“لا أحد يغادر مدينته مهما اغترب”.. حوار مع الكاتب أحمد خيري العمري

منذ بدايات الألفية الجديدة، رسم أحمد خيري العمري مسارًا مميزًا في الكتابة العربية، مسارًا متفردًا، تتجاور فيه الفكرة مع الحكاية، والروح مع الواقع، ويتحوّل فيه الإيمان إلى تجربة إنسانية نابضة بالبحث والقلق والتحوّل. في عالمه، لا تُكتب القصص لتسلية القارئ، بل لتوقظه على أسئلته، ولا يُستحضر الدين بوصفه منظومة جامدة، بل باعتباره طاقة تُعيد الإنسان إلى ذاته وتمنحه معنى أعمق للحياة.

من بغداد التي شكّلت نواته الأولى، إلى محطات الاغتراب وتجارب في مجتمعاتٍ مختلفة، ظلّ أحمد خيري العمري مؤمنًا بأن الرحيل لا يُلغي الانتماء، بل يوسّع أفق الرؤية ويُعيد تعريفها. يرى أن الكاتب الحقّ لا يكتب ليصف الخارج، بل ليعيد بناء الداخل ويواجه العالم من خلاله. هكذا تتبدّى أعماله، كمساراتٍ متتابعة في رحلة الإنسان نحو ذاته، حيث يغدو الدين وعيًا متجددًا لا نصًا مغلقًا، وتغدو الكتابة تمرينًا دائمًا على الإيمان وعلى استعادة المعنى في عالمٍ يفقد بوصلته.

في حوار خاص مع نون “بوست”، يتأمل العمري معنى الكتابة في زمنٍ يفيض بالألم والتحوّل، يستعيد من الثورة السورية لحظة وعيٍ لا يمكن القفز فوقها، بوصفها انتصارًا للإنسان في وجه الطغيان، ومساحةً لإعادة اكتشاف المعنى وسط الركام. حوار يتخطى ظاهر القول إلى جوهر المعنى، ويكشف مسار كاتبٍ يؤمن أن الكلمة الصادقة لا تُقال لتُنسى، بل لتنقش حضورها في الوعي الإنساني، حيث يبقى أثرها ما بقي الزمن.

بين الرواية والفكر والكتابة التربوية المنهجية، كيف تعيد ترتيب ملامح هويتك الأدبية؟ وأيّ منها الأقرب إلى جوهرك؟

بصراحة لا أفكر بهويتي الأدبية أو الكتابية ولا بملامحها أو بإعادة ترتيبها. سؤالك ذكرني بسؤال مماثل كان جوابه: الشجرة لا تعرف شيئًا عن الهندسة الزراعية. كتبت ما كتبت وكل ما كتبته يشكل هويتي بدرجة أو بأخرى. من يفترض أن الكاتب يمكنه أصلاً أن يحدد ذلك؟ هذه مسؤولية النقاد، ولعلهم يكونون أكثر موضوعية من الكاتب في هذا الجزء تحديدًا. وحتى بعد أن يقول النقاد كلمتهم، سيأتي الناقد الأهم، السيد الزمن، ليقول كلمته النهائية التي تقضي على كل ما سبق. السيد الزمن سيحدد ليس فقط ملامح الهوية، بل سيحدد أيضًا إن كان هناك ما يستحق أن يبقى بالأساس. هل سيبقي السيد الزمن على “البوصلة” أو “كيمياء الصلاة” أم سيفضل “شيفرة بلال” أو “كريسماس في مكة” أو “بيت خالتي”؟ أم أن كل هذا سيذهب كما لو أنه لم يكن أصلاً؟ للأسف لا نعرف. وستصدر هذه الأحكام بعد أن نكون قد رحلنا جميعًا.

