القضاء الدولي في ميزان المقتلة: ما الذي فعلته المحاكم طوال عامين من الإبادة؟

عامان مضيا بنهارهما وليلهما، لم يشهد التاريخ المعاصر مقتلةً أشدَّ ولا أظلمَ من تلك الدائرة في القطاع. عامان وُضعت خلالهما كلُّ مبادئ الإنسانية، وقواعد العالم الحديث، ومؤسسات القانون، ونظريات حقوق الإنسان، ومخرجات الحضارة، ودروس التاريخ، تحت المجهر وقيد الاختبار، فلم ينجُ منها إلا اليسير.
عامان سقطت خلالهما أقنعةٌ كثيرة، وادعاءاتٌ وتبجُّحاتٌ بنى عليها النظامُ العالمي قواعدَ عمله؛ حين قال: “ليس مرةً أخرى”، لكنه فعلها مرةً أخرى، وصمت وتخاذل وسمح للجريمة النكراء أن تتواصل، وصمَّ أذنًا عن آهات الضحايا.
وحين قال: “الناس متساوون”، لكنه أثبت أن بعضهم “أكثر مساواةً من بعض”. وحين قال: “لا إفلات من العقاب”، لكنه سمح للأشدِّ إجرامًا، لا أن يفلت وحسب، ولكن أن يُحاضر الناسَ في العدالة والقانون، وأن يلوم الضحايا على دفعه لقتلهم.
عامان مثَّلت خلالهما المحكمةُ الجنائية الدولية، ومحكمةُ العدل الدولية، والأممُ المتحدة، واتفاقياتُ حقوق الإنسان، وكلُّ تلك المنظومة الدولية التي بُنيت على أنقاض الحرب العالمية الثانية، وتعهد منشِئوها أن لا تتكرر المأساة، وأن يكون العالم الحديث أكثر عدلًا وعطفًا، أمام محكمة التاريخ، ولم تستطع أن تُقيم حجتها.
فما الذي فعلته المؤسساتُ القضائية الدولية خلال العامين الماضيين؟ هل نجحت في القيام بمسؤوليتها المناطة بها؟ وهل تمكنت من الإفلات من عقبات السياسة التي كبَّلتها لسنين طويلة هل تنجح دول العالم في تجاوز عقبة الولايات المتحدة وحلفائها، وتعيد للقانون دوره ومجده؟ وهل يتفتَّق عن هذه المأساة الإنسانية بوادرُ نظامٍ عالميٍّ أكثر عدلًا واحترامًا لثقافة القانون؟ يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة.
محكمة العدل الدولية: القاضي أضعف من الجناة
رغم بديهية الخطوة، تفاجأ العالم بشجاعة جنوب أفريقيا، الدولة الرمز في مجال النضال الحقوقي، بالتوجّه بخُطى ثابتة إلى محكمة العدل الدولية، أو محكمة الدول التابعة للأمم المتحدة، والتي تُعدّ أعلى هيئة قضائية عالمية.
تقدّمت جنوب أفريقيا أواخر ديسمبر من عام 2023، أي بعد أشهر قليلة من بدء المقتلة، بدعوى مفصّلة طالبت فيها المحكمة المختصّة بالنظر في احتمالية انتهاك “إسرائيل” لميثاق منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، والتي تُعدّ كلتا الدولتين طرفًا فيه.
لا تمتلك المحكمة اختصاص مقاضاة الأفراد، ولكنّها تنظر في القضايا المرفوعة ضد الدول بوصفها شخصياتٍ اعتبارية، ويتطلّب القرار النهائي في القضايا المنظورة أمامها سنواتٍ طويلة قبل أن يصدر، إلا أنها تتّخذ خلال هذه المدة أوامر مؤقتة تهدف إلى وقف الانتهاك، أو إلى التخفيف من حدّة العواقب، أو إلى الحفاظ على الأدلة، وغيرها من الأوامر ذات الصلة بالقضية.
