لاهاي في قفص الاتّهام: المدعي العام يطارد إسرائيل ويواجه فضيحة جنسية

ترجمة وتحرير نون بوست
أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 في أعقاب المجازر التي شهدتها رواندا والبلقان، بهدف محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في المستقبل. وقد بدأت عملها بوتيرة بطيئة، إذ أصدرت خلال أول عقدين أقل من أربعين مذكرة توقيف علنية استهدفت معظمها زعماء وميليشيات في أفريقيا بينما نادرًا ما واجهت القوى الدولية الكبرى أو حلفاءها المقربين، ما دفع المنتقدين إلى القول إنها تعاقب الضعفاء وتتغاضى عن الأقوياء. ويُشار إلى أن 125 دولة وقّعت على المعاهدة التي تعترف بالمحكمة، لكن الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل ليست من بينها.
تخضع المحكمة لإشراف جمعية الدول الأعضاء، وقد انتخبت في سنة 2021 كريم خان مدعيًا عامًا جديدًا، وهو محامٍ بريطاني (55 عامًا) وُلد لأب مهاجر من باكستان. وكان خان قد شغل سابقًا منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، حيث أشرف على الفريق الذي حقق في الانتهاكات التي ارتكبها تنظيم الدولة. وقد تعهّد خان بإعادة تنشيط المحكمة الجنائية الدولية من خلال الوفاء بوعدها بتحقيق العدالة المتساوية للجميع.
تباهى خان أمام زملائه بأن حصل خلال أول ثلاث سنوات له من توليه المنصب على أكثر من أربعين مذكرة توقيف جديدة، بعضها لم يُعلن عنه بعد. ومن بين المذكرات العامة أوامر باعتقال فلاديمير بوتين وكبار القادة العسكريين الروس بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، وقادة حركة حماس بسبب هجومها الدموي على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمة القتل المتعمد للمدنيين في غزة واستخدام التجويع كسلاح في الحرب.
كانت مذكرات التوقيف الإسرائيلية بلا شك الأكثر إثارة للجدل التي أصدرتها المحكمة على الإطلاق، كما أنها كانت الأولى ضد حليف وثيق للولايات المتحدة. (في سنة 2020، فرضت إدارة ترامب الأولى عقوبات على المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية لمجرد بدء تحقيق في جرائم محتملة ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان؛ ولم تُوجَّه أي تهم في نهاية المطاف إلى أي أمريكي). لكن خان بدا وكأنه يستمتع بالاهتمام الذي حظيت به قراراته. فهو قصير القامة وممتلئ الجسم، حليق الرأس وله لحية رمادية، ومظهره الصارم ينسجم مع سمعته القوية. وخلال معظم سنة 2024، سمح لمخرج أفلام وثائقية بمرافقته حول العالم أثناء قيامه بتحقيقات مختلفة.
في شهر مايو/ أيار، في اليوم الذي تقدم فيه بطلب إصدار مذكرات التوقيف الإسرائيلية، جلس خان لإجراء مقابلة في المحكمة مع كريستيان أمانبور من شبكة “سي إن إن”. وأخبرني أحد المحامين الذين عملوا عن كثب مع خان في المحكمة: “يمكن أن يكون متسلطًا بعض الشيء، وهو شخصية متهورة، لكنه محامٍ بارع بحق، وكان يعتقد أنه يستطيع أن يفعل شيئًا لتحسين صورة المحكمة ولإعادتها إلى الواجهة.” وبدلاً من ذلك، وجد نفسه متورطًا في فضيحة تهدد بشلّ عمل المحكمة.
انهارت حياة خان في غضون ساعات قليلة فقط. ففي مساء يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، كان جالسًا في مطعم كباب بلندن يستعد لإلقاء خطاب، حين تلقى اتصالًا هاتفيًا. كانت المتصلة محامية ماليزية في الثلاثينات من عمرها، عملت في المحكمة الجنائية الدولية لمدة سبع سنوات، وتشغل الآن منصب مساعدة خاصة للمدعي العام. وكانت قد عبّرت علنًا عن حزنها العميق إزاء المعاناة في غزة. وقالت إنها تتحدث من سريرها في منزلها في لاهاي، حيث مقر المحكمة. وكانت قد أخبرت خان بأنها تعاني من مرض الذئبة وعدوى تنفسية واكتئاب حاد يعيقها عن العمل، وكانت تدخن سيجارة إلكترونية بصوت مسموع أثناء المكالمة، وقالت إنها بحاجة إلى إجازة للتعافي. لكنها سرعان ما أوضحت أن الغرض من الاتصال لم يكن صحيًا فقط.
قبل ذلك بخمسة أشهر، وقبيل تقديم خان طلب إصدار مذكرات التوقيف بحق المسؤولين الإسرائيليين، أبلغ اثنان من العاملين في المحكمة قسم الموارد البشرية بأن المرأة الماليزية اشتكت لهما بشكل خاص، قائلة إنها تعرضت لمحاولات تحرش جنسية متكررة وغير مرغوب فيها من قبل خان. والتقى بها أعضاء من مكتب الرقابة الداخلية، لكنها رفضت المشاركة في التحقيق أو الإجابة عن الأسئلة، وأبلغت خان بقرارها هذا. وأوقفت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقها، واستمرت المرأة في العمل تحت إشراف خان.
خلال ذلك الربيع، شنّ مسؤولون أمريكيون وأوروبيون حملة ضغط مكثفة لثني خان عن المضي في إصدار مذكرات التوقيف الإسرائيلية. وحذّر مستشار عسكري على صلة بأجهزة استخبارات غربية المحكمة من أن جهاز الموساد الإسرائيلي كان يحاول اختراق المؤسسة، كما أفادت صحيفة الغارديان وغيرها من وسائل الإعلام بأن الموساد تجسس على مسؤولي المحكمة واخترق أنظمتها وهددهم، بحسب ما زُعم. (وقد نفى مسؤولون إسرائيليون تلك الاتهامات). كما ردّت روسيا على المحكمة بإجراءات انتقامية، من بينها إصدار أمر باعتقال خان. وفي رسالة نصية أرسلتها المرأة الماليزية إلى خان بشأن رفضها التعاون مع التحقيق الداخلي، بدا عليها القلق من أن تكون دوافع سياسية وراء التحقيق، وقالت له إنها ترفض أن تكون “بيدقًا في لعبة لا تريد أن تشارك فيها”.
