غزة بين الركام وإسرائيل بين الشكوك: سنتان من الدم والخيبة

ترجمة وتحرير: نون بوست
تجمد الزمن في كيبوتس نير عوز، الدراجات الثلاثية وبيوت الدمى ومساحيق الغسيل المكدسة خارج المنازل المحترقة تشهد على حياة توقفت قبل عامين، حين أسفر هجوم شنّته حماس عن مقتل أو اختطاف أو فقدان 117 شخصًا من هذا المجمع الزراعي الصغير قرب حدود غزة، أجراس الرياح تطن فوق الأراجيح المنهارة لأطفال غائبين.
من بين 384 من السكان الذين كانوا يعيشون هناك وقت الهجوم في 7 أكتوبر/تشرين 2023، عاد عدد قليل فقط، لكنهم، مثل إسرائيل بأكملها، لا يزالون يعيشون في قبضة رعب كان من المفترض أن يمنعه قيام الدولة اليهودية عام 1948. قالت أولا متزغر، التي عادت مؤخرًا مع عائلتها: “كل حديث ينتهي بذكر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول”.
زوجها نير متزغر، الذي اختُطف والده على يد حماس وقُتل العام الماضي في مدينة خان يونس جنوب غزة، هو السكرتير العام للكيبوتس. وتعد إحدى أكبر القضايا التي يواجهها هي ما إذا كان يجب هدم المنازل المحترقة والمهدمة أو الحفاظ عليها كنصب تذكاري.
قال وهو جالس في مطبخ منزله الجديد المضيء: “إنه نقاش محتدم. أنا أقول: فلنهدم ونعد البناء. لا أريد للأطفال أن يمروا بجانب منازل محترقة. حان وقت المضي قدمًا”.
لكن كيف؟ فقد أصبح المستقبل مثقلا بمستويات جديدة من انعدام الثقة والكراهية سواء في إسرائيل المنقسمة والمعزولة، أو في غزة المدمّرة. وعلى الرغم من أن حركة حماس قالت يوم الجمعة إنها وافقت على إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المتبقين، أحياءً وأمواتًا، فإنها لم تعلن قبولها لمعظم بنود الخطة التي قدمها الرئيس ترامب، بما في ذلك مطلب نزع السلاح. وقد رحّب ترامب بالتصريح، وقالت إسرائيل إنها ستتعاون معه.
إن أطول حرب في الصراع الذي لا نهاية له بين الإسرائيليين والفلسطينيين لم تنتهِ بعد، وقد أصبحت تشكل تحديًا لصورة إسرائيل وفهمها لذاتها؛ فقد قتلت قواتها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وألحقت دمارًا شاملًا بكل جوانب الحياة في غزة، لدرجة أن معظم دول العالم تتهمها بارتكاب إبادة جماعية. وفي الوقت نفسه، يشهد العالم تصاعدًا في معاداة السامية، وكان الهجوم هذا الأسبوع على كنيس يهودي في مانشستر بإنجلترا، خلال يوم الغفران، أحدث مثال على ذلك.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن حلم الدولة التي اعترفت به المزيد من الدول مؤخرًا لا يزال طموحًا بعيد المنال في أفضل الأحوال، وهذه هي القضية الثابتة التي تقع في صميم الحرب بعد الحرب.
تجاهل ترامب أكثر من قرن من التدخلات الغربية الفاشلة في الشرق الأوسط، واقترح شكلاً من أشكال الوصاية على غزة يفترض أن الازدهار “الذي تصنعه مجموعات دولية حسنة النية” هو “طريق” إلى السلام.
إنها خطة طموحة لشريط أرض بلغ فيه الدمار مستويات كارثية، ويبدو أن الاقتراح أُعد جزئيًا لتمكين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من إعلان النصر على حماس. وإذا تم إطلاق سراح الرهائن، فسيعزز ذلك بالتأكيد مكانة نتنياهو السياسية.
غير أن فكرة ترامب بتحويل غزة إلى مركز تجاري ساحلي يتمتع بـ”تعريفات جمركية وتسهيلات وصول مفضّلة” ودور فلسطيني هامشي في الحكم، تبدو مهينة لسكانها وغير قابلة للتطبيق في آنٍ واحد.