وفي حالة القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل”، فقد اتخذت المحكمة، مع بداية نظرها في يناير من عام 2024، عددًا من القرارات المؤقتة التي طالبت “إسرائيل” باتخاذ إجراءاتٍ من شأنها منع وقوع جريمة الإبادة الجماعية في القطاع، والمعاقبة على أفعال التحريض الداخلية على ارتكاب الإبادة الجماعية، وإدخال المساعدات الإنسانية فورًا، والتحفّظ على الأدلة التي تدعم وقوع الجريمة، إضافةً إلى التقدّم بتقارير تُفصّل ما اتخذته “إسرائيل” من خطوات بهذا الخصوص.
ورغم أن هذه القرارات ملزِمة لـ”إسرائيل” بوصفها عضوًا في الأمم المتحدة وطرفًا في اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فإنها تجاهلتها في مجملها، ولم تُلقِ بالًا لسير القضية أمام المحكمة.
في مرافعتها الافتتاحية، رفضت “إسرائيل” الاتهامات المتعلقة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية واعتبرتها بلا أساس، مدّعيةً أن عمليتها العسكرية موجّهة إلى “ميليشيات حماس”، لا إلى عموم الفلسطينيين في القطاع.
وقد منحت المحكمةُ “إسرائيل” مهلة شهرٍ واحد لتقديم تقريرٍ يُبيّن ما اتخذته من إجراءاتٍ لمنع وقوع جريمة الإبادة الجماعية، وإدخال المساعدات الإنسانية، ومعاقبة المحرّضين علنًا على ارتكاب الجريمة في أوساطها الداخلية. وبنهاية المهلة الممنوحة، تقدّمت “إسرائيل” فعلًا بتقريرٍ إلى المحكمة، طلبت الاحتفاظ بسرّيته، وهو ما فعلته المحكمة، إذ لم تُتحه لعموم الدول والمنظمات الدولية المعنية. بينما تابعت “إسرائيل” حملتها العسكرية، مدّعيةً أن المحكمة لم تأمرها بوقف عملياتها العسكرية في القطاع.
أشارت المحكمة لاحقًا إلى عدم التزام “إسرائيل” بالقرار المطالب بالحفاظ على الأدلة التي قد تشير إلى وقوع جريمة الإبادة الجماعية، مطالبةً بالسماح لمحقّقي ولجان الأمم المتحدة بدخول أراضي القطاع لتجميع الأدلة وصياغة التقارير حول الوضع هناك، وهو ما رفضته “إسرائيل” وتجاهلته رغم إلزاميته القانونية.
بعد أشهرٍ قليلة من انطلاق نظر القضية، عادت المحكمة في مارس من عام 2024 لتأمر “إسرائيل” بالالتزام بإنهاء المجاعة في القطاع، وإدخال المساعدات الإنسانية دون تأخير.
ادّعت “إسرائيل” توافقها مع القرار المؤقت بشأن المساعدات، وسماحها بفتح بعض المعابر وإدخال شاحنات الإغاثة، وهو الأمر الذي اعتبرته الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية معنية غير كافٍ، ولم يحلّ دون استمرار المجاعة في عموم القطاع، ولا سيّما في شماله على وجه التحديد.
View this post on Instagram
وفي مايو من عام 2024 أصدرت المحكمة مرةً أخرى قرارًا مؤقتًا مُلزِمًا بمنع العمليات العسكرية في مدينة رفح، التي كانت تضم أكثر من مليونٍ ونصف من اللاجئين الفلسطينيين من مختلف أنحاء القطاع. ومرةً أخرى تجاهلت “إسرائيل” القرار دون عواقب، واستمرت في عمليتها العسكرية في رفح، ثم عادت بعملياتٍ أوسع في شمال القطاع ومدينة غزة.
في ردّها على قرار المحكمة المتعلق برفح، ادّعت “إسرائيل” أن تفسير القرار لا يعني وقف العملية بالمطلق، بل متابعتها دون تدمير الجماعة الفلسطينية بالكامل، وأشارت إلى اتخاذها خطواتٍ من شأنها تقليل الخسائر بين المدنيين، وتوجيه الضربات مباشرةً إلى أعضاء “حماس”، مهدِرةً بذلك جوهر القرار مرةً أخرى.