أي منها الأقرب إلى جوهري؟ أتساءل أولًا ألا يمكن أن يتسع الجوهر للنوعين؟! لكن لن أسقط في فخ كليشيه “كلهم أولادي”، بل سأقول بصراحة إن العمل الفكري أقرب إلى منطقة الراحة بالنسبة لي، وأن العمل الروائي يقع حتمًا خارج هذه المنطقة، وأنه بذلك أصعب وأكثر إرهاقًا، ولكنه أيضًا أكثر متعة. ولكن، أعتقد أن العمل الأدبي يقع بالتعريف خارج منطقة الراحة بالنسبة لجميع الكتاب والروائيين، وليس العبد لله وحده.

التنقل بين أمكنة وتجارب مختلفة، من بغداد إلى محطات أخرى، كيف أعاد تشكيل وعيك ورؤيتك ككاتب؟ وإلى أي مدى انعكس على نتاجك الإبداعي؟

الانتقال من بغداد إلى الأماكن الأخرى تزامن مع تحولات كبرى في العراق ومن ثم في المنطقة. لا أعتقد أن هناك من لم يعد تشكيل وعيه سواء بقي في مكانه الأصلي أو رحل في شتات هذا العالم. العالم نفسه تغير خلال ذلك، لذلك من الطبيعي جدًا أن يتعرض الوعي لإعادة تشكل وربما يساهم ذلك في إنضاج هذا الوعي ويرى العالم بطريقة أكثر وضوحًا.

بشكل عام، الرحيل يجعلنا أكثر قدرة على الرؤية من بعيد، وهذا قد يجعلنا نغفل عن بعض التفاصيل، لكنه يزودنا بالقدرة على رؤية الصورة الكبيرة، ويجعلنا أيضًا قادرين على المقارنة مع مختلف المحطات، بل ويجعلنا نقدر بعض الإيجابيات التي لم نكن نعيها في خضم التفاصيل، ونعيد النظر في بديهيات كرسها التعود رغم سلبيتها.

بالنسبة لي، الرحيل الحقيقي خرافة. نغادر مدننا ولكنها لا تغادرنا مهما اغتربنا وتأقلمنا على أجواء مختلفة وأتقننا لغات جديدة. كما قال كفافيس: “لا سفن هناك تجليك عن نفسك، في الشوارع نفسها ستهيم إلى الأبد”. باختصار، بغداد هي جيناتي التي ولدت بها، كل ما تلاها صفات مكتسبة، ولكن حتى هذا الاكتساب تساهم الجينات فيه.

نرى في ألواح ودسر أن الكتابة عندك تبدو كنوع من “البناء الداخلي”، حيث يسبق الإعداد الصحيح أي مشروع كبير. كيف ترى العلاقة بين ترتيب الداخل قبل الشروع في مواجهة الخارج؟

في تصوري، كل كتابة هي نوع من البناء الداخلي أولًا وقبل كل شيء. لا أستطيع فهم الكتابة إلا باعتبارها كذلك، على الأقل الكتابة الإبداعية. رغم ذلك، العلاقة بين الداخل والخارج معقدة جدًا. صحيح أن الكتابة بناء داخلي، إلا أن هذا البناء الداخلي غالبًا ما يكون ناتجًا عن بذرة جاءت من الخارج. البناء الداخلي يبدأ بفكرة ناتجة عن التفاعل مع الخارج. والأمر ليس بالضرورة مواجهة مع الخارج، أحيانًا بمواجهة، وأحيانًا بتحليل لأسبابه، وأحيانًا عبر أنفاق تلتف حوله لتتجاوزه.

العلاقة بين الداخل والخارج حتمية منذ البداية، لكن لفتت نظري عبارة “ترتيب الداخل قبل الشروع في مواجهة الخارج”. لا أعتقد أن الترتيب ممكن قبل المواجهة، بل يحدث أثناء ذلك، إن حدث أصلاً.

