معركة الرواية: كيف غيّرت الكاميرا مجرى الحرب في غزة؟

أثبتت التطورات الميدانية بعد مرور عامين على عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من حرب إبادة إسرائيلية غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أن المعركة لم تنحصر فقط في المواجهات العسكرية المسلحة، والتكتيكات القتالية المتطورة، فهناك سلاح آخر فرض نفسه كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد، هو سلاح الصورة والكاميرا.
وبينما تدخل الحرب عامها الثالث تحولت الكاميرا والسردية إلى أسلحة استراتيجية لا تقل فتكًا عن القذائف والصواريخ، والكواد كابتر، فكان للصحفيين الفلسطينيين كلمة السر في إعادة صياغة الوعي العالمي بسرديات مغايرة تمامًا لتلك التي اعتاد المحتل على احتكارها والترويج لها عبر عقود طويلة.
أدركت المقاومة يقينًا أن صراعها مع الكيان المحتل ليس عسكريًا فقط، فهو في مضمونه صراع على الوعي وكسب معركة الرأي العام العالمي، ولذا كان لرمزية الصورة ورسائل اللقطة دورها المحوري في تلك المعركة التي نجح فيها الفلسطينيون بعد مرور عامين على اندلاعها في تغيير مجرى الحرب ومخرجاتها، وربما نتائجها إذا ما قيست وفق معايير الاستمرارية والتأثير العالمي وتبعاته.
الصحفي الفلسطيني.. شاهد ومُوثّق للجرائم لا ناقل للخبر
على الأرجح يكون المحرر العسكري أو الصحفي الذي يغطي الصراعات والحروب ناقلًا للخبر، نادرًا ما يكون مُحرّكًا له أو صانعًا لبعض أحداثه، وفي الغالب – إن لم يكن دائمًا – يقبع في الصفوف الخلفية كمراقب من بعيد، مستندًا إلى المواثيق الدولية التي تحثه على سلامته الشخصية في المقام الأول.
أما في غزة فالوضع مختلف تمامًا، فالصحفي الفلسطيني دائمًا ما يتصدر الصفوف، في الخطوط الأمامية، متخذًا من الكاميرا سلاحه الوحيد لتوثيق الحقيقة بالصوت والصورة، ليتحول من ناقل للأحداث إلى شاهد وحيد ومُوثّق للجرائم، وغالبًا ما يكون ضحية لتلك الجرائم.
ومع إقصاء الكيان الإسرائيلي مراسلي الصحف الأجنبية من التغطية، حفاظًا على سرديته الاحتكارية الوحيدة، بات الصحفي الفلسطيني هو النافذة الوحيدة لتوثيق جرائم الاحتلال، والمرآة العاكسة لما يحدث على الأرض، والرواية الموثوق بها، صوتًا وصورة، في مواجهة السردية الإسرائيلية المضللة.
ومما يميز التغطية الإعلامية لتلك الحرب أنها غير مركزية، تتخذ من صحافة المواطنة (التي يقوم بها مواطنون فلسطينيون بشكل عشوائي عبر كاميراتهم وهواتفهم الشخصية) عصبًا لها، الأمر الذي جعل من الصعب، بل من المستحيل، توجيه تلك التغطية أو استقطاب من يقوم بها، ما أفلت زمام السيطرة من الجميع، لتتحول ساحة المعركة إلى شاشة كبيرة لنقل ما يدور على مرأى ومسمع من الجميع وعلى الهواء مباشرة.
وعلى مدار عامين كاملين، تحولت شاشات الهواتف الذكية إلى محطات بث مباشر، مُلغية الحاجز الزمني والمكاني بين الحدث والمشاهد، حيث أتاح هذا التوثيق الفوري نشر المشاهد الإنسانية الصادمة قبل أن تتمكن الآلة الإعلامية المضادة من حجبها أو تفكيكها.
كما وظّف الفلسطينيون المنصات سريعة الانتشار مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”إكس” لتكون ساحات معركة إعلامية، حيث تفوق المحتوى الفلسطيني العفوي والحقيقي على الإنتاج الإعلامي الرسمي الضخم، فبينما اعتمدت إسرائيل على بيانات عسكرية وصياغات لغوية محكمة تبرّر أفعالها، واجهها الفلسطينيون بلقطات حقيقية غير مصقولة. كانت كل صورة جثة لطفل أو أمٍّ باكية أو مستشفى مدمّر تختصر آلاف البيانات الدبلوماسية.