وقالت رِواء أبو قُطّة، وهي شابة غزية تعيش في خيمة بمنطقة المواصي الساحلية منذ أكثر من عام، في مقابلة هاتفية: “هذه الخطة لا تضمن حقوقنا كبشر يتمتعون بالكرامة”. ولقد فقدت رواء منزلها ووظيفتها وآمالها منذ بداية الحرب، وأضافت: “إنها تعطينا شعورًا بأن التهجير سيصبح هويتنا”.
إن التهجير والسعي نحو وطن هما بطبيعة الحال جزء جوهري من المصير المتشابك للإسرائيليين والفلسطينيين، فالمحرقة والنكبة عام 1948، التي شهدت طرد نحو 750,000 فلسطيني خلال حرب استقلال إسرائيل، يتنافسان على وزن أكبر في ميزان الضحايا التنافسي العقيم. ومن خلال إحياء ذكريات هذه الكوارث الكابوسية، دفع هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول والحرب الانتقامية في غزة الطرفين إلى عمق أكبر من العداء.
وقال يوفال شاني، أستاذ القانون الدولي في الجامعة العبرية يتابعونفي القدس: “لقد عززت مجزرة 7 أكتوبر/ تشرين الأول وأسر الرهائن ارتباط إسرائيل بالمحرقة، وبالنسبة لكثير من الفلسطينيين في غزة، كانت الحرب نكبة جديدة”، وأضاف: “وهكذا، تُغذي السرديات نفسها في حلقة مفرغة لا تنتهي”.
ومع مرور عامين على أكبر هزيمة في تاريخ البلاد الممتد لـ77 عامًا، يجد الإسرائيليون أنفسهم منهكين نفسيًا وجسديًا، وليس فقط 295,000 من جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم مرارًا وتكرارًا؛ فقد هاجر نحو 83,000 إسرائيلي في عام 2024، بزيادة قدرها 50 بالمائة عن العام السابق، كما انتحر سبعة من أفراد الجيش الإسرائيلي في شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب وحدهما.
والناس إما تابع الأخبار بشكل قهري، أو أنهكهم التعب ولا يتابعونها إطلاقًا، ويتحدثون عن شعورهم بالإرهاق. وبدأت الملصقات والرسومات الخاصة بالرهائن والجنود الذين سقطوا في غزة تتلاشى وتتقشر على الجدران والمقاعد. ويشتعل الغضب لأتفه الأسباب؛ فبعد مشاجرات متكررة وقبيحة حول المسارات، أرسل مسبح غوردون الساحلي في تل أبيب، الذي تأسس عام 1956، رسالة في 7 أغسطس/ آب تحث أعضائه على “تجنب أي تعبير عن العدوان الجسدي أو اللفظي”.
يتحدث الجيران العرب عن إسرائيل الإمبريالية بعد أن وجّه نتنياهو ضربة قاسية لحزب الله في لبنان وألحق أضرارًا ببرنامج إيران النووي. لكن داخل إسرائيل، لا يوجد شعور بالنصر أو التفوق العسكري الإقليمي.
بل إن إسرائيل وجدت في أضعف أعدائها، حركة حماس، الخصم الأكثر استعصاءً، ربما لأن هزيمة فكرة ما ليس بالأمر السهل، وهي الآن غارقة في الشك. فالمجتمع الإسرائيلي المتشابك بشدة، والذي تشكّل من خلال التعليم والخدمة العسكرية، بات يناقش ما إذا كان قد فقد طريقه ومثله العليا.
وقال غيرشوم غورنبرغ، مؤلف ومؤرخ إسرائيلي: “لا يوجد في إسرائيل تاريخ للفرد القوي كما في أمريكا. الأسطورة هنا هي أسطورة الجماعة القوية، وقد تحطّم ذلك الإحساس بالمسؤولية المشتركة”.
إسرائيل تنقسم على نفسها
وقال موشيه يعلون: “لقد فقدنا طريقنا. بعد ثمانين عامًا من المحرقة، نتحدث عن التطهير العرقي، وتفوق اليهود، وتطهير مدينة غزة من سكانها. هل هذه هي قيم دولة إسرائيل؟”.