أما فيما يتعلق بفقرات القرار التي طالبت بإبقاء معبر رفح مفتوحًا لضمان تدفّق المساعدات الإنسانية، والسماح للجان التحقيق الأممية والصحفيين الدوليين بدخول القطاع، فقد تجاهلتها “إسرائيل” جملةً وتفصيلًا؛ إذ أبقت على معبر رفح مغلقًا تحت سيطرتها، ولم تسمح لأي لجان تحقيق أو فرق صحافة مستقلة بالدخول إلى القطاع للحفاظ على الأدلة المتعلقة بجريمة الإبادة هناك.
ثم عادت لتماطل بطلب تمديدٍ لتقديم مذكّراتها المكتوبة المضادّة لادعاءات جنوب أفريقيا لمدّة ستة أشهر، حيث كان من المفترض أن تُقدَّم بتاريخٍ لا يتجاوز تموز/ يوليو من العام الجاري، بينما ستقدَّم الآن مع منتصف يناير/ كانون الثاني من العام المقبل.
وتُعدّ طلبات التمديد إحدى مسبّبات إطالة أمد القضية، التي تأخذ عادةً بين ثلاثٍ وعشر سنوات قبل أن يُبتّ فيها، بينما وصلت في حالاتٍ وصفتها المحكمة بالمعقّدة لأكثر من ذلك، إذ احتاجت المحكمة لأربع عشرة سنة قبل أن تبتّ في قضية الإبادة الجماعية التي تسببت بها صربيا ضد البوسنة والهرسك، وهي القضية التي بدأت عام 1993، ولم تُصدر المحكمة قرارها فيها قبل عام 2007.
وإن كان من المفترض أن تصل المحكمة إلى قرارٍ بخصوص قضية جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” بحلول عام 2028 دون تأخيرات، فإن التمديدات والتدخلات والتحديات الدولية المتعلقة بقرارات المحكمة وآلية عملها قد تُؤخّر الحكم لأبعد من ذلك بكثير، خاصةً أننا ما زلنا في مراحل مبكرة من القضية، ولم نجتز سوى عتبتي الطلب الابتدائي وطلب القرارات المؤقتة، ونقف الآن على عتبة المذكرات المكتوبة، التي تليها المرافعات الشفاهية، ثم مداولات المحكمة قبل أن يتم اتخاذ القرار النهائي.
هذا لا يعني أن المحكمة ليس بإمكانها اتخاذ مزيدٍ من القرارات المؤقتة للحالات الطارئة، إلا أنه حتى اللحظة، وبعد أكثر من عامٍ ونصف على رفع القضية، وعامين على بدء المقتلة في القطاع، لم تتخذ المحكمة قرارًا مؤقتًا يُلزم “إسرائيل” بوقف عملياتها العسكرية، رغم وضوح دلالات وقوع جريمة الإبادة الجماعية واستمراريتها على قدمٍ وساق، كما فعلت عام 2022 عندما أمرت روسيا بوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
بينما تبدو الحجة التي يسوقها بعض المختصين بعدم قدرة المحكمة على أمر “حماس”، وهي الطرف المقابل في المعادلة، بوقف عملياتها ضد “إسرائيل”، كونها جماعةً مسلّحةً وليست دولةً ذات سيادة مثل “إسرائيل”، وبالتالي لا تمتلك المحكمة المختصّة حصراً بنظر القضايا بين الدول اختصاصًا عليها، غير مقنعةٍ البتّة، ذلك أن “حماس” أكدت في العديد من المناسبات التزامها بوقف عملياتها إذا ما أوقفت “إسرائيل” حربها في القطاع وانسحبت من أراضيه.
