ما بعد السابع من أكتوبر.. حين توسّعت الحرب لتشمل الأمة كلها

تكمن حقيقة الدول في عالم السياسة بما يراه عدوها عنها لا بما تراه عن نفسها، وهذه الرؤية قد تقود الدول إلى التماهي مع نظرة عدوها فتنتصر أو تهزم.
إنّ أحداث ما بعد السابع من أكتوبر 2023 على تصعيداتها العسكرية والأزماتية لسكان القطاع، كانت اختبارًا حقيقيًا للدول العربية والإسلامية التي يقتل أبناءها عدو مشترك يعبر بصراحة عن أطماعه بها، فقد كشفت النظرة الإسرائيلية في هذه الحرب أن العدو ينظر إلى العالم العربي والإسلامي ككتلة واحدة، ويعتبر أن إضعاف أي جزء منها هو إضعاف لها كلها.
وفي الوقت الذي تتعامل فيه الدول العربية على أنها أراضٍ مستقلة تملك سيادة خاصة، فإن العدو يدرك أن هذه الأراضي قد تتصل في لحظة ما وتُشكل طوفانًا عظيمًا عليه، وتلغي مشروع وجوده. لذا فإن رقعة الاستهداف العسكري الإسرائيلي في المنطقة توسعت بعد السابع من أكتوبر في محاولة “إسرائيل” لمحاربة كل من يرفض وجودها، درءًا لاشتباك هذه العناصر المقاوِمة الموزَّعة في الأراضي العربية والإسلامية وتُنهض مشروعًا قوميًا موحدًا يهدد وجودها.
يدرس هذا المقال الإشارات والتصريحات التي عبّرت فيها “إسرائيل” من خلال عملياتها الهجومية على مناطق عدة في الوطن العربي والإسلامي، ومن خلال تصريحات رؤوسائها أنها لا تفرّق في البلدان العربية بين سعودي وأردني وعراقي. إنهم عرب في نظرهم، وبلدان العرب واحدة لا تعترف “إسرائيل” بحدود سايكس بيكو فيها.
رقعة الاستهداف: من غزة إلى قطر
إنّ الحرب التي تشنها “إسرائيل” على غزة منذ عامين كشفت أنّ غزة ليست المدينة الوحيدة المستهدفة، إذ إنّ رقعة الاستهداف الإسرائيلي امتدّت من فلسطين إلى مدن العالم العربي والإسلامي لتصيب سوريا والعراق ولبنان واليمن وإيران وأخيرًا قطر، عدا عن الحملات الإعلامية الإسرائيلية التي تروّج للمشروع الصهيوني التوسعي والذي يهدّد دولًا ليست على الخطوط الأمامية للصراع الفلسطيني وأخرى حدودية، وعلى رأسها الأردن، التي تقيم فرقة جلعاد على حدودها بذريعة حماية “إسرائيل” لنفسها، ولكن الواقع المشاهَد يُصرح أنّ “إسرائيل” تقيم تهديدًا ملموسًا للأردن.
ما يحدث يمكن قراءته بسهولة وفقًا للرؤية الإسرائيلية التي تعامل الدول العربية كوحدة واحدة تشكل تهديدًا وجوديًا لها، إذ سعت خلال عقود عبر العمليات العسكرية والتدخل في الصراعات العربية لتشتيت التكتل الإسلامي عنها، فقد قصفت “إسرائيل” في عام 1981 مفاعل تموز العراقي وسعت لتقويض مشروع المفاعل النووي الباكستاني وساهمت في تغذية الانقسامات العربية خاصة بعد أحداث الربيع العربي، وصولًا إلى تنقلاتها العسكرية في المنطقة بعد 7 أكتوبر، ما يجعلها اليوم تسير بخطى عريضة في العواصم والمنظمات لتريح شعورها بالتهديد من التكتل العربي الذي لا نعتقده نحن العرب عن أنفسنا.
