“برلمان” سوريا الجديد.. فرصة لبناء الثقة وتنشيط الحياة السياسية

تخوض البلاد تجربةً أولى لتشكيل مجلس الشعب (البرلمان) عبر انتخاباتٍ غير مباشرة، بعد نحو عشرة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، وطيّ صفحة عقودٍ من هيمنة حزب البعث وآل الأسد على المجلس، الذي تحوّل طوال تلك الحقبة إلى أداةٍ شكليةٍ مسلوبةِ الصلاحيات، ومجرّدةٍ من ممارسة أيِّ دورٍ تشريعيٍّ أو رقابيٍّ فعليّ.

وتمثّل هذه الانتخابات محاولةً أولى لإرساء ملامحِ السلطة التشريعية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسسٍ يُفترض أن تتجاوز منطقَ السيطرة الأمنية والحزب الواحد، باتجاه التعدّدية والتمثيل السياسي، مع انتقاداتٍ طالتها، إذ اعتبر البعض أنها قاصرةٌ على تمثيل التنوّع السياسي السوري، ولم تصل بعد إلى نموذجٍ انتخابيٍّ مثاليٍّ أو مكتمل.

وقد وصف الرئيس السوري أحمد الشرع الانتخابات بأنها “عمليةٌ غير مكتملةٍ تمامًا”، واعتبرها تجربةً “متوسطةً تتناسب مع الظرف السوري ومع المرحلة الانتقالية”، لكنه شدّد في الوقت نفسه على أنها “لحظةٌ تاريخيةٌ وحسّاسة”، مؤكّدًا أن سوريا تمكّنت، في أقصر وقتٍ ممكن، من ملء الفراغ التشريعي المهم، بما يتيح عودة الدور الرقابي على الحكومة، وسنَّ القوانين، ومتابعةَ وتمثيلَ شؤون المواطنين.

وبدأت عمليات الاقتراع لاختيار أعضاء مجلس الشعب يوم الأحد 5 من أكتوبر/ تشرين الأول، فيما صدرت قوائمُ الفائزين الحاصلين على أعلى نسب التصويت من قبل لجان الهيئات الناخبة عن كل محافظةٍ سورية، باستثناء المحافظات المستثناة (السويداء، الحسكة، الرقة) المؤجَّلة لأسبابٍ أمنية.

غير مباشرة.. أول انتخاباتٍ برلمانية بعد الأسد

شهدت المحافظات السورية عمليةَ اختيار أعضاء مجلس الشعب، حيث جرت الانتخابات بمشاركة 1578 مرشّحًا، بينهم نحو 14% من النساء.
أدلى أعضاءُ الهيئات الناخبة بأصواتهم، وبعد إغلاق الصناديق وختمها بالشمع الأحمر، بدأت عمليات الفرز، تلتها إجراءاتُ إعلان قوائم الفائزين الحاصلين على أعلى نسب التصويت.
وقد رافق هذه المرحلةَ حضورٌ لممثّلي بعثاتٍ دبلوماسيةٍ وسفراء معتمدين، إلى جانب وسائل إعلامٍ محلّيةٍ ودولية تابعت المجريات.

ويبلغ عددُ مقاعد مجلس الشعب 210 أعضاء، يتم انتخاب ثلثيهم (140 عضوًا)، فيما يُعيَّن الرئيسُ الثلثَ المتبقي (70 شخصًا)، وتُسمَحُ بالطعون في النتائج خلال ثلاثة أيام، ويُبتّ فيها خلال خمسة أيام.

وصرّح رئيس اللجنة العليا للانتخابات، محمد طه الأحمد، بأن اللجنة حرصت على توفير أكبر قدرٍ من الشفافية والنزاهة، مشيرًا إلى أن عمليات الفرز جرت بحضور وسائل الإعلام، ما اعتبره دليلًا على علنية وسلامة الإجراءات.
وأوضح أن مجلس الشعب، بوصفه السلطة التشريعية، تنتظره مهمةٌ أساسيةٌ في مراجعة القوانين والتشريعات خلال المرحلة المقبلة، لافتًا إلى توقيع مذكرةِ تفاهمٍ مع عددٍ من منظمات المجتمع الأهلي، بما يُسهم في تعزيز مشاركة المرأة داخل المجلس.

من جهته، أكّد المتحدث باسم اللجنة، نوار نجمة، أن التشكيلة الحالية لمجلس الشعب تخلو تمامًا من أيِّ شخصياتٍ مرتبطةٍ بالنظام السابق، مشيرًا إلى أن الرئيس أحمد الشرع سيستكمل تعيينَ الثلثِ المكمِّل من الأعضاء، بما يراعي الكفاءة والتوازن في التمثيل العِرقي والطائفي والجندري.