ومن هنا كانت الصورة الفلسطينية أكثر صدقًا وبساطةً وإنسانيةً، ولهذا كانت أكثر تأثيرًا، فهي لا تحتاج إلى ترجمة أو وسطاء؛ تخاطب الضمير مباشرة، وتضع المتلقي في مواجهة سؤال أخلاقي: كيف يمكن تبرير جرائم الاحتلال الوحشية في ظل تلك المشاهد المؤلمة؟ سؤال انتقل لاحقًا من مقاعد التقييم الأخلاقي إلى طاولة النقاش السياسي داخل غرف الحكومات والأنظمة.
كسر احتكار “الرواية الرسمية” الإسرائيلية
لقد شكّلت حرب غزّة الأخيرة – بعد عملية طوفان الأقصى – لحظةَ تحوّلٍ إبستيمية (معرفية) كبرى وفارقة في صراع الروايات، إذ لم تعد السردية الإسرائيلية المهيمنة على مدار عقود طويلة قادرة على الصمود أمام سطوة الصورة الحيّة التي تجاوزت كل خطاب.
فمنذ عام 1948، نجحت دولة الاحتلال وباقتدار لا يمكن إنكاره في ترسيخ ما يمكن تسميته بـ”نموذج الضحية” داخل الوعي الغربي، إذ لم يكن هذا النموذج مجرّد دعاية سياسية، بل منظومة فكرية، إعلامية متكاملة فرضت ثنائية صارمة: الموضوع (إسرائيل، بوصفها رمزًا للحضارة والديمقراطية المهدَّدة)، والمقابل (الفلسطيني، الذي جرى اختزاله في صورة “الإرهابي” أو “العنيف”)، ليُبرَّر كل عدوان إسرائيلي تحت شعار “الدفاع عن النفس”.
لقد كانت هذه المنظومة تعمل كـ”مرشّح بصري” دقيق، لا يسمح بمرور سوى ما يخدم خطاب الضحية الإسرائيلية، ويحجب كل ما يمكن أن يزعزع صورة “الجيش الأخلاقي”، غير أن حرب غزة الحالية مثّلت ما يمكن وصفه بـ”العبور الثاني”، عبورًا لا لقناة جغرافية، بل لجدار الرقابة الإعلامية نفسه، وهنا بدأ التحوّل الفلسفي العميق في بنية الوعي.
هذا التحول الذي تُسقط فيه الكاميرا الخطاب السياسي، فلم تعد الرواية تُروى عبر عدسات الصحفيين الغربيين الخاضعين للرقابة الإسرائيلية، بل عبر من يعيشون الحدث ويقفون في مركزه، فلم تعد أسماء مثل أنس الشريف، مريم أبو دقة، إسماعيل الغول، حسام المصري، بلال الخالدي، مجرد مراسلين، بل شهودًا وجوديين يمارسون ما يمكن تسميته بـ”صحافة البقاء” حيث تحولت الكاميرا إلى بطاقة هوية، وشهادة حياة، وسلاح مقاومة في آنٍ واحد.
ومن ثم، وبعد عامين كاملين من حرب الصورة والكاميرا، يمكن القول وبثقة إن سردية “الضحية/المعتدي” التي لطالما اعتمدها الخطاب الغربي قد ولّت إلى غير رجعة، إذ لم تعد مجازر المدنيين وتجويع الأطفال تُفسَّر في سياق “مكافحة الإرهاب” ولا “دفاعًا عن النفس”؛ فالصورة صارت أقوى من النص، وأبلغ من أي بيان.
وعليه، سقط القناع الذي طالما ارتدته “إسرائيل” لتتحول من “الديمقراطية المحاصَرة” و”مبعوث العناية الإلهية للدفاع عن الحضارة في مواجهة الغوغائيين” إلى “الدولة المعتدية” قاتلة الأطفال، التي تمارس حربًا وحشية إجرامية، تلك الصدمة الأخلاقية التي اخترقت حتى أكثر الأوساط الغربية تعاطفًا معها، لتقلب معادلة الوعي.
تغيير الرأي العام العالمي
بعد عامين من الحرب، لم يعد سكان غزّة مجرّد ضحايا يعيشون تحت القصف، بل صاروا جنودًا في معركة الوعي، كلٌّ منهم يقاتل بما يملك من أدوات بسيطة: بكاميرا الهاتف، أو بمنشور، أو بصورة تهزّ ضمير العالم. في فضاءٍ رقمي مفتوح، تحوّل الفلسطيني إلى راوٍ كوني للحقيقة، وأعاد تعريف معنى المقاومة بوصفها فعلًا إنسانيًا قبل أن تكون موقفًا سياسيًا.