شنّت “إسرائيل” ما بعد السابع من أكتوبر عشرات الغارات على لبنان لضرب حزب الله ومراكز القيادات فيه ما نجم عنه مئات الشهداء وتشريدًا واسعًا في المناطق الداخلية، وإغلاق العديد من الطرق الحدودية، كما أنّها استغلت المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا بعد سقوط نظام الأسد لتتوسع في درعا وتضرب عدة مراكز في سوريا لصياغة وضع أمني مهدد يردع أي فعل مقاوم ضد “إسرائيل”، ولمنع محاولات إمداد الأسلحة عبر سوريا، ولا ننكر أنّ هناك سببًا جوهريًا آخر يكمن في أطماع العدو التوسعية التي تستغل ضعف كل قُطر من الأقطار العربية لتضع قدمًا لها فيه.
لم تسلم كذلك اليمن، إذ ضربت “إسرائيل” موانئ كالحديدة ورأس عيسى لإضعاف البنى التحتية التي يعتقد العدو بأنّ الحوثيين يستخدمونها للإمدادات العسكرية، وكذلك صنعاء التي ضربت محطات الكهرباء والوقود فيها، عدا عن الدمار في البيوت المدنية.
أمّا عن العراق فإنّ رئيس الوزراء السوداني حاول منذ تصاعد الحرب أن يصل لاتفاق مع بعض الشخصيات الشيعية لمنعهم من التدخل في الحرب إلى صف حزب الله في لبنان، حيث صرحت “إسرائيل” أنّ هناك عشرات الأهداف المحتملة في العراق التي ستضربها في أي وقت، فـ”إسرائيل” تنظر للعراق كجزء استراتيجي من هذه المعركة لعلاقته بإيران ولاحتوائه على جماعات مقاومة ومليشيات، ولكونه أرضًا تدخل في خارطتها المنشودة.
وممكن النظر إلى قصف “إسرائيل” لإيران أيضًا كرسالة منها إلى أنّها تحارب كل من يدعم حركات المقاومة الفلسطينية والإسلامية في المنطقة، ولقد سعت عبر تضخيمها الإعلامي أيضًا لتصدير صورة خطيرة عن المشروع الإيراني كمحور خطر لاستقطاب دعم دولي لمنع إيران من إتمام مشروعها وضرب منشآتها ما يخدم أمان “إسرائيل”.
وأخيرًا ضربت “إسرائيل” في حركة غادرة قطر التي تدخلت وسيطًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بحجة أنّها ستلاحق جميع أعداءها، وهددت قطر بأنّ عليها التخلص من قيادات حماس الذين يقيمون فيها.
إنّ هذا النمط من الاستهداف يعكس عدة رؤى لما تعتقده “إسرائيل” حول الوحدة العربية والإسلامية، على رأسها أنّها ترانا جميعًا عدوًا لها، فهي لا تنظر للصراع في غزة ولبنان واليمن وسوريا كقضايا منفصلة، بل كشبكة واحدة من التهديد لها، وإضعاف أي طرف فيها يعني تقويتها، فقطع أي طرف في هذه المنطقة يعني تخفيفًا للضغط الأمني والسياسي لـ”إسرائيل”.
ومحور المقاومة الذي تدعمه إيران بشكل رئيسي في سوريا والعراق ولبنان واليمن يغذي المنظور الإسرائيلي بوجود قوى ربط عربية متعددة الجبهات وتشكل تكتّل على “إسرائيل” منعه، وفي سبيل منعه فإنّها تشرّع لنفسها اختراق سيادة وحدود أي بلد عربي تحت مسميات “احتواءها على جماعة إرهابية”، أو “احتواءها مخازن وقود أو أسلحة لغايات عسكرية”، وسواء كانت هذه الحجج موجودة فعلًا أو أنّها مجرد ظنون من عدو يقوم بحركة استباقية لمنعها فهذا يعني أنّ “إسرائيل” نفسها لا تؤمن بالسايس بيكو في المنطقة العربية، إذ إنّها تقفز فوق كل حدود المنطقة بأي حجة كانت؛ ما يعمق إيماننا بأنّ العدو يرانا واحدًا؛ فهذا التوسع ليس أيديولوجيا ميتة بل واقع مرئي يُعبّر عنه بهذه الاستهدافات المتفرقة التي يتعرف بها العدو بأنّ الدول المستهدفة مترابطة ببعضها في جبهات أمنية وعسكرية واستراتيجية حتى ولو كانت متفرقة في خطابها السياسي الرسمي، إلّا أنّ هذه الوحدة -مع الأسف- ليست حقيقتنا بل هي نظرة العدو إلينا.