تغيّر رياح الدول
منذ انطلاق دعوى جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” مطلع العام الماضي، انضمّت نحو ست عشرة دولة تمثّل قوى دولية صاعدة إلى الدعوى، وظهر أثر انضمامها جليًّا في سياساتها ومواقفها الدبلوماسية من الكيان. فإسبانيا وكولومبيا وتركيا وإيرلندا والمكسيك، كلّها دولٌ اتّخذت خطواتٍ دبلوماسيةً واقتصاديةً شجاعة تجاه دولة الاحتلال، حيث يأتي انضمامها للدعوى متّفقًا مع روايتها المعلنة بالالتزام بالحقّ القانوني والمطالبة، لا بإيقاف المقتلة فحسب، ولكن أيضًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلّة.
ويُلاحظ أن هذه الدول تُعدّ دولًا صاعدة، عانت فيما مضى من ويلات الاستعمار، وترك النظام الدولي الجائر بقيادة الولايات المتحدة وغرب أوروبا أثرًا واضحًا على تاريخها ومصير شعوبها.
شهد شهر سبتمبر انضمام البرازيل إلى الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية بموجب المادة (63) من نظام المحكمة الأساسي، التي تتيح للدول الأعضاء في الأمم المتحدة التقدّم بعريضةِ تدخّلٍ في القضايا المرفوعة أمامها، والتي تستهدف تفسير اتفاقيةٍ هي إحدى أطرافها، وهي في هذه القضية اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.
يُعدّ انضمام البرازيل للقضية مهمًّا لما تمثّله من قوةٍ دوليةٍ صاعدة، إذ تُعدّ ركنًا أساسيًّا في القطب الاقتصادي والسياسي المناوئ للولايات المتحدة وغرب أوروبا، بما في ذلك دورها في مجموعة “بريكس” التي تمثّل نصف تعداد سكان العالم، وقرابة 40% من الاقتصاد العالمي، وتضمّ قوى عالمية تمثّل قطبًا مناوئًا للولايات المتحدة، وتشمل الهند والصين وروسيا ودولًا عربية وأفريقية وآسيوية ولاتينية متعدّدة.
View this post on Instagram
وقد أظهرت البرازيل شجاعةً قلَّ نظيرها فيما يتعلّق بحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها “إسرائيل” على قطاع غزة منذ عامين؛ فمن موقف الرئيس لولا دي سيلفا المعلن الذي وصف الحرب الدائرة في القطاع بالإبادة الجماعية، إلى تحرّكات القضاء الوطني الذي كان أوّل من لاحق الجنود الإسرائيليين الضالعين في حرب الإبادة في الخارج، فاتحًا بذلك الأبواب على مصراعيها للتحركات القضائية الوطنية في ظلّ عجز القانون الدولي عن محاسبة الجناة وإحقاق العدالة.
من الجدير بالذكر أن هيئة المحكمة قد تغيّرت أثناء نظر القضية، ما يعني أن بعض التغيّرات قد تطرأ على سيرها؛ فقد شهد نوفمبر من عام 2023، أي قبيل تقديم القضية بقليل، انتخاباتٍ للهيئة القضائية جاءت بعدّة قضاةٍ جدد سيجلسون في هيئة المحكمة لمدة تسع سنوات ابتداءً من فبراير 2024، منهم القاضي الجنوب أفريقي “دير تالادي“، الذي تبنّى موقف بلاده في بعض الجوانب القانونية لدى نظر القرار المؤقت المتعلّق بوقف العملية العسكرية في رفح في مايو من ذات العام.
كما غيّرت “إسرائيل” قاضيها المعيَّن، الذي تمتلك الدول أطراف القضايا حقَّ تعيينه من رعاياها حال عدم وجود من يمثّلها في هيئة المحكمة القضائية. وقد شغل رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية “أهارون باراك” هذه المهمة ابتداءً قبل أن يستقيل لأسباب شخصية، ومن ثمّ تمّ تعيين القانوني الإسرائيلي “رون شابيرا”، الذي يزدري المحكمة، مكانه ابتداءً من تموز/ يوليو لعام 2024. يُذكَر أن باراك كان قد صوّت لصالح بعض الفقرات في القرارات المؤقتة، خاصةً تلك المتعلّقة بإدخال المساعدات الإنسانية ومعاقبة التحريض على ارتكاب الجريمة، بينما يُتوقّع أن يتّخذ شابيرا مستقبلًا مواقف أكثر انتماءً للرواية الإسرائيلية الرسمية.