واغرورقت عيناه بالدموع، واضطر إلى التوقف للحظة، وأضاف: “لقد قاتلت دفاعًا عن دولة يهودية ديمقراطية ليبرالية بروح إعلان الاستقلال. ما لدينا الآن مع هذه الحكومة هو قيادة استبدادية، وعنصرية، وكريهة، وفاسدة، ومنعزلة. يجب أن يكون هذا هو الموضوع الرئيسي في الانتخابات المقبلة”.
ورفض مكتب رئيس الوزراء التعليق على الأمر.
ولا تزال إسرائيل دولة شرق أوسطية تجري انتخابات – من المقرر إجراء انتخابات العام المقبل – ويمكن فيها قول مثل هذه الأشياء، على الأقل كيهودي إسرائيلي، دون التعرض للعقاب. ومع ذلك، فإن غضب يعلون يعكس القناعة السائدة بأن العقد الأساسي للديمقراطية الإسرائيلية قد تم خرقه خلال العامين الماضيين، وقد يصعب إصلاحه.
في صميم ذلك العقد الوطني تكمن فكرة عدم التخلي عن أي جندي في الميدان، وبسماحه باستمرار معاناة الرهائن لمدة عامين في غزة، حيث قُتل ما لا يقل عن 41 منهم، يكون نتنياهو قد انتهك هذا المبدأ الأساسي في العقيدة الوطنية.
والأسوأ من ذلك، في رأي منتقديه، أنه وضع مصالحه الخاصة فوق مصالح الأمة، وفعل كل ما في وسعه لتأجيل تشكيل لجنة تحقيق في كارثة 7 أكتوبر/ تشرين الأول التي نتجت جزئيًا عن سياسته الداعمة لحماس لضمان بقاء الحركة الوطنية الفلسطينية منقسمة وعديمة الفعالية.
غير أن أنصار نتنياهو يرون الأمر بشكل مختلف؛ فهم يعتبرونه منقذ الأمة الذي، من خلال حرب “القيامة” كما يسميها، هزم حماس وجعل إسرائيل أكثر أمانًا. ومن المرجح أن يستمر هذا الجدل طويلًا، لكن القول بأن زعيم إسرائيل، بعد 18 عامًا في السلطة، لن يكون له مستقبل سياسي قد يكون تنبؤًا متسرعًا.
وقال مايكل أورين، السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة ونائب الوزير في مكتب نتنياهو، مستخدمًا لقبه: “معظم رؤساء الوزراء الإسرائيليين كانوا سيتخذون نفس القرارات التي اتخذها بيبي. ربما يكون قد فقد مصداقيته في العالم، لكنه رأى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول نداءً تاريخيًا واستجاب له”.
لكن الثمن كان باهظًا؛ فقد تسبب نتنياهو في انقسام الإسرائيليين وأثار غضب العالم.
وبينما يظل كثير من الإسرائيليين محصنين من حجم المعاناة الفلسطينية الرهيبة في غزة، أو غير مبالين بها في بعض الحالات، فإنهم منشغلون بانقسام أمتهم الداخلي. لقد جلب هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ذروة صراع طويل الأمد بين “دولتي إسرائيل” متنافرتين.
الأولى حركة دينية مسيانية متنامية، أصبحت الآن قوة حاسمة في الحكومة، ترى في مجزرة 7 أكتوبر/ تشرين الأول التي قُتل فيها نحو 1,200 شخص لحظة “معجزة أجبرت الأمة اليهودية على اتخاذ خطوة أخرى نحو الخلاص”، كما قالت لي دانييلا فايس، وهي قيادية بارزة في حركة المستوطنين.
ذلك الخلاص، بالنسبة للسيدة فايس والعديد من أتباعها، يتمثل في السيطرة الإسرائيلية على كامل أرض “أرض إسرائيل”، التي يرون أنها مُنحت لليهود من قبل الله.
أما “إسرائيل” الثانية، فهي علمانية وليبرالية ومتمسكة بالحفاظ على ديمقراطية الدولة، وترى في هذا الانجراف نحو اليمين تهديدًا وجوديًا للقيم التي تجسّدها وثيقة تأسيس الدولة، والتي تنص على “المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس”.
وقد ثبت أن هذا الهدف السامي غير قابل للتحقيق في دولة يهودية يبلغ عدد مواطنيها العرب أو الفلسطينيين نحو مليوني نسمة، أي ما يعادل 20 بالمائة من السكان. ومع ذلك، لا يزال كثيرون يؤمنون بأن التخلي عن النضال من أجل هذه المبادئ سيكون خيانة للوعد الأساسي الذي قامت عليه إسرائيل.