لقد كسب الفلسطينيون معركة الوعي، لا عبر الدبابات ولا عبر البيانات، بل عبر الدمع الموثّق، والصرخة المصوّرة، والوجع الحيّ. ومن رحم هذا الصراع على المعنى وُلد تحوّل جذري في المزاج الشعبي العالمي، تمثّل في يقظةٍ أخلاقية غير مسبوقة، خصوصًا لدى جيلٍ وُلد في زمن الشاشات والحقائق العارية: جيل زد.
كان هذا الجيل، الذي لم يرَ النكبة ولا حروب العرب القديمة، أكثر قدرة على التحرّر من أعباء السرديات التاريخية. لم ينظر إلى القضية الفلسطينية بعين السياسة أو الدين، بل بعين الإنسان الذي يرى في العدالة قيمة مطلقة لا تُقاس بالجغرافيا. ومن هنا، تمدّد التضامن مع غزّة عبر القارات، لا بوصفه حراكًا سياسيًا، بل كـحركة ضمير كوني تعيد تعريف إنسانيتنا المشتركة.
وبات العربي المتكئ على أريكته داخل غرفته المكيّفة في القاهرة ودمشق وبيروت وتونس والجزائر والرياض يتابع عبر الفضائيات شعارات مثل “من النهر إلى البحر، فلسطين حرة” تُرفع ويُجهر بها صوتًا في جامعات أميركية وبريطانية وفرنسية وألمانية وإسبانية وهولندية، وهي التي كانت قبل الطوفان مُجرّمة في الإعلام الرسمي الغربي.
لقد كشفت الكلمة الفلسطينية وصورتها عن قوتين متضافرتين: قوة الوجدان وقوة الحقيقة، فالحراك الطلابي والشعبي في جامعات العالم، والمظاهرات التي طالبت بقطع العلاقات مع الكيان المحتل، ما كان لها أن تولد لولا هذا السيل الإنساني من الصور والشهادات التي اخترقت القلوب قبل العقول، إذ صارت الكاميرا الفلسطينية نافذة للضمير العالمي، ومرآة يرى فيها الإنسان نفسه مجرّدًا من تبريراته القديمة.
وأمام هذا المدّ الأخلاقي الجارف، لم يكن الإعلام الغربي قادرًا على مواصلة دوره القديم كحارس للسردية الإسرائيلية، لتتهاوى لغة التبرير تدريجيًا، وبدأت صحف كبرى مثل “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” و”الغارديان” تستخدم مفرداتٍ طالما حُظرت، مثل الإبادة، الجرائم الجماعية، العقاب الجماعي. فلم يكن هذا مجرد تغيير لغوي، بل انشقاق معرفي داخل بنية الوعي الغربي نفسه، وانفصال تدريجي عن خطابٍ فقد مبرراته الأخلاقية.
إن ما شهدناه بعد عامين من الصمود والوثائق الحيّة ليس مجرّد تبدّلٍ في الرأي العام، بل تفكيك لهيمنةٍ سردية استمرّت أكثر من سبعة عقود. لقد انكسر احتكار الحكاية، وبدأت العدالة تتكلّم بلسانٍ جديد، تُحرّكه صورٌ خرجت من تحت الركام، لتقول: الحقيقة لا تُقصف.
وفي هذا المعنى العميق، يمكن القول إن الفلسطيني لم ينتصر بالسلاح، بل بالمعنى، انتصر حين جعل من الألم لغةً كونية مشتركة، ومن الذاكرة الموجعة أداةً لإحياء الضمير الإنساني، ليبدأ العالم – أخيرًا – في النظر إلى غزّة لا كحدثٍ سياسي، بل كمرآةٍ لما تبقّى من إنسانيتنا جميعًا.
الكلفة كانت باهظة
بطبيعة الحال، كان لا بد لتلك المعركة من كلفة وثمن، فالعدو لن يترك سرديته التي رسّخها لعقود تنهار فجأة، وصورته الوردية التي أنفق على رسمها المليارات تذهب هباءً، ومن هنا كان لا بد من استهداف الصورة والمصوّر معًا، اللقطة والكلمة في آن واحد، ليتحول قتل الصحفيين إلى سياسة ممنهجة تهدف إلى إسكات الصوت الفلسطيني وقطع الشريان الأخير الذي يربط غزّة بالعالم.
واهمٌ من يعتقد أن استهداف حَمَلة الكاميرا وأصحاب الكلمة كان خطأ عشوائيًا أو حوادث من قبيل المصادفة، كما روّجت الآلة الإعلامية الصهيونية، بل رسالة واضحة مفادها أن الصورة باتت أخطر من الرصاصة، وأن من يملكها يهدد رواية القوة المحتلة أكثر مما يفعل أي سلاح.