وتشكّلت اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب بموجب المرسوم الرئاسي رقم (66) لعام 2025، الصادر بتاريخ 13 من يونيو/ حزيران الماضي، واعتمدت نظامَ انتخاباتٍ غير مباشر، مرجعةً السبب إلى الواقع الذي تعيشه سوريا، إذ لا يسمح بإجراء انتخاباتٍ تقليدية (مباشرة)، فهناك ملايينُ المهجّرين في الداخل والخارج، وغيابٌ للوثائق الرسمية، وثغراتٌ في البنية القانونية، ومخاوفُ مبرَّرة من استعادة أدوات النظام السابق تحت مسمّياتٍ جديدة.

وتقوم العملية الانتخابية على إحداث لجنة انتخاباتٍ فرعيةٍ في كلّ دائرةٍ انتخابيةٍ بالمحافظات، وتقوم هذه اللجان، بعد التشاور مع المجتمعات والفعاليات الرسمية المحلية، بتعيين الهيئة الناخبة، التي ستقوم بانتخاب أعضاء مجلس الشعب من ضمن أعضائها.

وقرّرت اللجنة تأجيلَ الانتخابات في محافظات السويداء والحسكة والرقة، لعدم توفّر الظروف المناسبة والبيئة الآمنة لإجرائها، مؤكّدةً أن المقاعد المخصّصة لهذه المحافظات ستبقى محفوظةً.

وترتبط عدةُ مواد في “الإعلان الدستوري“، الذي صادق عليه الرئيس أحمد الشرع في 13 من مارس/ آذار 2025، بالسلطة التشريعية التي يتولاها مجلس الشعب.
ومن أبرز هذه المواد أن رئيسَ الجمهورية يُشكِّل لجنةً عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، تتولّى الإشرافَ على تشكيل هيئاتٍ فرعيةٍ ناخبة، تقوم بدورها بانتخاب ثلثَي أعضاء المجلس، أمّا الثلثُ المتبقي، فيُعيّنه رئيسُ الجمهورية لضمان التمثيل العادل والكفاءة.

ولا يجوز عزلُ عضوٍ من أعضاء مجلس الشعب إلا بموافقة ثلثَي أعضائه، ويتمتّع العضوُ بالحصانة البرلمانية.
ويتولّى المجلسُ ممارسةَ السلطة التشريعية إلى حين اعتماد دستورٍ دائمٍ وإجراءِ انتخاباتٍ تشريعيةٍ جديدةٍ بموجبه.
وتُحدَّد مدةُ ولاية مجلس الشعب بثلاثين شهرًا قابلةٍ للتجديد.

ويُؤدّي أعضاءُ مجلس الشعب القسمَ أمام رئيس الجمهورية، ويقوم المجلسُ في أول اجتماعٍ له بانتخاب رئيسٍ ونائبين وأمينٍ للسرّ، عبر الاقتراع السرّي وبالأغلبية.
ويتولّى رئاسةَ الجلسة الأولى أكبرُ الأعضاء سنًّا إلى حين اكتمال عملية الانتخاب.
كما يُلزَم المجلسُ بوضع نظامه الداخلي خلال شهرٍ من انعقاد أول جلسة، ويتّخذ قراراته بالأغلبية.

ويتولّى مجلس الشعب المهام التالية:

  • اقتراح القوانين وإقرارها.
  • تعديل القوانين السابقة أو إلغاؤها.
  • المصادقة على المعاهدات الدولية.
  • إقرار الموازنة العامة للدولة.
  • إصدار قرارات العفو العام.
  • قبول استقالة أحد أعضائه أو رفضها، ورفع الحصانة عنه وفقًا لنظامه الداخلي.
  • عقد جلسات استماعٍ للوزراء.

تجربة غير مسبوقة.. صوتٌ لبناء سوريا الجديدة

يصف الصحفي وعضوُ الهيئة الناخبة في ريف دمشق، براء عثمان، تجربتَه في المشاركة بانتخابات مجلس الشعب بأنها المرّةُ الأولى التي يشعر فيها بأنه يشارك في “انتخاباتٍ حقيقية”، قائلًا إن العملية اتّسمت بالعفوية والتنظيم، حيث جرى تسليمُ البطاقات الانتخابية خارج غرف التصويت، ثم إدخالُ الناخبين تدريجيًّا لتفادي الازدحام.