قال غادي شامني، اللواء المتقاعد والملحق العسكري الإسرائيلي السابق في واشنطن: “لقد ارتكب بيبي أشياء فظيعة، ليس فقط بحق الفلسطينيين، بل بحقنا أيضًا. لقد ألقى بقيمنا الأساسية جانبًا، تلك التي تقدّس الحياة وأخلاقيات الحرب، والتي دفعنا ثمنها الباهظ في بعض الأحيان”.
وأضاف شامني أن “الضباط الذين واجهوا عدواً غامضًا متغلغلًا في النسيج المدني الحضري لغزة، كانوا يكافحون للحفاظ على القيم التي كانت مقدسة خلال فترة خدمتي العسكرية، في وقت يطالب فيه وزراء بأن نتصرف كمجرمي حرب”.
إيتامار بن غفير، وزير الأمن القومي، وهو رجل أُدين عدة مرات بالتحريض على العنصرية، اقترح ألا يُسمح بدخول “غرام واحد من الطعام أو المساعدات إلى غزة”، ودعا إلى “إخلاء مليون شخص من هناك” عبر “الهجرة الطوعية”.
أما بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي المتشدد، فقد دعا إلى “الإبادة الكاملة” في غزة. وقال في العام الماضي: “يجب أن يُدمّروا، يُدمّروا، يُدمّروا”.
وقد غذّت مثل هذه التصريحات الاتهامات الموجّهة لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.
حلم محبط
يعيش كل من سموتريتش وبن غفير في الضفة الغربية المحتلة؛ حيث يقيم أكثر من نصف مليون إسرائيلي. ومنذ هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول كثّف المستوطنون بسرعة من عمليات الاستيلاء على الأراضي في محاولة لإغلاق الباب أمام إمكانية قيام دولة فلسطينية، التي كانت بعيدة المنال أصلًا.
تُعلن الأعلام الإسرائيلية الجديدة التي تصطف على طول طرق الضفة الغربية عن استعمار يبدو أنه لا رجعة فيه، بعد 58 عامًا من انتصار عام 1967 الذي مدّ سلطة إسرائيل حتى نهر الأردن.
وعبر الأرض التوراتية التي يسميها الإسرائيليون “يهودا والسامرة”، ترفع الجرافات ومعدات الحفر الصخور وسط سحب من الغبار، ويشقون طرقًا ترابية في سفوح التلال المدرّجة، التي تعلوها كرافانات بيضاء تابعة لبؤرة استيطانية إسرائيلية جديدة.
تنتشر الكاميرات في كل مكان؛ لا تمر حياة فلسطينية دون مراقبة. وقد نصبت السلطات الإسرائيلية مئات البوابات الصفراء الآلية عند مداخل المدن والقرى الفلسطينية التي يمكن أن تُغلق فجأة عند أدنى إشارة لأي اضطراب فارضة حصارًا على السكان.
في قرية المغير الواقعة على سفح تل، والتي يسكنها نحو 3,000 شخص وتطل على بساتين الزيتون واللوز القديمة، كانت الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة قاسية. حادث وقع في 21 أغسطس، تضمن انقلاب جرار وإصابة مستوطن — دون أن تتضح ملابساته — أدى إلى اجتياح مئات الجنود الإسرائيليين للقرية، حيث احتجزوا رئيس البلدية لمدة تسعة أيام وفتشوا أكثر من 500 منزل. وفي الوقت نفسه، قام المستوطنون بقطع وتجريف عدد لا يُحصى من أشجار الزيتون في حقول السكان.
قالت عائشة أبو عليا، 53 عامًا، وهي تقف في الحقول تحدق في الخراب: “شعرت وكأنهم اقتلعوا قلبي”.
لاحقًا، في منزلها الواقع في وسط القرية، جلست عائشة أبو عليا مرتديةً حجابًا بنفسجيًا، تحيط بها عدة نساء من عائلتها، كانت اثنتان منهم منشغلتيْن بالتطريز الدقيق. وقالت إنها عايشت ضغوطًا متزايدة وإهانات متكررة طوال حياتها، تهدف إلى “اقتلاع كل فلسطيني من هذه الأرض”.