أخيرًا، فقد ترأّس القاضي الياباني الجنسية “إيواساوا يوجي” المحكمة ابتداءً من عام 2025 بدلًا من القاضي اللبناني الجنسية نواف سلام. وبينما لا يُتوقّع أن تغيّر جنسية القاضي من حياده وواجبه القانوني، إلا أن خلفيته السياسية ومبادئه العامة غالبًا ما تؤثّر، بشكلٍ غير مباشر، في طبيعة القرارات التي يتّخذها. ولم تتبيّن حتى اللحظة توجّهات القاضي يوجي، غير أن حكومة اليابان، ورغم التزامها العلني بحلّ الدولتين، رفضت الانضمام إلى جهود دولٍ أوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر الماضي، متّخذة موقفًا موافقًا لموقف واشنطن الرافض لهذه الخطوة.
الرأي الاستشاري: كمن عرّف الماء بعد الجهد بالماء
تنظر محكمة العدل الدولية قرارًا من نوعٍ آخر يتعلّق بمشروعية احتلال “إسرائيل” للقطاع والضفة الغربية، كانت قد تقدّمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022. وقد اتّخذت المحكمة، في تموز من العام الماضي، قرارًا بالخصوص يطالب “إسرائيل” بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ويعتبر وجودها العسكري هناك من قبيل الضمّ غير المشروع وفقًا للقانون الدولي. ينضوي هذا القرار تحت ما يُسمّى بـ”الرأي الاستشاري” للمحكمة، وهو غير ملزمٍ للدول الأعضاء، وبالتالي يختلف في طبيعته عن القضايا التي ترفعها الدول لتفسير الاتفاقيات الدولية.
وقد نظرت المحكمة في رأيها الاستشاري جملةً من المسائل التي تمارسها “إسرائيل” في الأراضي المحتلّة، من قبيل سياسات الاستيطان والضمّ والتوسّع والسياسات التمييزية ضدّ الفلسطينيين، إضافةً إلى استغلال الموارد الطبيعية، وهي جملة انتهاكاتٍ للقانون الدولي وقواعده المتعلّقة بالاحتلال المؤقّت، الذي لا يمنح “إسرائيل” حقًّا بالسيادة، ولا يتيح لها أن تنتهك حقّ الشعب المحتلّ في تقرير مصيره.
كما أشارت المحكمة إلى التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بعدم مساعدة “إسرائيل” على استمرارية مشاريعها الاستعمارية والاستيطانية في الأرض المحتلّة، وإلى التزام “إسرائيل” بإنهاء وجودها العسكري في القطاع والضفة، بما فيها القدس الشرقية، وتفكيك مستوطناتها غير المشروعة، وجدار الفصل العنصري، وتعويض المتضرّرين من الفلسطينيين.
الأهمية القانونية والسياسية للقرار لا يمكن إنكارها، برغم صفته الاستشارية؛ ففي نوفمبر من عام 2024 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يؤكّد على رأي محكمة العدل الدولية، بتصويت 170 دولة لصالحه، وامتناع 9 دول عن التصويت، وتصويت 9 دول أخرى ضدّه، ضمّت الأرجنتين والباراغواي والولايات المتحدة و”إسرائيل” وعددًا من الدول الجُزرية الصغيرة.
يفتح القرار الباب على مصراعيه لاتخاذ إجراءاتٍ متعدّدة، سواء على مستوى أجهزة الأمم المتحدة أو على مستوى الدول فرادى وجماعات، بما يشمل منع تصدير السلاح، وإجراءات المحاسبة، وعقوباتٍ متنوعة تشمل قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها. القرار يوفّر الأرضية اللازمة لعمل المحاكم الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، وجهود المنظمات الحقوقية والضغط على الحكومات والشخصيات المنتخبة للالتزام بقرارات المحكمة والجمعية العامة للأمم المتحدة.