في ذلك الخريف، بدأ أحدهم حملة لإعادة تسليط الضوء على التقارير القديمة والمتداولة بشكل غير مباشر بشأن خان. فقد سرّب حساب بريد إلكتروني مجهول أحد تلك التقارير إلى الصحفيين، وسعى كثيرون منهم إلى التواصل مع المرأة والمحكمة الجنائية الدولية. لكنها لم ترد مما حال دون وصول الصحافة إليها، رغم أن تلك الاستفسارات بدت وكأنها أشعلت الشائعات داخل المحكمة. وخلال المكالمة الهاتفية مع خان، لم تشر المرأة إلى أي تحرش جنسي أو سلوك غير لائق، لكنها أعربت مرارًا عن أسفها لسماعها زملاء يتناقلون شائعات بأنها إما “مهووسة” به، أو، والأسوأ من ذلك، أنها جاسوسة إسرائيلية.
وفقًا لتسجيل أجرته للمكالمة، أخبرت خان إن وصفها بأنها “عميلة للموساد” كان “مهينًا”. وأضافت: “لقد فقدت فعليًا أي صديق كان لي في المحكمة… لم أعد أعرف إلى أين أتجه بعد الآن… أعتقد أن الوقت قد حان لرحيلي”. من جهته، حذّرها خان أكثر من مرة من وجود “ذئاب تحيط بنا”. استمرت المكالمة ساعة كاملة، وخلالها سألها ست مرات إن كانت تسجل المحادثة. (وقد كذبت وقالت لا). لكن نبرته كانت داعمة حيث شجعها على أخذ الوقت الذي تحتاجه للتعافي، وعلى الاستفادة من الإجازة المرضية. وفي بعض الأحيان، بدا واثقًا من براءته من أي سلوك غير لائق، وذكّرها مرارًا وتكرارًا بأن القرار يعود لها إن أرادت فتح تحقيق أكثر شمولًا، بما في ذلك التحقيق معه شخصيًا، “وعندها ستظهر الحقيقة”.
مع ذلك، بدا عليه في لحظات أخرى القلق من احتمال أن تقدم شكوى ضده. وأخبرها أن التكهنات حول هذا الأمر هو أن “يبقي القضية حيّة”، وحثها على أن توضح رسميًا أنها لا تنوي اتهامه بسلوك غير لائق. وقال: “عندها ينتهي الأمر تمامًا”، ويمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تضع حدًا لـ”الهياج الإعلامي” بإبلاغ الصحفيين: “انصرفوا الآن، دعوا المرأة وشأنها”.
أخبرها خان: “هناك جهات تدفع الأمور” بهدف “التخلص من مذكرات التوقيف الخاصة بفلسطين، والتخلص من مذكرات التوقيف الخاصة بروسيا، والتخلص من المحكمة بأكملها”. كلٌ من خان والمرأة الماليزية متزوجان، وقد حذّرها من أن فضيحة سلوك غير لائق لن تضر بها وبعائلتها فحسب، بل ستطال أيضًا خان وعائلته. وأضاف أن “الخسائر” ستشمل أيضًا “عدالة الضحايا الذين أصبحوا الآن، أخيرًا، على وشك إحراز تقدم”. بعد 90 دقيقة من انتهاء المكالمة، بدأ حساب مجهول على منصة “إكس” بتسريب تفاصيل من التقرير غير المباشر نفسه الذي ورد في البريد الإلكتروني المجهول. وظهرت تقارير في وسائل الإعلام، من بينها افتتاحية في صحيفة “وول ستريت جورنال” في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أفادت بأن المرأة اتهمت خان بأنه “حبسها في مكتبه وتحرش بها جنسيًا”، وأنه “زار غرفتها في الفندق في منتصف الليل وطالبها بالسماح له بالدخول”، وأنه “ادّعى أنه يعاني من صداع واستلقى على سريرها في الفندق وتحرش بها جنسيًا”.
بعد بضعة أسابيع، طلبت الهيئة الإدارية للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق خارجي. وبحلول الوقت الذي بدأ فيه تحقيق من قبل الأمم المتحدة، كانت المرأة قد وجّهت اتهامًا أكثر خطورة: أن خان أجبرها مرارًا على ممارسة الجنس “بالإكراه”. (رفض خان، الذي نفى ارتكاب أي سلوك غير لائق، طلبات إجراء مقابلة صحفية).
أدت التسريبات الانتقائية من المكالمة الهاتفية الغامضة، ولا سيما إشارات خان إلى أن الفلسطينيين وغيرهم من الضحايا “على وشك إحراز تقدم”، إلى ربط غير متوقع بين اتهام المرأة له بالاعتداء الجنسي وبين الصراع الدولي على خلفية مذكرات التوقيف بحق المسؤولين الإسرائيليين. وقد ادّعى خان ومحاموه أن نتنياهو وحلفاءه يستغلون امرأة ضعيفة من أجل تقويض القضية المرفوعة ضد القادة الإسرائيليين. أما نتنياهو، فقد كرر مرارًا وتكرارًا أن خان سعى لإصدار المذكرات فقط لصرف الأنظار عن الاتهامات الموجهة إليه بالتحرّش.