لم تتزوج، لأنها – كما قالت – “تعرفت على كثيرين ممن تزوجوا وندموا على ذلك”. وتعيش السيدة عائشة في منزل والديها، ولها أخت واحدة وسبعة إخوة، اثنان منهم في الولايات المتحدة، وقد حثّاها باستمرار على الانتقال إلى هناك، لكنها قالت، وكأنها تنطق بحقيقة بديهية: “من المستحيل أن أغادر أبدًا”.
يطلّ منزلها على القرية والحقول المحيطة بها، حيث يجلب المستوطنون أغنامهم للرعي، كما يطلّ على الطريق الرئيسي، ولذلك تم الاستيلاء عليه عدة مرات من قبل الجيش الإسرائيلي. وقالت إن عشرات الجنود اقتحموا منزلها في 16 يونيو/ حزيران، وأخبرها أحد الضباط بأنها تعيش في “حي إرهابي”.
وتتذكر عائشة السؤال الذي وجهه له الضابط: “لماذا لا تحبين إسرائيل؟”، ردت عليه قائلة: “ولماذا لا تحب أنت فلسطين؟”.
قال الضابط: “لا وجود لشيء اسمه فلسطين”، فأجابت: “بمشيئة الله، سيأتي يوم تكون فيه فلسطين ولن يكون هناك إسرائيل”، أثار هذا الرد غضب الجنود.
وقبل ثلاثة عشر عامًا، كانت عائشة أبو عليا قد خاطت لوحة تطريز فنية تُجسّد فلسطين على كامل الأرض الممتدة بين البحر المتوسط ونهر الأردن، مع إبراز المسجد الأقصى بشكل خاص، وهو الحرم المقدّس في القدس الذي طالما كان نقطة اشتعال.
وتروي عائشة أن أحد الجنود الإسرائيليين رمى اللوحة المؤطّرة أرضًا، فكسر زجاجها. وأشارت إلى آثار الضرر، ثم اصطحبتني في جولة داخل المنزل، مشيرةً إلى الأرائك الممزقة والساعة المحطّمة والصور المشوّهة لأبناء إخوتها.
سألتها عن هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فقالت: “لم أحتفل، حتى لو لم نشعر بشيء تجاه القتلى الإسرائيليين، لأن لدينا عددًا هائلًا من القتلى. كنت أعلم أن حياتنا ستنقلب رأسًا على عقب”.
تدخّلت ابنة أختها، سارة، البالغة من العمر 17 عامًا، قائلة: “حتى لو لم يحدث ذلك، كانت إسرائيل ستفعل شيئًا مشابهًا. ما حدث فقط سرّع كل شيء”.
وقالت سمر، ابنة عم عائشة أبو عليا، متوقفة عن التطريز: “انفجرت غزة. فقدنا منازل وفقدنا أشجارًا وفقدنا الكثير من أحبّتنا. لم يعد هناك قانون، لا شيء يردعهم بعد الآن. ويعاني أطفالنا من الصدمة”.
أما ابنتها نور البالغة من العمر ثماني سنوات، فكانت ترتدي قميصًا بنفسجيًا مكتوب عليه عبارة “كن يونيكورن”، وابتسمت بشجاعة، كصورة للبراءة. وتساءلت عما إذا كانت دورة الحرب ستجرف حياتها يومًا ما، أم أن فعلًا سياسيًا يكاد يكون مستحيلًا قد يحميها.
وقال شلومو بن عامي، وزير الخارجية الإسرائيلي السابق: “لا أرى أي إمكانية على الإطلاق لحل الدولتين. فالتاريخ هنا بات أكثر من أن يُحتوى، والجغرافيا أقل من أن تُقسم”.
إسرائيل رهينة
وقامت فيكي كوهين بملامسة مكعب الروبيك المحترق الذي عُثر عليه في الدبابة المعطلة التي سُحب منها ابنها نمرود، البالغ من العمر حينها 19 عامًا، إلى غزة على يد عناصر حماس الملثمين في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وقد قُتل باقي أفراد طاقم الدبابة الثلاثة الآخرون.