ويشرح عثمان في حديثه لـ نون بوست أن الغرف السرّية لم تحتوِ سوى قلمٍ وقائمةٍ بأسماء المرشّحين، دون أيّ شعاراتٍ أو رموز، وأن التصويت تمّ دون تعرّض الناخبين لأيّ ضغطٍ أو إغراءٍ لاختيار أسماء بعينها.

ويضيف أن الإجراءات داخل مراكز الاقتراع كانت واضحةً، إذ يُطلب من الناخب استلامُ الورقة، ثم التوجّهُ مباشرةً إلى الغرفة السرّية، وبعد التصويت يمكنه مغادرة القاعة أو البقاء كمراقب.
كما أشار إلى أن وسائل الإعلام كانت حاضرةً ومتابِعةً لجميع مراحل العملية، من الترشّح إلى التصويت، معتبرًا ذلك “خطوةً جيّدةً جدًّا” في تعزيز الشفافية.

وفي ختام حديثه، يعبّر عثمان عن تطلّعه إلى أن تكون هذه التجربة خطوةً أولى نحو صياغة تشريعاتٍ جديدةٍ لسوريا، تمهيدًا لإجراء انتخاباتٍ شعبيةٍ شاملةٍ في المستقبل، بعد عودة المهجّرين واستقرار الأوضاع في البلاد.

أما الإعلامي وعضوُ الهيئة الناخبة في منطقة سهل الغاب بريف حماة، إياد عبد الجواد، فيستعيد ذاكرته إلى نحو 18 عامًا مضت، حين شارك في انتخابات مجلس الشعب ضمن قوائمَ جاهزةٍ “بعيدةٍ عن الديمقراطية”، في إشارةٍ إلى طبيعة الانتخابات في ظلّ نظام الأسد.

في هذه الانتخابات، يقول إياد عبد الجواد لـ نون بوست إنه صوّت بحرّية، واختار من يرى فيهم الكفاءة والمسؤولية، واصفًا مشاركته بأنها “أوّلُ عمليةٍ انتخابيةٍ يكون سعيدًا بها في حياته”، ومشيرًا إلى أنها واحدةٌ من “ثمرات الثورة السورية”، التي تُكمّل فرحةَ سقوط النظام السابق.

ويعتبر أن منحَ الصوت قد يبدو أمرًا عاديًّا في أيّ بلد، لكنه في حالته يحمل دلالةً رمزيةً كبيرة، وشعورًا أعاد له الحقَّ بالمشاركة والانتماء إلى بلده من جديد، في تجربةٍ وصفها بأنها “لبنةٌ في بناء سوريا الجديدة”.

من جانبه، يصف مؤيد حبيب، الفائزُ في انتخابات مجلس الشعب عن منطقة داريا بريف دمشق، مشاركته في هذه الانتخابات بأنها “أوّلُ تجربةٍ تمرّ على الشعب السوري منذ ستين عامًا”، ويتوفّر فيها قدرٌ من الحرية والتنافس.

ويقول حبيب في حديثه لـ نون بوست إنه كان يتمنّى مشاركةً أوسع من عموم السوريين، لكنّ الظروف أعاقت ذلك، من وجودِ مهجّرين وغيابِ الكثير من الوثائق الرسمية.

ويشير إلى أن المنافسة كانت محتدمةً وصعبة، وأن فوزه بالمقعد عن منطقة داريا (التي تشمل معضمية الشام، وصحنايا، وأشرفية صحنايا، والحجر الأسود) جاء وسط دعمٍ واسعٍ من الشباب، بهدف النهوض وإعادة البناء في منطقةٍ وصفها بـ”المنكوبة”.

وخلال لحظاتِ فرزِ الأصوات، كان مؤيد حبيب يسترجع صورًا من الذاكرة، قائلًا: “مع كلّ صوتٍ كنتُ أتذكّر لمحاتٍ عن الشهداء في داريا، لحظاتِ الحصار والتهجير”، مشيرًا إلى المفارقة في أن من عاش تلك المشاهد أصبح اليوم يخوض غمارَ المنافسة على عضوية مجلس الشعب للمشاركة في إعادة بناء البلد.
ويختم مؤكّدًا أنه لا خيارَ “إمّا النجاح أو النجاح”، معتبرًا أن ما تعيشه البلاد الآن “فرصةٌ لا يمكن أن تتكرّر”.