في مقابلة مصوّرة أجراها في أغسطس/ آب مع موقع بريتبارت، اتهم نتنياهو خان بتدبير مخطط معقد مدّعيًا أنه عندما علم خان باتهامات المرأة، قال: “لقد دمرت نفسي. يجب أن أجد طريقة للخروج من هذا المأزق”، فقرر أن أفضل وسيلة لذلك هي “مهاجمة اليهود، أو ضرب رئيس وزراء الدولة اليهودية”. وقد وصف المحكمة الجنائية الدولية بأنها “منظمة فاسدة تمامًا”، واعتبر المرأة الماليزية التي وجّهت الاتهام بأنها معادية لإسرائيل، واتهم المحكمة ـ دون تقديم أي دليل – بأنها قالت لها: “اسمعي، من الأهم أن تتهمي إسرائيل زورًا بارتكاب جرائم حرب، من أن يتم الاستماع إلى اتهاماتك”.
استغلّت إدارة ترامب وحلفاء نتنياهو في الكونغرس الأمريكي الذي يسيطر عليه الجمهوريون مزاعم الاعتداء الجنسي ضمن حملة دفاع أوسع عن نتنياهو ويوآف غالانت في مواجهة الاتهامات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. وبعد ستة أيام من المكالمة والتسريب في 17 أكتوبر/ تشرين الأول، أعلن السيناتور ليندسي غراهام عن ولاية ساوث كارولاينا أن ادعاءات المرأة ألقت “ظلالًا أخلاقيًا” على قرار خان بالسعي لإصدار مذكرات التوقيف.
وفي بيان له، اتهم الرئيس ترامب المحكمة باتخاذ “إجراءات غير شرعية وبلا أساس تستهدف أمريكا وحليفنا الوثيق إسرائيل”، واعتبر أنها تشكل “تهديدًا غير عادي واستثنائيًا للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة”. وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات على خان ونائبيه وعدد من قضاة المحكمة الجنائية الدولية، شملت تجميد أصولهم وحظر وصولهم إلى النظام المالي الأمريكي وتقييد قدرتهم على دخول البلاد. واستقال عدد من موظفي المحكمة المرتبطين بالولايات المتحدة.
بلغ الغضب الدولي بشأن مزاعم الاعتداء الجنسي ذروته في مقال نُشر هذا الربيع في صحيفة “وول ستريت جورنال”، والذي تناول ادعاءات المرأة وألمح بقوة إلى أن خان سعى لإصدار مذكرات التوقيف كوسيلة لصرف الانتباه عن القضية. وبعد ستة أيام من صدور المقال، أخذ خان إجازة من منصبه ما أدى فعليًا إلى شلل شبه كامل في عمل المحكمة.
تتعارض محاولة الربط بين مزاعم الاعتداء الجنسي ومذكرات التوقيف الإسرائيلية مع العديد من الحقائق. فمساعي خان لإصدار المذكرات لم تكن جديدة أو سرية. وقد عمل فريق من المحامين في مكتب الادعاء على مدار عدة أشهر في تحقيق حول الهجوم الإسرائيلي على غزة. ونظرًا لأن توجيه اتهامات خطيرة لإسرائيل يُعد أمرًا بالغ الحساسية، وقد وصفه خان في حديثه مع أمانبور بأنه “صدع سان أندرياس في السياسة الدولية والمصالح الاستراتيجية”، فقد اتخذ قرارًا غير مألوف في يناير/ كانون الثاني 2024 باللجوء إلى رأي ثانٍ من لجنة خارجية من الخبراء.
ضمّت تلك اللجنة قاضيين سابقين أشرفا على محاكم جنائية دولية، ومستشارًا قانونيًا سابقًا في وزارة الخارجية البريطانية، وأمل كلوني، المحامية البريطانية اللبنانية المتخصصة في حقوق الإنسان وزوجة الممثل جورج كلوني. وقد خلصت اللجنة إلى أن هناك أدلة كافية لتوجيه اتهامات بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية من كلا الطرفين في صراع غزة، بما في ذلك على أعلى مستويات القيادة الإسرائيلية. وقد وافق محامو مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية على هذا التقييم.
أسفر الهجوم الذي شنّته حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول عن مقتل نحو 1200 شخص في إسرائيل، بينهم ما لا يقل عن 800 مدني، إضافة إلى احتجاز نحو 250 رهينة. وبحلول مايو/ أيار 2024، كانت الحملة الإسرائيلية على غزة قد أودت بحياة أكثر من 35 ألف شخص، كثير منهم من النساء والأطفال. ووفقًا لوزارة الصحة في غزة، توفي ما لا يقل عن 32 فلسطينيًا، بينهم 28 طفلًا، بسبب سوء التغذية أو الجوع في مستشفيات القطاع. وكانت لجنة خبراء دولية معترف بها قد حذّرت من أن أكثر من مليون فلسطيني في غزة قد يواجهون قريبًا مجاعة كارثية. (وقد تجاوز عدد الشهداء المبلغ عنه الآن 66 ألفًا؛ وتوفي ما لا يقل عن 450 شخصًا بسبب سوء التغذية أو التجويع، بينهم 151 طفلًا).
عندما تحدث خان إلى كريستيان أمانبور، شرح بعض الأسباب التي دفعته إلى توجيه الاتهامات. فقد أشار إلى أن مسؤولين إسرائيليين كبار كرروا تصريحات من قبيل “لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة؛ فالجميع مسؤول”، وأن نتنياهو وغالانت لم يتبرآ من تلك التصريحات أو ينأيا بنفسيهما عنها. وكان غالانت قد قال إن إسرائيل “تحارب حيوانات بشرية”، وإنها تفرض “حصارًا كاملًا” يشمل “انقطاع الكهرباء ومنع وصول الطعام والوقود”، بينما تعهّد نتنياهو بـ”فرض ثمن سيتذكره هؤلاء وأعداء إسرائيل الآخرين لعقود قادمة”.