نمرود كوهين، إلى جانب نحو 20 رهينة وجثث 25 آخرين لا يزال محتجزًا في غزة منذ أكثر من 725 يومًا. وقد بلغ عامه الحادي والعشرين مؤخرًا. كل بضعة أشهر، تتلقى السيدة كوهين وزوجها يهودا رسائل من الجيش الإسرائيلي تُعرف باسم “علامات حياة”. أما العديد من العائلات الأخرى، فقد جاءها طرق الباب المروّع الذي يُنذر بمقتل أحبّائهم.
وقالت السيدة فيكي كوهين، التي كانت تعمل سابقًا في شركة تُوفّر مقدّمي رعاية للمسنين، لكنها تركت عملها قبل أكثر من عام: “لقد كان يحب مكعب روبيك”، وأضافت: “أقضي كل وقتي الآن في محاولة إعادة نمرود إلى المنزل”.
لقد باتت إسرائيل، منذ عامين، وكأنها رهينة، وما إذا كان هذا الكابوس سينتهي بصفقة تبادل للرهائن مقابل أسرى فلسطينيين خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، فلا يزال غير معلوم.
قال كوهين، بعد سماعه أن حركة حماس وافقت على إطلاق سراح جميع الرهائن: “نأمل أن يكون الأمر مسألة أيام”. كانت عائلته مجتمعة يوم السبت في حالة من التوتر والانفعال الشديد، وقال بينما كان عاجزًا عن التعبير وزوجته كانت تكافح لالتقاط أنفاسها: “لا أستطيع الحديث الآن، أنا أعدّ الدقائق، بل الثواني. عليّ أن أعتني بابني”.
البلاد بأكملها تعيش في حالة ترقب؛ افتح التلفاز، وستجد نقاشًا عن الرهائن. انظر حولك، وسترى الكراسي البلاستيكية الصفراء الفارغة أو الأشرطة الصفراء التي أصبحت رمزًا لهم. واستمع إلى أي شخص وستشعر، على الأقل، أن هناك رابطًا شخصيًا يربطه بكابوس الرهائن. وتبدو إسرائيل، في هذه اللحظات، صغيرة جدًا.
هناك رهائن أحياء وآخرون قتلى، لأن هذا صراع يتم استخدام الجثث فيه لإلحاق العذاب النفسي بالعدو، وتُعتبر أصولًا قابلة للمقايضة.
خرج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع في أوقات مختلفة للمطالبة بأن تعترف الحكومة بمعاناة الأمة وتُعطي أولوية لإطلاق سراح الرهائن. ويواصل الكثير، من بينهم عائلة كوهين، الاحتجاج منذ ما يقارب ثلاث سنوات؛ أولًا ضد محاولة نتنياهو إضعاف المحكمة العليا كوسيلة لممارسة سلطة غير مقيّدة، ثم ضد ما يُنظر إليه على أنه إهمال للرهائن.
وفي مقابلة سابقة، ارتدى كوهين، وهو مهندس خوارزميات في شركة تقنية، قميصًا أسود كُتب عليه: “وقف إطلاق النار وصفقة لتحرير الرهائن الآن”. وقال إن نمرود طفل عادي، مضيفًا: “إنه مميز بالنسبة لنا لأنه ابننا. نحن نتحدث عنه فقط لأنه كان ضحية للاختطاف، ونحن نؤدي مسؤوليتنا الأساسية في السعي لإطلاق سراحه”.
لقد كان حديثه واقعيًا؛ فهذه “الحرب التي باتت بلا جدوى”، كما وصفها، استمرت وقتًا طويلًا، أطول مما ينبغي في نظره. أما زوجته، فلا تستطيع النوم وهي تفكر في ابنها الذي لا يرى ضوء الشمس.
قال كوهين: “نحن نشعر بالاشمئزاز والإحباط؛ حيث نعتبر حكومة نتنياهو عدونا. لقد أطالت أمد الحرب فقط لتبقى في السلطة. ابني نمرود محتجز في نفق تم تمويله بأموال دفع بها نتنياهو إلى غزة”.
نظر إليّ بحدة وقال: “الجميع مذنبون ما عدا هو، ما عدا القيصر”. ويعتقد أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب هي أن يُجبر ترامب نتنياهو على ذلك.