ورغم أن مؤسسات القانون الدولي لا تملك مخالب وقوّة تنفيذٍ بغير الإرادة السياسية للدول الأعضاء، خاصةً الدول الأوفر حظًّا في ميزان القوى، إلا أن الأساس القانوني يتيح للتحركات الشعبية والإقليمية والوطنية أن تواصل نضالها متعدّد الجبهات، الذي يؤتي ثماره على المدى الطويل، والذي نشهد حاليًّا بعض آثاره على حكوماتٍ أوروبية ولاتينية متعدّدة بدأت تجهر بمواقفها المؤيّدة للقضية الفلسطينية، حيث نرى البرازيل وكولومبيا وقد قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية بإسرائيل، وفرضتا حظرًا على تصدير السلاح إلى تل أبيب.
بينما فرضت دولٌ أخرى قيودًا على صادرات الأسلحة لإسرائيل، وصل بعضها إلى قطعٍ جزئيٍّ أو كُلّيٍّ، ومنها إسبانيا وكندا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا والدنمارك. في المقابل، قابلت الولايات المتحدة التحركات القضائية الدولية بالرفض والعداء؛ فقد رفضت مشروعية القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام العدل الدولية، وهدّد مشرّعوها جنوب أفريقيا علنًا في حملةٍ متواصلةٍ من البلطجة على القانون الدولي ومؤسساته.
المحكمة الجنائية الدولية: لعبة المماطلة القاتلة
يمتدّ تاريخ القضية الفلسطينية مع محكمة الجنايات الدولية لعقود؛ فمن المحاولات المبكرة للانضمام، والرفض المتكرّر من المجتمع الدولي بحجّة عدم الأهلية، وصولًا إلى الاعتراف بفلسطين دولةً مراقبًا غير عضوٍ في الأمم المتحدة عام 2012، ومن ثمّ ضغوط تل أبيب وواشنطن لعدم الانضمام إلى ميثاق روما، وصولًا إلى الانضمام والمصادقة عام 2015، لتبدأ بعدها واحدة من أطول وأكثر العمليات القانونية إحباطًا في تاريخ المحكمة، نتيجة الجوّ السياسي العام والضغوط الدولية المحيطة بعملها.
رغم أن أياً من الولايات المتحدة و”إسرائيل” ليستا طرفين في اتفاقية روما المُؤسِّسة لمحكمة الجنايات الدولية، فإنّ المحكمة تمتلك صلاحية نظر الانتهاكات التي وقعت في أراضي أحد أطرافها، بغضّ النظر عن موقع المعتدي.
وقد انضمّت فلسطين إلى ميثاق روما المُؤسِّس منذ عام 2015، ورفعت دعواها أمام المحكمة للنظر في جرائم حربٍ وجرائم ضدّ الإنسانية ارتكبتها “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1967، وهي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، وهضبة الجولان، بأثرٍ رجعيٍّ يعود إلى حزيران/ يونيو من عام 2014، وهو العام الذي شنّت فيه “إسرائيل” حملةً عسكريةً شرسة على قطاع غزة.
لم تتخذ الدائرة التمهيدية للمحكمة قرارًا بالاختصاص نظرًا للضغوط السياسية والعملية الهائلة على عملها قبل فبراير/ شباط من عام 2021، في أواخر فترة تولّي فاتو بنسودا لمكتب الادعاء في المحكمة. وفي مارس/ آذار من ذات العام، انطلقت إجراءات التحقيق الرسمية، لتتراخى بعدها إجراءات المحكمة مع تولّي كريم خان مكتب الادعاء في تموز/ يوليو من العام نفسه، لفترةٍ انتخابية تمتدّ لتسع سنوات.
أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وضعت ضغطًا متناميًا على القضية أمام الجنائية الدولية، نتيجة تصاعد العنف وتعالي الأصوات حول ارتكاب جريمة إبادةٍ جماعية، وهي جريمة لم تكن ضمن تركيز المحكمة في القضية الأصلية، التي اقتصرت بشكلٍ أساسي على جرائم الحرب، وبشكلٍ محدود على الجرائم ضدّ الإنسانية. وقد دفع ذلك خان إلى التعهّد بتوسيع مجال التحقيق في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2023، دون إشارةٍ واضحةٍ إلى إضافة جريمة الإبادة الجماعية إلى قائمة التحقيق.
عامٌ كاملٌ احتاجته الدائرة التمهيدية للمحكمة لتصدر مذكّرات اعتقال بحقّ رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، حيث تمّ إصدار المذكرات في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2024، وقد أوضحت المحكمة سببها القانوني بوجود أساسٍ معقولٍ للاعتقاد بالمسؤولية الجنائية لنتنياهو وجالانت عن جريمة الحرب المتمثّلة بجريمة التجويع كأسلوبٍ من أساليب الحرب، وجملة جرائم ضدّ الإنسانية تشمل القتل والاضطهاد والأفعال اللاإنسانية، دون ذكرٍ لجريمة الإبادة الجماعية.
124 دولةً طرفًا في ميثاق روما المُؤسِّس لمحكمة الجنايات الدولية ملزمةٌ بموجبه بتنفيذ مذكّرات الاعتقال. بعض الدول الغربية، بما فيها بلجيكا وإسبانيا وإيرلندا وألمانيا وبريطانيا وكندا، أعلنت التزامها بقرار المحكمة، وأنها ستقوم باعتقال نتنياهو وجالانت إذا ما زارا أراضيها أو مرا بمجالها الجوي، ما دفع نتنياهو لتحويل مسار رحلاته الجوية وتفادي المرور بأجواء أو أراضي هذه الدول.
View this post on Instagram
في المقابل، رفضت جملةٌ من الدول قرار المذكرات، وأعلنت عدم التزامها به، ومنها الصين والهند وأستراليا والسويد وغيرها، في مخالفةٍ لالتزاماتها القانونية بموجب ميثاق روما.
ورغم امتداد الزمان وتعاقب المدّعين العامين على مكتب الادعاء، ووقوع أشرس وأوثق حرب إبادةٍ في التاريخ الحديث منذ رفع قضية فلسطين أمام المحكمة، ووقوع هذه الانتهاكات المروّعة ضمن الاختصاص الجغرافي والزماني والموضوعي للمحكمة المعنية بنظر أخطر الجرائم الدولية، بما فيها جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، وانضمام عددٍ كبيرٍ من الدول والمنظمات الحقوقية إلى جهود التقاضي، فإنّ المحكمة لم تتقدّم حتى اللحظة في الملفّ، باستثناء قرار إصدار مذكّرات اعتقال بحقّ نتنياهو وجالانت، وهو قرارٌ لم يُنفَّذ من قبل الدول الأعضاء في المحكمة حتى الآن.
في المقابل، تعرّضت المحكمة لمعسكرات ضغطٍ شديدة من الولايات المتحدة خاصةً، شملت فرض عقوباتٍ على عددٍ من القضاة والمدّعين العامين، من ضمنها منع دخولهم إلى أراضي الولايات المتحدة، وتجميد أصولهم وأموالهم. كما تمّ تلفيق اتهاماتٍ بالتحرّش الجنسي لمدّعيها العام كريم خان، ما أدّى إلى استبعاده مؤقتًا من مكتب الادعاء لحين البتّ في الشكاوى الموجّهة ضده.
القضاء الوطني يأخذ بزمام المبادرة
في مقابل العجز الذي تعانيه المحاكم الدولية، المكبّلة بالإجراءات والبيروقراطية والضغوط السياسية المتنامية، انطلقت موجةٌ كاسحة من جهود التقاضي الوطنية، المبنيّة أساسًا على مبادئ دولية مثل مبدأ الاختصاص العالمي، الذي يُلزم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بمقاضاة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وقوانين الحرب، وعلى رأسها جرائم الحرب، أياً كانت جنسية الجاني أو المجني عليه، وأياً كان مكان وقوعها، في تكاتفٍ دولي يسعى لعدم تكرار مآسي الحرب العالمية الثانية ومنع حالات الحصانة والإفلات من العقاب.