وفي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، بعد ستة أشهر من تقديم خان طلب إصدار مذكرات التوقيف، حكمت دائرة ما قبل المحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية، والتي تضم ثلاثة قضاة، بأن خان قدّم “أسبابًا معقولة” للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت “يتحملان المسؤولية الجنائية” عن جرائم “التجويع كأسلوب من أساليب الحرب”، و”القتل والاضطهاد وأعمال لا إنسانية أخرى”، و”توجيه هجوم متعمد ضد السكان المدنيين”.
وقد أبلغ خان المحققين بأنه قرّر السعي لإصدار المذكرات في مايو/ أيار 2024 نتيجة شعوره بالإحباط من ما اعتبره تكتيكات تأخير من قبل إسرائيل، شملت المماطلة في المحادثات بشأن السماح له بزيارة غزة لإجراء تحقيقات ميدانية. فقد تم حظر أو تأجيل زيارته المطلوبة لعدة أشهر. وفي حوالي 15 مايو/ أيار، أخفقت إسرائيل في تقديم الوثائق اللازمة لزيارة كان خان يخطط لها في نهاية ذلك الشهر. وقد خلص إلى أن إسرائيل لن تسمح له مطلقًا بإجراء تلك الزيارة. (ومنذ بدء الهجوم، لم تسمح إسرائيل لأي صحفيين خارجيين أو مراقبين حقوقيين بالدخول إلى غزة دون قيود).
علاوة على ذلك، إذا كان خان ينوي الدفاع عن نفسه ضد اتهامات بسوء السلوك الجنسي من خلال الادعاء بأن إسرائيل تتآمر ضده، فلم يكن بحاجة فعليًا إلى الإعلان عن طلبات إصدار مذكرات التوقيف. فقد كانت خطواته نحو تلك الاتهامات قد نُشرت على نطاق واسع في وسائل الإعلام قبل مايو/ أيار 2024، وكان ردّ الفعل العنيف من إسرائيل وحلفائها معروفًا جيدًا في الأوساط الدبلوماسية. ووفقًا لملاحظات رسمية قدمها خان إلى محققي الأمم المتحدة، فقد حذّره بريت مكغورك، كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط آنذاك، في مكالمة هاتفية في أبريل/ نيسان من عواقب كارثية إذا سعى لإصدار مذكرات توقيف بحق الإسرائيليين. كما قال له وزير الخارجية البريطاني آنذاك، ديفيد كاميرون، إن مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة “قنبلة هيدروجينية”.
في 24 أبريل/ نيسان 2024، أرسل اثنا عشر سيناتورًا جمهوريًا أميركيًا، من بينهم ميتش ماكونيل وماركو روبيو، رسالة إلى خان تهدده بشكل صريح: “إذا استهدفت إسرائيل، فسنستهدفك… لقد تم تحذيرك”. وفي اليوم التالي، أفادت صحيفة نيويورك بوست بأن خان يستعد لتوجيه تهم بارتكاب جرائم حرب ضد نتنياهو خلال أيام. أعاد نتنياهو نشر المقال على وسائل التواصل الاجتماعي، واتهم المحكمة الجنائية الدولية بمحاولة تقويض “الحق الطبيعي لإسرائيل في الدفاع عن النفس”. ووفقًا لرواية شاركها خان مع المحققين حول مكالمة جماعية أجراها مع أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي، قال له السيناتور ليندسي غراهام في الأول من مايو/ أيار 2024: “قد يكون من الأفضل أن تطلق النار على الرهائن بنفسك”، مضيفًا: “هذه المحكمة مخصصة للأفارقة”. (وقد نفت المتحدثة باسم غراهام أنه أدلى بالتصريح الثاني، مؤكدة أنه قال فقط إن المحكمة مخصصة للأماكن التي انهار فيها حكم القانون).
مع أن المحامين داخل مكتب الادعاء العام كانوا متفقين إلى حد كبير على وجود أساس قانوني لتوجيه الاتهامات إلى نتنياهو وغالانت، إلا أن العديد منهم اختلفوا بشدة حول كيفية المضي قدمًا في ذلك، ويرجع ذلك أساسًا إلى التهديدات الأميركية. (وكانت المرأة التي اتهمت خان من بين أولئك الذين جادلوا داخليًا بضرورة التريث في توجيه الاتهامات إلى القادة الإسرائيليين، وعدم التسرع في الإعلان عن مذكرات توقيف على هذا المستوى الرفيع). وعادةً ما يسعى المدّعون إلى إصدار المذكرات بشكل سري، لتجنب ممارسة ضغوط سياسية على قضاة المحكمة الجنائية الدولية، ولإتاحة الفرصة للدول التي تعترف بالمحكمة لاعتقال المتهمين إذا دخلوا أراضيها. (إذ لا تمتلك المحكمة قوة شرطة خاصة بها). والأهم من ذلك، أن عدة محامين مشاركين في تحقيقات غزة رأوا أن الطبيعة الفريدة للمحكمة الجنائية الدولية، التي يُفترض أنها محكمة قانون، لكنها أيضًا كيان دبلوماسي لم يختبر بعد بشكل كافٍ، مما يفرض على المدّعي العام أن يأخذ في الاعتبار الحقائق السياسية إلى جانب القانون الدولي.
أخبرني أحد المحامين إن المحكمة الجنائية الدولية “توجد ضمن إطار العلاقات الدولية، فالدول هي من أنشأتنا، لذا علينا أن نتصرف بشكل استراتيجي”. وأضاف أن المحكمة كانت في أوج قوتها من حيث الأهمية والسمعة بعد إصدارها مذكرة توقيف بحق بوتين في عام 2023، لكن فيما يتعلق بإسرائيل “كانت هناك مخاوف من أنه إذا وسّعنا نطاق الاتهامات والمتهمين، فستكون هناك تداعيات ضخمة” في أماكن مثل واشنطن، مما قد “يصعّب الأمور علينا كثيرًا”. وقال لي محامٍ آخر إن المحكمة ببساطة لا تستطيع تجاهل رغبات الولايات المتحدة، “القوة العظمى التي لا يمكن تجاهلها”.