تعتقد عائلة كوهين أنه إذا نجا ابنهم، فسيكون من بين آخر من يُفرج عنهم. فهو شاب وجندي ولدى حماس كل الأسباب للاحتفاظ به. ومع ذلك، لا يزال الأمل حيًا، بل بات شديدًا.
سألته عن شعوره تجاه وطنه بعد عامين من هذه الصدمة، فقال: “لا أريد أن تكون بلادي دولة تحكم الآخرين. لا أريد أن أعيش في بلد لا حدود دولية معلنة ولا معترف بها. أريد أن أعيش في بلد طبيعي”.
“مكان الجنازات”
على مدى عدة أسابيع، كنت أتحدث بانتظام عبر الهاتف مع رِواء أبو قُطّة في غزة. لقد أبعدتها الحرب عن منزلها في رفح، المدينة الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة والتي باتت اليوم شبه مدمّرة بفعل القصف الإسرائيلي، إلى منطقة المواصي قرب خان يونس، حيث تعيش في خيمة داخل مخيم يضم مئات النازحين الآخرين.
عايشت رواء، البالغة من العمر 30 سنة، حروبًا كثيرة، لكن لم يكن أيٌّ منها بهذه الوحشية. إنها خائفة وغاضبة، “كما سيكون أي إنسان في مثل هذا الوضع”. لقد حاولت أن تعتني بشقيقتها الصغرى آلاء، التي تعاني من ضمور العضلات، لكن الدواء المطلوب اختفى منذ فترة طويلة.
وصفت مهامها اليومية بأنها مملة، حيث تعمل على البحث عن أي نوع من الطعام، ربما علب الفول، بالإضافة إلى تأمين مياه صالحة للشرب وتنظيف الخيمة التي تأوي عائلتها. وكل ذلك وهي تستمع إلى أزيز الطائرات المسيّرة الإسرائيلية أو هدير المقاتلات التي قد تسبب المزيد من المذابح وسط الأنقاض.
أحيانًا، تضع رِواء الرمل في جيوب الملابس المعلّقة على الخيمة، كوسيلة لحمايتها من الرصاص أو الشظايا، وهي تعلم أن ذلك لا يجدي نفعًا، لكن وضعها الجنوني لا يقل عبثًا. فلا مكان آمن، بينما تبدأ كوابيسها مع أول ضوء للفجر.
تشعر رواء أن التاريخ يعيد نفسه، فقد طُرد أسلافها من قرية قرب القدس، وهي تقول إنها، بطريقة ما، تخسر تلك القرية من جديد.
كانت صوتها دائمًا هادئًا، لكنه مشبع بالألم، حيث فقدت عددًا لا يُحصى من الأصدقاء. وقالت إن غزة باتت “مكان للجنائز”. فقد استشهد أكثر من 66,000، بحسب سلطات الصحة في غزة، التي لا تميّز بين المقاتلين والمدنيين.
وكان لرواء عالمها الخاص، حيث الوظيفة عبر الإنترنت في شركة تعليمية، وطلب منحة للدراسة في بريطانيا، وصالة الألعاب الرياضية، ومنزل، إلا أن كل ذلك اختفى، وكل ما تبقى لها الآن هو الرمال.
وتلوم رواء إسرائيل قبل كل شيء على قتل الأبرياء، وحماس على جلب الكارثة للشعب الفلسطيني، والعالم المتخاذل الذي اختار هذا التوقيت للاعتراف بدولة فلسطينية، في خطوة “متأخرة جدًا وصغيرة جدًا مقارنةً بحجم الدمار الذي نعيشه”.
الغضب المتغير
في كيبوتس نير عوز، بدأت أعمال هدم المنازل المحترقة والمتضررة في 31 أغسطس/ آب. واستُخدمت الجرافات لهدم “الغرف الآمنة”، التي كانت الأصعب في هدمها، رغم أنها، في كثير من الحالات، لم تكن آمنة على الإطلاق؛ لقد كانت مهمة قاسية، لكنها ربما تشير إلى بداية جديدة.
بعض المنازل ستُترك دون مساس، على الأقل في الوقت الراهن، بما في ذلك بقايا منزل عائلة بيباس، التي امتدّت معاناتها عبر ثلاثة أجيال.
