوصفها أرض مقاومة، بل كمختبرٍ لنظام سياسي جديد يُراد له أن يولد منزوع السلاح، مقيَّد الإرادة، ومحكومًا بشبكةٍ من الوصايات المالية والأمنية والإدارية.
وبينما يتباين الموقف العربي بين من يتمسَّك بالسلطة بصيغتها الحالية، ومن يسعى إلى تجديدها أو استبدالها، ومن يريد تفكيكها كليًّا، فإن القاسم المشترك بين الجميع هو أن الكيانية الفلسطينية لم تُترك لتقرِّر مصيرها بنفسها، وأن مستقبلها يُرسَم مجددًا في العواصم أكثر مما يُصاغ في الميدان.

وفي ظلِّ هذا المشهد، يبرز سؤال جوهري: هل سيُكتب للنظام السياسي الفلسطيني أن ينهض من تحت الركام كجسمٍ وطني جامع، أم سيُعاد تشكيله وفق هندسةٍ تضمن أمن الاحتلال واستمرار الوصاية العربية والدولية؟

يتوقَّف الجواب على قدرة الفلسطينيين على استعادة مركز القرار من خارج دوائر النفوذ، وبناء نظام سياسي يستمد شرعيته من الميدان لا من العواصم، ومن إرادة الناس لا من مصالح الأنظمة. فالإعمار بلا سيادة، والتجديد بلا استقلال، سيُعيدان إنتاج الأزمة ذاتها بثوبٍ جديد، ويؤجلان الانفجار القادم لا أكثر.

إن ما بعد الإبادة ليس مجرد عنوانٍ لمرحلة سياسية جديدة، بل اختبارٌ وجودي لقدرة الفلسطينيين على انتزاع حقهم في أن يكونوا أصحاب قرارٍ في نظامهم السياسي، وأن يُثبتوا للعالم أن الشعب الذي صمد في وجه الإبادة، قادرٌ أيضًا على صياغة مستقبله، بعيدًا عن الوصاية، وعن كل من يرى في غزة ساحةً لتجريب نظرياته الأمنية أو لترميم نفوذه الإقليمي.