في الوقت ذاته، أفاد محامون عملوا مع كريم خان بأنه كان يشعر بضغط هائل لاتخاذ إجراء ما لمحاولة وقف المجازر المتصاعدة بحق المدنيين الفلسطينيين. فقد تعرض لهجوم من قبل جماعات حقوق الإنسان ومناصري القضية الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب تقاعسه عن التحرك، حيث وصفه بعض النشطاء بأنه “مسهّل للإبادة الجماعية”، بينما بدأ آخرون بجمع توقيعات لعريضة إلكترونية تطالب بإقالته.
أوضحت أونا هاثاواي، أستاذة القانون في جامعة ييل، أن غياب أي تحرك واضح من المحكمة، خارج الولايات المتحدة وإسرائيل “قد يُنظر إليه على أنه تقصير فاضح”، مما يهدد مصداقية المحكمة في حال عدم سعيها لإصدار مذكرات توقيف. حسب زملائه، جادل خان داخليًا بأن الإعلان العلني عن طلب إصدار المذكرات قد يردع الإسرائيليين عن ارتكاب المزيد من جرائم الحرب. وقد صرّح على شبكة “سي إن إن” بأنه ظل لأشهر يوجه تحذيرات علنية للطرفين قائلاً: “امتثلوا الآن، ولا تشتكوا لاحقًا”.
في 29 أبريل/ نيسان 2024، وبينما كانت النقاشات التكتيكية دائرة داخل مكتب الادعاء، انفجرت المرأة التي اتهمت كريم خان بالبكاء أمام زميلة لها، ثم كررت ذلك لاحقًا في نفس اليوم داخل مكتب أحد كبار مستشاري خان. ذلك المستشار، توماس لينش، هو محامٍ أمريكي سبق له أن عمل إلى جانب خان في الأمم المتحدة، وكان يُعرف داخل المحكمة الجنائية الدولية بأنه متحفظ تجاه إصدار اتهامات رفيعة المستوى ضد الإسرائيليين. وقد دخل في خلاف مع خان في ديسمبر/ كانون الأول السابق بشأن تعديلات أدخلها على بيان عام صادر عن مكتب المدعي العام حول غزة، حيث اتهمه خان بإدخال صياغات تفضّلها إسرائيل: فقد وصف البيان حركة حماس بأنها “منظمة إرهابية” بدلًا من “جماعة مسلحة”، واستخدم كلمة “أبرياء” لوصف الضحايا الإسرائيليين دون أن يصف بها الفلسطينيين، وهو أمر كانت المحكمة تتجنبه عادة في بياناتها الصحفية. (أبلغ لينش المحققين أن خان طلب منه التعاون مع جهة إسرائيلية رفيعة أثناء صياغة البيان، وأشار إلى أن خان أبقاه في منصب مسؤول الاتصال بين الادعاء وإسرائيل).
حسب أشخاص مطلعين على التحقيق الأولي الذي تم إيقافه بشأن سوء السلوك الجنسي، فإن المرأة الماليزية لم تذكر لزملائها شيئًا عن علاقة جنسية بالإكراه، لكنها أخبرت زميلتها ولينش بأن خان جعل حياتها المهنية لا تُطاق من خلال سلسلة طويلة من التلميحات الجنسية الجسدية غير المرغوب فيها، والتي وصفتها بالتفصيل. وفي 2 مايو/ أيار 2024، أبلغ لينش وزميلته خان بأنهما يشعران بواجب إحالة تلك الادعاءات إلى قسم الموارد البشرية.
أخبرت المرأة محققي الأمم المتحدة أنها لم تكن تعلم أن المقربين منها قد أبلغوا خان أو مكتب الموارد البشرية حتى يوم الأحد 5 مايو/ أيار، عندما تلقت رسالة نصية من ممثل مكتب الرقابة الداخلية للمحكمة الجنائية الدولية. أخبرني دبلوماسي مطلع على التحقيق أن المكتب سعى للتحدث معها قبل عودتها إلى العمل يوم الإثنين، من أجل حمايتها من تعرضها لضغوط من خان في المكتب. لكن الرسالة النصية قاطعت مناسبة عائلية، وانتهى الأمر بالمرأة إلى مقابلة محققي المحكمة الجنائية الدولية في مطعم فندق، مع جلوس ابنها الصغير على طاولة على بعد بضعة أقدام منها. قد وأخبرت محققي الأمم المتحدة أنها رفضت الإجابة على الأسئلة لأن سياق المقابلة لم يُظهر أي اعتبار لكونها ضحية محتملة. لكن الدبلوماسي أخبرني أن موظفي المكتب اشتبهوا في سيناريو آخر: لاحظ بعض موظفي المحكمة الجنائية الدولية دفئًا غير عادي بين المرأة وخان، إلى جانب نمط متكرر من السفر الرسمي المشترك، مما أثار احتمال وجود علاقة خارج إطار الزواج انتهت بشكل سيئ.
وفقًا للسجلات التي قُدمت إلى محققي الأمم المتحدة، أرسلت المرأة رسالة نصية إلى خان يوم الإثنين تفيد فيها بأنها “أخبرتهم أنني لست مهتمة بالتحدث”، مضيفةً: “أريد فقط القيام بعملي ومواصلة عملي المهني”. أرسل خان ردًا نمطيًا، قائلاً إنه “موجود إذا كنتِ بحاجة إلى التحدث”، مضيفًا أنه يمكنها أيضًا التحدث إلى أحد مساعديه. وخلص مكتب الرقابة إلى أن المرأة لن تشارك في أي تحقيق، فأرسل بريدًا إلكترونيًا إلى خان في 7 مايو/ أيار، نصحه فيه بـ “تقليل الاتصال الفردي المباشر” معها. وأبلغته رسالة في اليوم التالي أنه “لا داعي في هذه المرحلة” لمزيد من التحقيق. في 13 مايو/ أيار، رافقت المرأة خان إلى نيويورك لحضور اجتماع مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
كان لدى خان أسباب وجيهة للاعتقاد بأن فصول الاتهامات الموجهة إليه قد انتهت عند ذلك الحد. لكن في ذلك الخريف، وبينما كان قضاة المحكمة الجنائية الدولية ينظرون في طعن إسرائيلي على طلبات إصدار مذكرات التوقيف، أطلق شخص مجهول حملة لإحياء تلك الاتهامات، في محاولة واضحة لتقويض تهم جرائم الحرب.