في سلسلة “كيمياء الصلاة”، الدين ليس نصًا جامدًا بل بوصلة تربط بين الأرض والسماء، بين الإنسان وحياته اليومية. هل ترى أن الأدب قادر على أن يكون وسيلة لإحياء هذا الربط أكثر من أي خطاب وعظي مباشر؟

لا أعتقد أن سلسلة “كيمياء الصلاة” يمكن أن تصنف كنص أدبي. السلسلة تتحدث عن معاني الصلاة وعلاقتها بقيم النهوض والنماء. اللغة المستخدمة في السلسلة تعبر عن الرسالة والمحتوى الفكري فيها، ورسائل الفكر غير رسائل الوعظ، ولا يقلل هذا من أي منهما.

هل يمكن الأدب أن يحل محل خطاب الوعظ؟ لا. لا يمكن. هناك ناس تجد راحتها في خطاب وعظي مباشر، ولن تتفاعل مع أي لغة أدبية أو أسلوب فني مهما كان مبدعًا. وهذا ليس عيبًا أو منقصة، بل هو مجرد طبيعة. وبالمقابل، هناك من يجد تفاعله الأقوى مع الأدب أو الفكر. الإصرار على وجود خطاب واحد مناسب للجميع – رغم الفروق الفردية – يقود إلى درب مسدود ويحرم الجميع من فرص التنوع.

كثيرًا ما تُبرز نصوصك صراع الإنسان مع صور الغربة والقطيعة أو مع “الحوت الداخلي” الذي يبتلعه. هل ترى أن الكتابة نفسها فعل خلاص من هذا الحوت؟

لا، ليس بالضرورة.

بعض الكتابات تكون تكريسًا للبقاء في بطن الحوت، حتى لو رفعت شعارات جماهيرية مختلفة الظاهر تنادي بالخلاص من الحوت أو حتى بموته.
الكتابة التي تحاول الخروج من بطن الحوت هي التي تحاول تغيير الوعي السائد والنظر في أسباب السقوط في بطن الحوت بتوازن دون إلقاء كل التهمة والمسؤولية على الآخر.

لكنك محق! فالكتابة التي أعتبرها تكريسًا للبقاء في بطن الحوت قد يؤمن كاتبها أنه يفعل العكس، وقد يعتبر أن ما أكتبه هو التمجيد لبطن الحوت. لهذا، كل كتابة تمثل محاولة الخلاص من بطن الحوت بالنسبة لكاتبها ورؤيته للعالم وطرق الخلاص. حقيقة موقع كل كتابة من الإعراب ستظهر بعد أن نكون قد مضينا جميعًا.

بعض شخصياتك تبحث عن طوق نجاة في أشد لحظات المرض والخذلان، لكنها تجد الأمل في رموز تاريخية وإيمانية. برأيك، ما الذي يجعل العودة إلى الذاكرة الروحية مصدرًا لإنعاش الحاضر؟

أشد لحظات المرض والخذلان هي أكثر الفرص مناسبة للبحث عن طوق نجاة. إن لم يكن في هذا التوقيت، فمتى؟

الأمل ليس دائمًا في رموز تاريخية وإيمانية، لكن الإيمان بمعنى واسع يمكن أن يكون جزءًا أساسيًا من طوق النجاة. الرموز التاريخية كانت حاضرة كطوق للنجاة في روايتين: “شيفرة بلال” و”قربان آل يونس”، كما كان الإيمان حاضرًا في “كريسماس في مكة” وإلى حد أقل في “بيت خالتي”.

بالمختصر المفيد، أعتقد أننا جزء كبيرًا من سقوطنا في الواقع الحالي كان يعود إلى أمراض وأزمات ساهم التاريخ فيها، ولكي نخرج من هذا الواقع علينا أن نخرج من نفس البوابة التي دخلنا منها. ثمة موروث سلبي تراكم عبر قراءات وتأويلات للنصوص الدينية، وثمة أزمات تاريخية تم تقديسها والاستثمار فيها. كل هذا يجعل التاريخ جزءًا من مشاكل الحاضر، أي محاولة توهم أنه يمكن إنجاز قطيعة مع هذا التاريخ هي محاولة محكومة بالفشل. القطيعة وهم مستحيل. لا يمكن اقتراف قطيعة مع جيناتك. لكن فهم مشاكلها أمر يسهل التحكم بالنتائج.