عشرات القضايا المرفوعة على جنودٍ إسرائيليين أو حتى حملة جنسياتٍ غربيةٍ أخرى شاركوا في حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، عُرضت على هيئاتٍ قضائية وشرطية أوروبية ولاتينية وأمريكية. القضايا موجّهةٌ إمّا ضدّ حملة الجنسية المزدوجة، أو ضدّ جنودٍ وشخصياتٍ تواجدت في أراضي تلك الدول للزيارة أو السياحة، وقد اعتمدت بشكلٍ أساسي على منشورات مواقع التواصل الاجتماعي التي تشير إلى ارتكاب هؤلاء الجنود جرائمَ في القطاع، ومخططات سفرهم وتنقّلاتهم.
رفعت هذه القضايا منظماتٌ حقوقيةٌ عالمية مثل مؤسسة هند رجب والاتحاد العالمي لحقوق الإنسان، الذي يضمّ تحت مظلّته منظماتٍ حقوقية فلسطينية رائدة مثل الحق والميزان وغيرها، بالنيابة عن ضحايا فلسطينيين وذويهم من القطاع. ولاقت انتشارًا واسعًا منذ اندلاع حرب الإبادة، وتزايدت مع وصول الحرب لمراحل حرجة، فلاحقت الجنود المصطافين على شواطئ قبرص وسلوفينيا وهولندا وإسبانيا والبرازيل.
وبينما لم تتمخّض هذه الجهود حتى اللحظة عن محاكماتٍ فعلية لجنود الاحتلال، نظرًا لفرارهم في اللحظات الأخيرة كما حدث في البرازيل وقبرص، أو بسبب الضغط السياسي الهائل كما حدث للجنديين اللذين تمّ احتجازهما لفترةٍ وجيزة في بلجيكا قبل أن يتم الإفراج عنهما، فإنّ هذه الملاحقات خلقت حالةً من الخوف والتضييق داخل دولة الاحتلال ومؤسّستها الأمنية، التي أصدرت تعليماتٍ لجنودها بعدم السفر إلى دولٍ يُشتبه بإمكانية القبض عليهم فيها، كما أوصتهم بعدم النشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتغطية وجوههم في المقابلات والظهور الإعلامي بصورةٍ عامة.
وقد لاقت التحركات القانونية ترحيبًا رسميًّا في بعض الدول، من ضمنها البرازيل وإسبانيا، ما خلق أزمةً دبلوماسيةً بين تل أبيب وهذه العواصم، ومهّد لاحقًا لتأزّم الموقف بمزيدٍ من القطيعة الدبلوماسية والتوتّر السياسي، خالقًا حالةً من الضغط على المؤسسات القضائية في بقية دول العالم للوقوف على مسؤولياتها الدولية، أسوةً بمحاكم تلك الدول.
ختامًا، ما زال النظام القضائي الدولي قاصرًا عن إحقاق الحقّ وإنفاذ العدالة، وما زال الطريق طويلًا أمام المناضلين الحقوقيين لتُسمَع أصوات الضحايا، ويُلقى الجناةُ ما يستحقّونه.
وجملة الأسباب مزيجٌ من اختلال موازين القوى، وقصور مؤسسات العدالة، وغياب الإرادة السياسية لوقف المقتلة في القطاع غير أنّ التحركات الدولية الفردية والشجاعة، النابعة من دول العالم الثالث على وجه الخصوص، تُنبئ برغبة تلك الدول في إنشاء نظامٍ دوليٍّ جديد لا تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها مركزه وقطبه الأوحد؛ بتحركاتٍ جريئةٍ وأصواتٍ ما فتئت تتعالى وتتجمّع، سيكون لحرب غزة ما بعدها، ولن يعود العالم بعد الطوفان كما كان.