التهجير و”البدائل العربية”
عندما طرحت “إسرائيل” والولايات المتحدة مقترح ترحيل الفلسطينيين والغزيين تحديدًا في هذه الحرب الجائرة إلى الأردن ومصر، لم تكن تقدّم حلًا لأزمة الوجود الفلسطيني الإسرائيلي، بل كانت تقدّم منظورها للفلسطينيين على أنّهم عرب وافدون من الجزيرة العربية جاؤوا لفلسطين وعليهم العودة إلى بلدانهم الأصلية.
يقدّم المؤرخ الإسرائيلي تسفي ميسيناي رؤية لحل الصراع الوجودي في المنطقة بأنه يُجذِّر السكان الأصليين لفلسطين باليهودية، وأنّ فلسطين “أرض إسرائيل بوصفها” كانت يهودية إلّا أنّ السكان أسلموا قسرًا فنشأ هذا الخلاف، ومعظم السكان العرب المسلمين في فلسطين جاؤوا من مختلف أقطاب العالم العربي ليعملوا لدى اليهود.
هذه الرؤية التي تُصوّر الفلسطيني كمهاجر للأرض لا مواطنًا أصيلًا فيها، صرحّ بها نتنياهو عدة مرات بشأن تهجير الفلسطينيين، مقترحًا في فبراير 2025 السعودية كوطن بديل بحجة أن السعودية دولة عربية وتمتلك العديد من الأراضي، إلّا أنّه إذا دققنا في ما وراء هذا المقترح سنعرف أن نتنياهو ينظر إلى البلدان العربية كلها كوطن بديل للفلسطينيين باعتبارهم عربًا أيضًا، إذ إنّه يرى أنّ بلاد الحجاز هي بقعة انطلاقة الإسلام وبالتالي فهي مقترح للوطن الطبيعي للمسلمين.
ولقد ذاعت على الأسماع العربية مفردة “التهجير” بعد السابع من أكتوبر بشكل متكرر، خاصة من قبل اليمين المتطرف وصناع القرار في “إسرائيل” لتصبح محورًا للعروض الدولية الأمريكية والعربية، وهو ما قوبل بالرفض العربي باعتبار التهجير تفريغًا للقضية الفلسطينية من روحها الوطنية واعتداءً صريحًا على حق الوجود الفلسطيني في أرضه. لكن “إسرائيل” فتحت بابًا آخر لتحقيق غايتها بفتح باب الهجرة الطوعية. ومع استمرار الاعتداء الوحشي على غزة والضفة الغربية، فإن هذا المقترح يطبع في نفسية الفلسطيني الفاقد لحقوقه والمنتهك أن الهجرة قرار وارد أمام انعدام الخيارات الأخرى.
هذه الفكرة لم تكن وليدة هذين العامين فقط، بل كانت دائمًا توجهًا صهيونيًا للتعامل مع الوجود العربي الفلسطيني بمبدأ الإزاحة والعزل؛ ففي عام 1948 أظهرت عدة عمليات مثل “خطة دالت” أن موضوع الإخلاء والنقل القسري كان جزءًا من مسار تأسيس “إسرائيل”، حتى لو لم تُصرّح به آنذاك، لكنها عن طريق المذابح والتخويف للفلسطينيين كانت تجبرهم على الرحيل، الأمر الذي يجعل خطاب 2024 و2025 لتهجير سكان غزة امتدادًا لرؤية سياسية صهيونية قديمة.
