مجلس الشعب السوري: يمين الوسط يدخل المشهد السياسي

شهدت سوريا خلال الأيام الماضية انتخابات جزئية لمجلس الشعب (عن طريق الانتخاب غير المباشر أو الجزئي)، شكّلت مؤشرًا على التحولات الكبيرة التي تشهدها الحياة السياسية في البلاد، وسط بيئة ضعيفة من الناحية القانونية والإدارية لم تسمح بإعلان انتخابات عامة.
أُجريت الانتخابات بنموذج انتخابي غير تقليدي، يدمج بين اختيار الهيئات الناخبة التي تنتخب ثلثي أعضاء المجلس من بين أفراد مرشحين من داخلها، وتعيين الرئيس للثلث المتبقي، في إطار يهدف إلى خلق توازن سياسي ضمن واقعٍ معقد.
تحضيرات قانونية غير مكتملة
أجريت الانتخابات عبر نظام يختلف عن الانتخابات البرلمانية التقليدية التي تعتمد على التصويت الشعبي المباشر، إذ تم اختيار الهيئات الناخبة من خلال عمليات ترشيح وفلترة، ما خفّض من احتمالات التوجيه المسبق للنواتج الانتخابية، لكنه ضمِن تنظيم العملية ضمن إطارات قانونية صارمة. هذا النموذج يشبه إلى حد ما ما شهدته دول مثل مصر بعد الثورة والمغرب، التي اعتمدت أنظمة انتخابية تجمع بين التعيين والانتخاب لضمان استقرار التوازن السياسي والاجتماعي.
نتائج الانتخابات وما أفرزت
بالنظر للأفراد الناجحين دون وجود تكتلات سياسية واضحة أو أحزاب حقيقية، يظهر أن تيار يمين الوسط يسيطر بلا هيمنة مطلقة. أتت نتائج الانتخابات أقرب إلى تشكيلة يمينية وسطى، تظهر ألوانًا سياسية محافظة معتدلة، تعكس بشكل واقعي تركيب المجتمع السوري المتنوع من جهة، وحالة صعود التيار المحافظ مدعومًا بالحالة التي أعقبت سقوط نظام الأسد.
لم تُسجل الانتخابات سيطرة حاسمة لليمين المتشدد كما كان متوقعًا، بل شكّل الفائزون توازنًا بين وجهات نظر مختلفة: إسلاميون معتدلون يسعون إلى إصلاح داخلي بعيدًا عن التطرف، وتكنوقراط يحملون خبرات مهنية وإدارية، ووجهاء وشيوخ عشائر لهم نفوذ على المستويات المحلية، وعسكريون من الحراك الثوري القديم، وناشطون شبان يدفعون باتجاه خطاب وطني جديد غير مؤدلج.
هذا التنوع السياسي يعكس تراجعًا عن احتمالية وتوقع تصاعد للخطابات المتطرفة، ويعزز وجود توجهات براغماتية تسعى إلى بناء مؤسسات قوية وموثوقة.
انتظار تعيين الرئيس
الثلث الأخير من المجلس، الذي يُعهد بتعيينه إلى الرئيس الشرعي، يكتسي أهمية خاصة في تكوين الكتلة التشريعية المتوازنة. من المتوقع أن يركّز التعيين على تعزيز التمثيل النسائي، الذي لا يزال ضعيفًا، إلى جانب استقطاب كفاءات مهنية وأفرادًا من الأقليات المتنوعة لإغناء التنوع من جهة، وإرسال رسائل طمأنة للخارج من جهة أخرى، مع الحفاظ على التمثيل العشائري والاجتماعي، بما يتيح للمجلس أن يعكس الوجه الحقيقي لسوريا الجديدة والمتعددة الأوجه.
بروز الفكر الثوري المعتدل
يمثل المجلس الجديد قطيعة مع الإرث السياسي المتشدد الذي نشأت عليه هيئة تحرير الشام والفصائل المرتبطة بها. بدلًا من ذلك، تمثل الانتخابات صعودًا لفكر سياسي معتدل، محكوم بخطاب يدمج بين الاعتدال الديني والواقعية السياسية، وينفتح على الثورة بشبابها وروحها، لكن من دون التطرف الأيديولوجي.
يشكل هذا التغيير في المجلس بداية محتملة لمرحلة سياسية جديدة تخرج سوريا من أحادية القطبية السياسية، وتفتح الباب أمام برلمان أكثر تعددية وتمثيلًا، وربما صبغة يمين الوسط تتيح فرصة لاستقرار سياسي يتماشى مع أطياف المجتمع السوري، جامعًا بين الأصالة والانعتاق، بين المحافظة والحداثة.
ومع استطلاع الآراء، تحدث عضو هيئة ناخبة طلب عدم ذكر اسمه لـ “نون بوست”، حول شكل التحالفات الانتخابية والمشهد الانتخابي، ذاكرًا دير الزور كمثال عن هذه التحالفات. يُظهر المشهد الانتخابي الأخير في دير الزور ملامح تحوّل جديد في البنية السياسية والاجتماعية للمحافظة، إذ أفرز تحالفًا لافتًا بين القوى العشائرية التقليدية ذات التأثير الميداني التقليدي، والتيار السلفي ذي الحضور الدعوي والاجتماعي الحديث من ناحية الظهور العلني بسبب الملاحقات الأمنية سابقًا، ما أدى إلى تحقيق فوز واسع لهذا التحالف في الهيئة الناخبة.