بدأ حساب بريد إلكتروني مجهول بإرسال نسخ من بيان مكتوب من أربع صفحات إلى عدد من الصحفيين، وهو البيان الذي كان توماس لينش قد قدمه سابقًا إلى مكتب الرقابة الداخلية في المحكمة، ويُلخص فيه الاتهامات الأولية التي وجهتها المرأة. وفي ملاحظة مرفقة بالوثيقة، زعم المرسل أن خان سعى إلى “التستر على مشكلته الشخصية” من خلال “تسريع تحقيقاته في الحرب على قطاع غزة – بما في ذلك الإسراع في طلب إصدار مذكرات التوقيف”. وادعى المرسل زورًا أن خان “اتهم علنًا جهاز “الموساد” الإسرائيلي بتهديده وابتزازه “كإجراء استباقي”.
الغريب أن المرسل دافع عن الموساد قائلًا: “حسب فهمي، لم يحدث ذلك مطلقًا، بل تم استخدامه فقط كقصة تغطية وكتدبير احترازي في حال ظهرت معلومات عن سلوكه الجنسي غير اللائق”. وقد تضمنت الملاحظة أسماء وأرقام هواتف المرأة، ولينش، وعدد من موظفي المحكمة الجنائية الدولية؛ وفي النسخة التي حصلت عليها، وردت كلمة عبرية واحدة تعني “هواتف”، إلى جانب بعض الأرقام.
تواصل بعض الصحفيين الذين مع المرأة للحصول على تعليق، استشهدوا بتصريحات لينش لها. وقد أبلغت المرأة محققي الأمم المتحدة أنه في تلك الفترة تقريبًا، كان خان ومسؤول آخر في المحكمة مقرب منه يمارسان عليها ضغوطًا لتوضيح أنها لا تنوي تقديم شكوى رسمية. وبحسب ما أفادت، فإن شعورها بالضغط من جهات متعددة دفعها إلى طلب مشورة سرية من دبلوماسية بارزة في الجمعية متعددة الجنسيات التي تُشرف على المحكمة الجنائية الدولية، كما بدأت بتسجيل بعض مكالماتها الهاتفية.
في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، ظهر حساب مجهول على منصة “إكس” يحمل اسم المستخدم “@ICC_Leaks”، وادعى صاحب الحساب أنه شخص “على معرفة شخصية” بالمحكمة الجنائية الدولية، وذكر وجود “شكوى تحرش جنسي” ضد “أحد أبرز الشخصيات في القانون الجنائي الدولي” — شخص يحمل الأحرف الأولى “ك.ك” — تم تقديمها في 4 مايو/ أيار 2024، لكنها لا تزال “تُقمع”.
كرر الحساب تفاصيل وردت في البيان المكتوب الذي قدّمه توماس لينش لمكتب الرقابة الداخلية في المحكمة، وزعم أنه “لم يُتخذ أي إجراء”، مضيفًا: “لماذا يعرف الكثيرون عن هذا الأمر لكنهم يخشون المطالبة بتحرك فوري؟”.
لا يزال من غير المعروف من يقف وراء البريد الإلكتروني المجهول وحساب “إكس” الذي أثار الاتهامات مجددًا. وقد قدّم خان تفسيرًا غير مقنع لمحققي الأمم المتحدة، مدعيًا أن المرأة التي اتهمته كانت متواطئة، مستندًا إلى الفاصل الزمني القصير — تسعين دقيقة فقط — بين المكالمة الهاتفية المسجلة وبين نشر التغريدة من حساب “@ICC_Leaks”، ليشير إلى أنها لعبت دورًا في ذلك. لكن منشورات الحساب تضمنت الأحرف الأولى من اسمها، بينما احتوى البريد الإلكتروني على اسمها الكامل ورقم هاتفها، ومن الصعب تصور أنها تعمدت تعريض نفسها وعائلتها لهذا النوع من التدقيق العلني.
كان بإمكان المسؤولين في قسم الموارد البشرية أو مكتب الرقابة الداخلية تسريب بيان لينش، لكن العاملين في تلك المكاتب كان بإمكانهم اتخاذ إجراءات ضد خان في أي وقت دون تسريب المعلومات، ولم يكن لأي شخص في تلك المكاتب مصلحة واضحة في ربط الادعاءات ضد خان بالتهم الموجهة إلى إسرائيل.
يبقى السؤال: هل كان البريد الإلكتروني وحساب “إكس” جزءًا من عملية تأثير إسرائيلية؟ أم أن الإشارات إلى الموساد والحروف العبرية كانت مجرد محاولة تضليل فجة؟ بعض المراقبين يشتبهون في أن لينش نفسه، أو شخصًا مقربًا منه، قد يكون له دور في التسريب. فهو بطبيعة الحال كان يحتفظ بنسخة من بيانه، وتُظهر سجلات الاتصالات في اليوم الذي ظهر فيه حساب “إكس” أنه التقى بالمرأة قبل مكالمتها الهاتفية التي استمرت ساعة مع خان، وقد أفاد زملاء لينش بأنه كان يعتقد أن خان أعلن عن مذكرات التوقيف لصرف الأنظار عن الاتهامات، تمامًا كما زعم البريد الإلكتروني المجهول.