خطوة لتعزيز الانتماء وبناء الثقة

في بلدٍ يمرّ بمرحلةٍ هشّةٍ بعد عقودٍ من القمع والانقسام وتقييد الحريات، يجد كثيرٌ من السوريين أنفسهم للمرة الأولى أمام تجربةٍ سياسيةٍ من نوعٍ مختلف، إذ مثّلت المشاركةُ في الانتخابات لحظةً محمّلةً بتراكماتٍ شخصيةٍ ووطنية، واختبارًا جديدًا لعلاقتهم بالعمل العام وعلاقتهم تجاه وطنهم.

ووسط واقعٍ معيشيٍّ واقتصاديٍّ بالغِ التردّي ودمارٍ ماديٍّ ومعنويٍّ، يعيش أكثرُ من 90% من السوريين تحت خطّ الفقر، في ظلّ أزماتٍ إنسانيةٍ متفاقمةٍ ونسيجٍ اجتماعيٍّ ممزّقٍ تعكسه حوادثُ وانقساماتٌ يومية، بدت صناديقُ الاقتراع بالنسبة إلى البعض فرصةً لتلمّسِ معنى الانتماء والمشاركة.

ويرى الباحثُ والأكاديميُّ السوري أحمد جاسم الحسين أن الانتخابات تمثّل جزءًا من العملية الديمقراطية، وبالتالي هي جزءٌ من بناء الدولة، مشيرًا إلى أن الانتخابات التشريعية المرتبطة بالبرلمان تعني مشاركةَ المواطنين، سواء بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، في بناء الدولة.

ويقول الحسين لـ نون بوست إن من يمثّل المواطنين في البرلمان عليه مهمةُ سنّ القوانين ومراقبةُ عمل الحكومة، ويكون حلقةَ الوصل بين المواطن والدولة في عددٍ من المطالب والقضايا الحياتية اليومية.
ومن هنا، فإن شعور المواطن السوري بأن الانتخابات التي جرت كانت حقيقيةً، دقيقةً، وصحيحةً، وخاليةً من التلاعب أو التزوير، يُسهم في إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، خاصةً وأن هذه الثقة تأثّرت كثيرًا على مدى سنواتٍ طويلة.

ويؤكّد الحسين أن هذه العوامل تجعل من الانتخابات عنصرًا إيجابيًّا في تعزيز العلاقة بين المواطن والدولة، خصوصًا في ظلّ حالة عدم الثقة التي عمرُها عشرات السنين. ويرى أن الخطوة الانتخابية الحالية تُعَدّ عاملًا مهمًّا في استعادة هذه الثقة، خاصةً إن كانت الانتخابات بشفافيةٍ تامّةٍ وبدون أيّ تلاعب.

ويشير الباحث إلى أن ما جرى في الانتخابات الأخيرة هو جزءٌ من عمليةِ تعزيزِ الانتماء والهوية الوطنية.
فشعورُ الإنسان بأن صوته مسموعٌ وأنه يمارس حقَّه الانتخابيَّ بحريةٍ دون أن يُصادَر أو يُزوَّر، يُعيد بناءَ قيمِ المواطنة، ويُعيد تشكيلَ هويةٍ وطنيةٍ ترتكز على علاقةٍ طبيعيةٍ بين المواطن والدولة، بعد سنواتٍ طويلةٍ من فقدان هذه العلاقة.

ويضيف أن التخلّص من الإرث السلبيّ المرتبط بالواقع النفسيّ والإداريّ لا يمكن أن يتمَّ دفعةً واحدة، إنما يحتاج إلى وقتٍ طويل، وهذا ما يفسّر وقوعَ بعضِ المرشحين في استعمال خطاباتٍ قديمة.

وبحسب تقريرٍ تحليليٍّ لمركز “جسور” للدراسات، فإن انتخاباتِ مجلس الشعب تمثّل اختبارًا حقيقيًّا للسلطة وللجمهور، في الكشف عن قدرة الطرفين على تحمّل مسؤوليتهما الوطنية وتقديم نموذجٍ حضاريٍّ يمكن الاعتماد عليه في بناء سوريا الجديدة بعد ثورةِ الحرية والكرامة.

وبتشكيل السلطة التشريعية، تكون السلطةُ الجديدة قد اتّخذت الخطوةَ الأخيرة في ترسيخِ المؤسساتِ الرسمية التي ستقود المرحلةَ الانتقالية في سوريا، للوصول إلى صياغةِ دستورٍ جديدٍ للبلاد وإقراره، تنبثق عنه انتخاباتٌ تُنتِج السلطةَ التشريعية والتنفيذية، وتنظّم السلطةَ القضائية، وفق تقرير المركز.