وبين خطاب إنكار الشعب الفلسطيني ككيان سياسي ووجود تاريخي وبين طرح تبادل الأراضي وإعادة التكوين الديموغرافي في الأرض لصالح الأغلبية اليهودية يأتي الخطاب الدبلوماسي الاستراتيجي الذي يعتبر طرح التهجير والانتقال كحل للمشكلة الفلسطينية، وقد رحبت به أمريكا من خلال اقتراح صيغة لإعادة إعمار غزة منوهة لفكرة النقل الجماعي واستيعاب سكان القطاع من قِبل دول محيطة وبناء شكل بديل للمدينة، الأمر الذي رفضه الشارع العربي بحكوماته باعتباره اقتراحًا يخترق القانون الدولي الذي يحظر التهجير القسري للسكان. إلا أن خباثة العدو تظهر في محاولته لنيل مراده في إخلاء القطاع عن طريق الاستعانة بأمريكا لتغليف التهجير بعبارات مثل “إعادة إعمار” و”منح بدائل اقتصادية” لتجعل الطرح يبدو نمائيًا ويحظى بقبول المجتمع الدولي.
هذا الموقف الإسرائيلي من تهجير الفلسطينيين يكشف عن أنها لا تنظر للحدود العربية كحاجز أمام الفلسطينيين باعتبارهم يشكلون وحدةً عقدية وينتمون إلى هوية واحدة.
“الخلافة” في الخطاب الإسرائيلي
بعد اندلاع الحرب على غزة، أعيد استخدام مصطلح “الخلافة الإسلامية” من قِبل نتنياهو في إطار الرفض لإعادة الخلافة الإسلامية على الحدود الإسرائيلية “الفلسطينية”، في وصفه لخطر وجود حماس والمقاومة، وعلى الرغم من أنّ حماس لم ترفع شعار الخلافة، إلا أنّ التخوّف الإسرائيلي من انتصار المقاومة يكمن في أنّها مشروع وحدة عربية إسلامية ضد “إسرائيل”.
وفي الحين الذي يرى فيه العرب أنّ زمن الخلافة والوحدة قد انتهى، فإنّ الوحدة العربية الإسلامية ما تزال متمثلة في الوعي الإسرائيلي كخطر محتمل لأن تجتمع هذه الأمة الواحدة – في نظر عدونا – وتقضي على وجوده، فنحن في نظرهم كيان واحد عليهم الحفاظ على جعله ضعيفًا ومجزأ.
وعلى الرغم من أنّ حماس لا تتبنى أدبيات مفهوم الخلافة بل تُصدّر نفسها على أنّها مقاومة وطنية تحررية وليست تنظيمًا دينيًا بالمرتبة الأولى، إلاّ أنّ مفردة “الخلافة” عندما طرحها نتنياهو حاول بها الربط بين حماس وداعش، وتحويل مشروع التحرر الفلسطيني إلى مشروع للخلافة ليصوغ معركته في الأذهان بأنّها معركة حضارية ضد التطرف الإسلامي. وهذا طرح يثير احتقان الغرب ضد حركة حماس؛ لأنهم يتخوفون من ربط المشروع الديني بالتوجه السياسي، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر. لذا فإنّ نتنياهو كان حريصًا على استخدام هذه المفردة ليبرر للعالم وحشيته في غزة التي تقاتل منها حماس.
وهذا يكشف أنّ المخيال الصهيوني الذي يعرف أنّ زوال الخلافة كان شرطًا لقيام “إسرائيل” قلق إزاء عودتها وتهديد وجودها في العالم. فعودة الأمة إلى مشروع سياسي موحد يتناقض مع فكرة الدولة العبرية، ويفتح مجالًا لمقاومة متصاعدة ومستمرة تمحو “إسرائيل” من خريطة الشرق.
وفي النهاية، فإنّ الأحداث التي عقبت 7 أكتوبر قد أظهرت الفكرة الرمزية للوحدة العربية الإسلامية في وعي خصمنا، من خلال استهداف رقعة واسعة من الأراضي العربية والإسلامية، ومحاولة تهجير الفلسطينيين، وتسمية المقاومة بالخلافة، ما يجعلنا نفكر بأنّ هذه الدول المستقلة يستشعر عدوها قوتها المجتمعة أكثر مما تشعر هي به، وأنّ إمكانية وحدة مشروعها السياسي والقومي واردة في منظور العدو، بالتالي قد تغدو يومًا ما واقعًا، ويقودنا هذا الخوف الإسرائيلي إلى هذه الوحدة دون أن يقصد ذلك.