مع ذلك، تُظهر سجلات الاتصالات أيضًا أن لينش عبّر عن دهشته عندما ظهرت التسريبات لأول مرة، وقد أبلغ المحققين بأنه ليس مسؤولًا عنها. لا يُعرف من يقف وراء حساب “@ICC_Leaks”، لكن تأثيره كان واضحًا في الربط بين الاتهامات الموجهة إلى كريم خان والتهم الموجهة ضد إسرائيل. فبعد ستة أيام من التسريب، نشرت صفحة الرأي في صحيفة وول ستريت جورنال – المعروفة بدعمها المستمر لنتنياهو – أن هذه الاتهامات قد “تُلقي بظلال من الشك على نزاهة السيد خان”، واقترحت أن “هجومه على إسرائيل”، والذي وصفته بأنه “وسيلة موثوقة لتحويل الانتباه والضغط”، ربما كان غطاءً لسلوكه الشخصي غير اللائق.
وفي سياق متصل، أفادت وكالة أسوشيتد برس، نقلًا عن “أشخاص مقربين من المرأة التي اتهمت خان”، أن محققي مكتب الرقابة الداخلية في المحكمة الجنائية الدولية حاولوا استجوابها بشكل غير لائق أمام طفلها. وبحلول نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، كان كل من خان والمرأة قد طلبا فتح تحقيق مستقل في القضية.
في ديسمبر/ كانون الأول، خضعت المُدّعية ضد خان لساعات طويلة من المقابلات مع محققي الأمم المتحدة، وقدّمت ضمن مستندات أخرى نحو مئتي صفحة من الرسائل النصية بينها وبين صديقة لها. في هذه التبادلات، شهدت بأنها كانت تحب عملها “90 بالمئة من الوقت”، ووصفت خان بأنه مدير صعب، وبيّنت صراعها مع الاكتئاب. ومع ذلك، في بعض الرسائل النصية من ربيع 2024، وصفت صراحةً محاولات خان الجنسية، كتبت في رسالة نصية أبريل / نيسان: ” كان يريد أن يذهب في عطلة أو يربط مهمة ويبقى لبضعة أيام، مشيرًا إلى جمالها ورائحة عنقها”، مشيرة إلى أنها ابتكرت عذرًا لتبتعد عنه. (وقال شخص قريب من خان إن محققي الأمم المتحدة لم يطلبوا رده على أي من هذه الأدلة.)
أفادت المُدّعية بأن خان اعتدى عليها جنسيًا في مكتبه وأجبرها على ممارسة الجنس في منزله في لاهاي، وأثناء خمس رحلات مشتركة. وظهرت هذه الاتهامات إلى العلن في 10 مايو/ أيار 2025، بعد نشر صحيفة وول ستريت جورنال مقالًا تضمن تفاصيل صريحة من شهادتها، وأكدت الصحيفة مراجعتها لهذه الشهادة. وجاء في المقال أن المُدّعية شهدت: “هو دائمًا يتمسك بي ويقودني إلى السرير”، وأضافت إنها كانت تشعر وكأنها محاصرة تمامًا.
ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال تصريح خان في مكالمة هاتفية مسجلة سرًا بتاريخ 17 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث قال إن “الضحايا أصبحوا أخيرًا على وشك إحراز تقدم.” واستندت المقالة إلى هذا الاقتباس، مؤكدةً ما ورد في رأيها التحريري السابق، مشيرةً إلى أن توقيت إعلانه عن المذكرات الإسرائيلية أثار تساؤلات حول ما إذا كان خان يحاول حماية نفسه من الاتهامات بالاعتداء الجنسي.” وأوضحت المقالة أن قرار خان بطلب المذكرات في مايو/ أيار 2024 مثّل انعطافًا مفاجئًا، مشيرةً إلى أنه أعرب عن امتنانه عندما أخبره كبار مسؤولي البيت الأبيض قبل سبعة عشر يومًا من الإعلان بأنهم ما زالوا يضغطون على إسرائيل للسماح له بدخول غزة، قبل أن يُصوَّر لاحقًا على أنه “ألغى” فجأة زيارة إلى غزة، على الرغم من استمرار إسرائيل في حجب الوثائق اللازمة للسفر.
وفي أغسطس/ آب، أفادت صحيفة الغارديان أن متدربة سابقة في مكتب خان للمحاماة تقدّمت أيضًا، بشرط عدم الكشف عن هويتها، لتشهد بأن خان قد قام قبل ستة عشر عامًا بمحاولات جنسية غير مرغوبة ومتكررة. (وأشارت الصحيفة إلى أنها رفضت ممارسة الجنس معه.) ومن خلال محامٍ، نفى خان هذه الاتهامات.
قد يكون تحديد ما حدث بالضبط بين خان ومُدّعيته مهمة صعبة لمحققي الأمم المتحدة. وبالإضافة إلى إنكار أي سلوك جنسي خاطئ، أخبر خان المحققين أن الاتهامات لم يكن لها أي تأثير على قراره بشأن المذكرات. وقال أشخاص مطّلعون على حججه أمام المحققين إن دفاعه شمل مراسلات تظهر دعمه القوي للمرأة عندما اشتكت في 2022 من زميل آخر، متهمة إياه بقول شيء اعتبرته تحرّشًا جنسيًا. (وقد برّأ تحقيق، انتهى في نهاية 2023، ذلك الزميل.)
في المراسلات التي أتاحها خان للمحققين، تُبرز المُدّعية شخصية ودودة وصريحة، تميل إلى الإفصاح عن تفاصيل حياتها الشخصية وصراعاتها. وحتى في الفترات التي سبقت بكاءها أمام زملائها كانت ترسل إليه رسائل تعبّر فيها عن سعادتها بالمشاركة في المهمة، وتقترح أعمالًا فنية قد يقتنيها هو وزوجته لتزيين منزلهما. كما قدّم خان للمحققين صورة تُظهر أن مكتبه كان دائمًا مرئيًا جزئيًا على الأقل عبر نافذة داخلية في مكتب مساعده الشخصي. وأُشير أيضًا إلى أن الحراس الشخصيين قادرون على الشهادة بمكان تواجده، وأنه كان مصابًا بالإنفلونزا خلال إحدى الرحلات التي تزعم هي أنه اعتدى عليها فيها.