احتجزت حماس ياردن بيباس وزوجته شيري وطفلاه الصغيران، البالغان من العمر خمس سنوات وتسعة أشهر، كرهائن. وقُتلت شيري أثناء احتجازها، وأُعيد جثمانها بعد 505 أيام، بعد يوم واحد من إعادة جثتي طفليها. أما ياردن، فقد أُفرج عنه حيًّا بعد 484 يومًا. وقد تم حرق والدا شيري، يوسي ومارغيت سيلفرمان، أحياء داخل منزلهما في نير عوز.
على أنقاض منزلهم، كُتبت رسالة: “ياردن، نحن سعداء بعودتك. آسفون، سامحنا”.
لقد أعاد هذا النوع من المجازر إلى الأذهان ذكريات المحرقة، وسخر من شعار “لن يتكرر أبدًا” الذي تجسّد في قيام دولة إسرائيل، وأثار في البلاد غضبًا عميقًا. وكان الدرس المستخلص من قرون من الموت الخانع أن إسرائيل تردّ دائمًا. وإن بدا هذا الغضب مزعجًا للبعض، فقد بدا مفهومًا لكثيرين، على الأقل لبضعة أسابيع، حين وقف جزء كبير من العالم إلى جانب إسرائيل.
لكن هذا التعاطف تلاشى إلى حد كبير، بعد دمار غزة. وأصبحت إسرائيل معزولة، كما تجلّى الشهر الماضي حين اضطر نتنياهو إلى استعراض ما يعتبره إنجازات حربه أمام اجتماع شبه فارغ للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن غادر ممثلو دول عدة القاعة.
في الداخل الإسرائيلي، لا يزال الغضب من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول مستعرًا، وقد تضاعف بسبب ما يُنظر إليه على أنه تهميش سريع للهجوم وتحويله إلى تفصيل صغير في الحرب، وبسبب القناعة بأن معاداة الصهيونية المتأججة حول العالم تجاوزت الخط الفاصل لتتحوّل إلى معاداة متجددة للسامية. قال أورين، السفير الإسرائيلي السابق: “بعد المحرقة، لم يكن من المقبول كراهية اليهود، لكن تلك المرحلة انتهت، والعالم عاد إلى طبيعته.”
ومع ذلك، هناك شعور قوي بأن الطريقة التي خاض بها نتنياهو الحرب دفعت إسرائيل إلى ممارسة وحشية مستمرة في غزة ستطارد البلاد لسنوات طويلة. وينفي نتنياهو الاتهامات الموجهة إله بأنه أطال أمد الحرب للبقاء في السلطة وتجنب تحمّل المسؤولية عن الكارثة، لكن من غير المرجّح أن تخفّ وطأة هذه الاتهامات.
ورفض المؤرخ الإسرائيلي، غورنبرغ، وصف ما قامت به إسرائيل بـ”الإبادة الجماعية”، مشيرًا إلى أن هذا المصطلح استُخدم في الأسابيع الأولى من الحرب، حين كانت صواريخ حماس تتساقط على تل أبيب، وبالتالي فقد شابه منذ البداية “عداء غير مبرر”.
ومع ذلك، أضاف: “لقد ارتُكبت جرائم حرب مروّعة ومستهجَنة في حرب، أعتقد أنها، منذ أوائل عام 2024، توقفت عن خدمة هدف الدفاع عن إسرائيل.”
لقد غيّرت هذه الحرب الطويلة ملامح جيل الشباب الإسرائيلي، من جيل تيك توك إلى جيل صقلته بوتقة العنف شبه المنفلت. ولا يزال من غير الواضح كيف ستؤثر هذه التجربة عليهم، وما نوع الصدمة التي سيحملونها، لكن من المؤكد أنها ستترك أثرًا عميقًا على المسار الذي ستسلكه إسرائيل.
وينطبق الأمر ذاته على الفلسطينيين، الذين قُتل كثير منهم ونُزحوا وجُرحوا، وتبعثرت تطلعاتهم الوطنية، رغم كل الكلمات الرنانة الداعمة التي يرددها العالم الغاضب.
“كفى دمًا ودموعًا. كفى”، هكذا أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين قبل 32 عامًا في حديقة البيت الأبيض، في زمن الأمل الذي كان نهاية القرن العشرين، لكن عطش هذا القرن للدماء، حتى الآن، يبدو أنه لا يُروى.
المصدر: نيويورك تايمز