هذا الإدراك الخفي والمُرعب لقوة الصورة جعل من الكاميرا هدفًا عسكريًا، وعليه كان الثمن باهظًا ولا مثيل له في كافة الحروب التي شهدها العالم على مر التاريخ، فتشير إحصاءات نقابة الصحفيين الفلسطينيين إلى استشهاد ما بين 252 صحفيًا فلسطينيًا منذ بداية الحرب، بجانب إصابة 535 واعتقال 49 آخرين.
طريقة استهداف هؤلاء الصحفيين كانت هي الأخرى شهادة موثقة على إجرام المحتل، فأغلبهم لم يسقط صدفة؛ كثيرون قُتلوا داخل منازلهم مع أسرهم أو أثناء تغطية الأحداث، ليتحوّلوا إلى شهودٍ بالدم على الجريمة التي سعوا لتوثيقها بعدساتهم.
ولم يقتصر هذا الاستهداف على الأفراد فحسب، بل امتد ليطال بنية حرية التعبير نفسها، إذ دُمّرت عشرات المكاتب الإعلامية، وأكثر من 150 مؤسسة صحفية خرجت عن الخدمة، علاوة على استشهاد نحو 600 من عائلات الصحفيين نتيجة استهداف منازلهم.
لا يمكن التعاطي مع تلك الأرقام كإحصاءات تُسجَّل في سجلات نقابة الصحفيين أو جمعيات حقوق الإنسان الدولية فحسب، بل هي شهادات موثقة على جريمة صمتٍ متعمّد، فالمحتل لم يكتفِ بتدمير البيوت، بل حاول محو الصورة التي قد تُدين أو توثّق، حتى عندما احتمى الصحفيون في محيط المستشفيات أو بين خيام النازحين، ظلت القذائف تلاحقهم، في رسالة تقول: لا يُسمح للرواية الأخرى بالبقاء.
المعركة مستمرة
نعم، نجح الفلسطينيون في تحقيق انتصار نسبي في معركة الرواية أمام السردية الإسرائيلية المضللة، لكن هذا لا يعني أن المواجهة قد حُسمت، فالطريق لا يزال طويلًا، ومليئًا بالعراقيل والتحديات الجسيمة، خصوصًا أمام بنية إعلامية ومؤسساتية تميل بطبيعتها نحو الرواية الإسرائيلية.
فالمعركة لم تعد تُخاض في الميدان وحده، بل في فضاءات خوارزمية تحكمها شركات التكنولوجيا الكبرى، التي سخّرت كل إمكانياتها لخدمة الرواية الإسرائيلية، حيث يتعرض المحتوى المؤيد لفلسطين لسياسات رقابة وتعتيم ممنهجة. من حجب الحسابات وتقليل الوصول إلى حذف الصور والمقاطع التي توثّق جرائم الحرب أو تنتقد الاحتلال، يبدو أن الحقيقة نفسها باتت تخضع للمراجعة قبل أن تصل إلى الجمهور.
وأمام هذا التطور اللافت في تلك المعركة، يبدو أن الحرب تتخذ شكلًا مغايرًا، أقرب إلى حروب الذكاء الاصطناعي، فالتطور المتسارع في تقنيات توليد الصور والفيديوهات زاد من صعوبة التمييز بين الحقيقة والتزييف، ما يضع الصحفيين والمواطنين الموثقين في اختبار دائم للموثوقية.
وبين الحاجة العاجلة للتحقق الرقمي، والضغط المستمر على المنصات التي تسعى لتقييد الخطاب الفلسطيني، تتعمّق معركة الوعي لتصبح أكثر تعقيدًا — معركة لا تُخاض بالسلاح أو الصورة فحسب، بل بخوارزميةٍ قد تختار من يَظهر ومن يُمحى من الذاكرة الرقمية.
في المحصلة، أثبتت حرب غزّة أن الكاميرا لم تعد أداة توثيق فحسب، بل جبهة مقاومة كاملة تواجه روايةً احتكرت الحقيقة لعقود، لقد دفع الصحفي الفلسطيني ثمنًا باهظًا ليُبقي الصورة حيّة، وليؤكد أن الوعي هو ساحة الصراع الأعمق.
ومع استمرار المعركة الرقمية وتكثّف محاولات التعتيم، تبقى الحقيقة الفلسطينية عصيّة على المحو، لأن من يملك الكاميرا يملك الذاكرة، ومن يحمي الذاكرة يحمي الإنسان ذاته، ليبقى جوهر المعركة الحديثة: أن تنتصر حين يرى العالم الحقيقة كما تراها أنت، لا كما يرويها الآخر عنك.