في الوقت نفسه، أفاد أشخاص مطّلعون على التحقيق بأن خان خصّص جزءًا كبيرًا من دفاعه لإقناع المحققين بأن إسرائيل وحلفاءها يستغلون المُدّعية بهدف الإضرار به وبالمحكمة. ومن بين الأدلة التي قدّمها، رسائل نصية وملاحظات توثق ما جادل بأنه تهديد خاص تلقاه في ربيع السنة الماضية.
في 26 أبريل/ نيسان 2025، أرسل نيك كوفمان، محامٍ دولي بريطاني-إسرائيلي بارز وصديق لخان، رسالة نصية إليه مفادها أنه تلقى مكالمة من مراسل صحيفة وول ستريت جورنال، الذي “سمع، كما قال، أنني كنت أقدّم نصائح غير رسمية لغالانت”. (وقد أفاد شخص مطّلع على الترتيب أن غالانت تجنّب رسميًا توكيل محامٍ، خطوة كانت لتقر ضمنيًا بسلطة المحكمة الجنائية الدولية.) عبّر كوفمان لخان عن استيائه من “الأفاعي في المكتب الخاص بك” وأكد أنه لا يهتم بـ “الاتهامات الفاضحة التي يثيرها الناس”.
ثم أشار إلى أنه تحدث في ذلك العصر مع نائب عام إسرائيلي سابق ذو علاقات واسعة، مقترحًا لقاء خان في الأسبوع التالي بمكتبه في لاهاي. وقال: “لدي بعض الفهم للعقلية الإسرائيلية فيما يتعلق بالحالة الراهنة للتقاضي”، مقدمًا “بعض المعلومات وفكرة أو اثنتين من نوع دبلوماسي”. وافق خان على الاجتماع في 1 مايو/ أيار 2025 في فندق ديز إنديس، برفقة زوجته التي تعمل أيضًا محامية دولية. وفقًا للملاحظات التي قدّمها خان لمحققي الأمم المتحدة، قدّم نيك كوفمان نفسه على أنه مخوّل لتقديم اقتراح نيابة عن نتنياهو وجالانت. وأخبر خان أن التهم كانت بمثابة توجيه اتهام فعلي للدولة الإسرائيلية بأكملها، وأن على خان أن يجد “طريقة للنزول من الشجرة.”
وفقًا للملاحظات نفسها، قال كوفمان إنه إذا لم يسحب خان المذكرات بطريقة ما، فإن “هم” — ويُفترض أن المقصود إسرائيل وحلفاؤها الأمريكيون — “سيدمّرونك وسيدمّرون المحكمة.” كما أشارت الملاحظات إلى أن كوفمان اقترح أيضًا تصنيف المذكرات والإجراءات ذات الصلة كسرية، وهو ما لم يفعله خان. وفي الأسبوع التالي، صدر مقال صحيفة وول ستريت جورنال، وتبع ذلك بسرعة إجازة خان.
عندما اتصلت بكوفمان، نفى أنه قدّم أي تهديدات أو ادعى التحدث نيابة عن نتنياهو أو جالانت، مؤكدًا أن أي إشارة إلى الضرر بالمحكمة الجنائية الدولية كانت تتعلق بالعقوبات الأمريكية. وقال: “ذهبت إلى خان كصديق، وأثبت لي أن أصدقاءه يمكن الاستغناء عنهم إذا اقتضت الحاجة حماية نفسه”.
من جانبه، قال أندرو كايلي، محامٍ بريطاني عمل مع خان في التحقيق بغزة واستقال تحت ضغط العقوبات الأمريكية، إن الفضيحة والعقوبات ألحقا “ضررًا هائلًا وربما دائمًا بمشروع المحكمة” — المشروع الذي ربطه بمحاكم نورمبرغ. وأضافت ليلى سادات، أستاذة في كلية القانون بجامعة واشنطن، التي غادرت المحكمة الجنائية الدولية في صيف 2023 بعد عقد من الزمن كمستشارة في مكتب المدعي العام، أنها عملت مع خان ومُدّعيته، مؤكدة أنها “لا ترى سببًا للشك في حسن نية” المرأة، ولا في أن خان تصرف “بحسن نية” عند سعيه للحصول على المذكرات الإسرائيلية. ووصفت ربط القضيتين بأنه غير معقول و”مؤسف جدًا”، مشيرة إلى أن استمرار الشائعات حول سوء السلوك دون حل كامل يعني أن “إسرائيل والولايات المتحدة ستستخدم كل سلاح متاح لهما لمواجهة تلك المذكرات”. وفي سبتمبر/أيلول، دفعت المحكمة الجنائية الدولية لموظفيها حتى نهاية العام، تحسبًا لعقوبات أمريكية إضافية كادت أن توقف عمل المحكمة بالكامل.
وأوضح شخص مقرب من مُدّعية خان أن المرأة أصابها استياء عميق جراء ربط القضيتين معًا. وبعد صدور تقرير محققي الأمم المتحدة، المتوقع خلال الأشهر المقبلة، سيتوقف مستقبل خان في المحكمة الجنائية الدولية على قرار الجمعية العامة للدول الأعضاء، وقد يلعب العامل السياسي دورًا حاسمًا. وقد أعاقت الفضيحة بالفعل جهود محاسبة إسرائيل على حصيلة القتلى في غزة؛ وتخشى المرأة أن يؤدي الغضب تجاه إسرائيل إلى دفع أعضاء الجمعية لتجاهل شهادتها والانحياز، بدلاً من ذلك، إلى جانب خان.
المصدر: نيويورك تايمز