يكمل عضو الهيئة الناخبة: “رغم ذلك، فإن المشاركة لم تُترجم إلى انسلاخ عن الحالة الثورية، بل على العكس، شكّلت الثورة شرطًا أساسًا للقبول الشعبي والسياسي. فالمرشحون الفائزون، رغم تنوع انتماءاتهم الدينية والعشائرية، كان لديهم موقف واضح من الثورة السورية”. ويضيف “كما أن خروقات محدودة سجلها شباب الثورة من التيار غير المؤدلج، والتيار الوسطي المحافظ، جاءت لتعكس محاولة إعادة التوازن بين القيم الثورية والاعتبارات المجتمعية القائمة”. هذا التشكّل الجديد يشير إلى نوع من “التكيف السياسي” بين مكونات المجتمع المحلي، الساعية إلى الحفاظ على نفوذها ضمن إطار يظل مرتبطًا بالثورة من حيث المبدأ والرمزية، وإن بصيغ أكثر براغماتية.
الباحث في العلاقات الدولية غزوان مصطفى الغدير يقول في حديثه لـ “نون بوست”: رغم الانقسام حول اجتهاد حكومة البلاد الحالية باقتصار الانتخابات على هيئات محدودة العدد، وعدم جعلها عامة، بحجة عدم وجود قيود رسمية للكثير من مواطني البلاد، ولأسباب سياسية تتمثل بوجود مساحات خارج سيطرة الدولة السورية، حققت الانتخابات مرادها بعيد المدى، وجعلت الشارع يتفاعل مع الحدث تأييدًا ورفضًا. كان المرشحون/ات محط النقاشات، ورُصدت تصريحاتهم، ومراقبة أدائهم حتى عند انعقاد الجلسات.
غياب الفواعل
غابت عن المشهد بعموم البلاد الفواعل السياسية والاجتماعية التقليدية، كرجال الدين في دمشق (يحضرنا مثالُ تدخلهم لصالح المالكي مثلًا ضد السباعي في انتخابات الخمسينيات)، والتُجّار في حلب، وتبنّيهم ودعمهم لمرشح أو صناعي. بالمقابل، حضرت العشيرة في المشهد بدير الزور برمزيتها، ومركزها الإداري في المنطقة الشرقية عمومًا.
لم يقدم أي مرشح نفسه عن تيار أو حزب، لعدم وجودها وتبعثر قوتها وتنظيمها، وعدم عودة الكثير من كوادرها للبلاد. بالمقابل، طغى التيار المحافظ وحضر في المشهد بقوّة، رغم غياب الانتماء الواضح ببعض المحافظات، ووضوحه بمحافظات أخرى. لكن غالب من وصلوا للنيابة ينتمون للتيار المحافظ عمومًا.
كذلك لا يخفى على أي مراقب ضعف تمثيل النساء، رغم ترشحهن في غالب دوائر البلاد الانتخابية. يبدو أن الموروث والعادات لا تزال تطغى وتؤدي إلى عدم انتخابهن. كذلك حضور النشطاء الثوريين الذين فضّلهم المزاج العام على حساب الكفاءات والخبرات السياسية والأكاديمية. ليست التجربة مُثلى بكل تأكيد، لكن بالإمكان رصدها ودراستها للبناء عليها في الاستحقاقات القادمة.
ولكن، برزت وفي الذات بمحافظة حلب صعود واضح لتيار إسلامي محسوب على جماعة الإخوان المسلمين، فالجماعة التي لم تنخرط بهذه الانتخابات ولم يصدر عنها أي بيان بخصوصها دخلت إلى البرلمان بأساليب مختلفة.
الكاتب والباحث السياسي عبد الوهاب عاصي قال لـ “نون بوست”: “يمكن القول إن هناك نفوذًا واسعًا لجماعة الإخوان المسلمين في عدد من الدوائر الانتخابية، حيث حظي العديد من أفراد التيار بعضوية المجلس، وهؤلاء كانوا قد أسسوا في المهجر ومناطق “المحرر” مؤسسات خيرية وتعليمية، وبنوا قواعد اجتماعية لهم استفادوا منها في الدخول للهيئات الناخبة ثم الوصول لعضوية البرلمان”.
يضيف عاصي: “لا توجد بعد نسبة دقيقة لأعداد الفائزين من الإخوان، لذلك لا يمكن القول إن المجلس أصبح ذا صبغة يمينية. بالمقابل، أعتقد أن تدخل الرئيس لن يكون مرتبطًا بلون أعضاء المجلس السياسي، إنما فقط بما يضمن التنوع العرقي والطائفي والإثني، من أجل إحداث نوع من التوازن داخل المجلس”.
مما سبق، يظهر أن تيار يمين الوسط لم يُحقق بعد سيطرة كاملة على مجلس الشعب السوري، حيث لا تزال التوازنات الداخلية مشوبة بالتأثير الكبير للرئاسة، التي تلعب الدور الحاسم في التعيينات وإعادة تشكيل المجلس. هذه التعيينات المرتقبة ستُحدد بشكل نهائي مسار السلطة التشريعية، وقدرتها على تشكيل توازن سياسي حقيقي، أم فقط تمثيل شكلي. لذلك، يبقى الوضع مفتوحًا على احتمالات متعددة، ما بين إدارة مركزية متماسكة يرعاها الرئيس، وانتظار ظهور تحالفات سياسية جديدة قد تُعيد رسم الخريطة البرلمانية في المستقبل القريب.