قادة الظل: وجوه الطوفان التي غيّبتها الاغتيالات

شكّلت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، التعبير الأوضح عن انتصار الإرادة على آلة القتل، وعن قدرة الإنسان الفلسطيني على تحويل الحدّ الفاصل بين الممكن والمستحيل إلى معبرٍ نحو الفعل المقاوم.

لم تكن العملية مجرّد هجومٍ عسكريٍّ مباغت على واحدٍ من أكثر الجيوش تحصينًا في العالم، بل كانت إعادة تعريفٍ لمعادلات القوة، وإثباتًا أن منظومات الأمن والإنذار المبكر، مهما بلغت من تطور، يمكن أن تُكسر أمام عقلٍ منظم وإيمانٍ متجذر.

هذا الإنجاز، الذي بدا للعالم وكأنه لحظة خاطفة، لم يولد في يومٍ أو شهر، بل كان حصيلة مسارٍ طويل من التراكم التنظيمي والعسكري والفكري داخل بنية كتائب القسام. فمنذ سنوات، كانت المقاومة تخوض معركة بناءٍ هادئة خلف الستار، تستخلص العبر من كل مواجهة، وتعيد هندسة قدراتها حتى وصلت إلى لحظة الانفجار الكبرى، حين تحوّل الحلم إلى واقعٍ يضرب في عمق الاحتلال، ويفرض عليه أحد أكبر الاختبارات في تاريخه العسكري.

لقد مثّلت عملية السابع من أكتوبر تجسيدًا مكثفًا لمدرسة القسام العسكرية، التي جمعت بين انضباط التخطيط ودقّة التنفيذ وروح المبادأة الثورية، إذ لم يكن ما جرى وليد الصدفة، بل نتاج تفكيرٍ تراكميٍّ يستند إلى خبراتٍ فلسطينية وإقليمية ودروسٍ مستخلصة من تجارب حركات التحرر في العالم.

ومن خلال هذا المزج بين العقل المقاوم المحلي والوعي الاستراتيجي العابر للحدود، نجحت كتائب القسام في تقديم نموذجٍ يُدرَّس في علم الحرب غير المتكافئة، لكنّ ما يميّز هذه العملية أكثر من غيره، هو مستوى التنسيق العملياتي والتكامل الميداني بين مختلف التخصصات داخل القسام، فالهجوم لم يكن مجرد اقتحامٍ بري، بل لوحة متكاملة من وحدات النخبة، والطائرات المسيّرة، ووحدات الإشارة، والاقتحام البحري، والمشاة، والهندسة، وكلها تحركت بتناغمٍ مدهش مكّنها من شلّ فرقة غزة الإسرائيلية خلال ساعاتٍ قليلة.

لقد بدا المشهد كأن العقل العسكري للمقاومة يعمل كجسمٍ واحدٍ نابضٍ خلف خطوط العدو، ليكشف للعالم أن ما أُنجز في ذلك اليوم لم يكن فقط نصرًا ميدانيًا، بل أيضًا نصرًا تنظيميًا واستخباراتيًا وتاريخيًا.

رجال الظل: صانعو المستحيل

ثلة من قادة كتائب القسام عملت بلا انقطاع خلف ستار المقاومة؛ رجالٌ بدأوا مسارهم حين كان عدد الطلقات محسوبًا ومعدودًا، وراجعوا خطواتهم وبنوا قدراتهم بصبرٍ وتأنٍ حتى وصلوا إلى حجمٍ من الإعداد مكنهم من إطلاق أكبر هجمة صاروخية في تاريخ المقاومة الفلسطينية.

هؤلاء ليسوا صورًا على شاشات الأخبار ولا عناوينًا في الصفحات الأولى، بل كانوا دائمًا في الظلال: مفكّرون، منظّمون، ومخططون استخباريون وميدانيون. عملهم لم يقتصر على لحظةٍ واحدة من الانفجار؛ بل شمل سنوات من المراكمة، تدريبًا، تجنيدًا، هندسة لوجستية، بنية اتصالات سرية، وتجارب تكتيكية أُعيدت صقلها مرارًا، حتى أصبح بمقدورهم تحويل حلمٍ إلى واقعٍ عملي يهزّ هيبة الخصم ويهشّم أسطورة الانفراد بالأمن والقدرة على الردع.

هؤلاء هم “رجال الظل”، أبطالٌ رآهم العالم في لحظة النصر، لكن أسماؤهم وأدوارهم التفصيلية ظلت غالبيتها مغطاة بغبار السرية، وما يميزهم ليس مجرد شجاعة المواجهة، بل القدرة على جعل المستحيل ممكنًا عبر تراكم دقيق وممنهج للأدوات البشرية والتقنية والتكتيكية، ما أتاح للمقاومة أن تضرب حيث ظنّ العدو نفسه منيعا.

مروان عيسى – “أبو النخبة” والعقل الاستراتيجي

مروان عبد الكريم علي عيسى، المكنّى أبو البراء، وُلد عام 1965، ويُعد أحد أبرز القادة العسكريين في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ونائب القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وعضوًا في مكتبها السياسي والعسكري.

عُرف داخل الأوساط التنظيمية والميدانية بأنه “العقل الاستراتيجي” للمقاومة الفلسطينية، والرجل الذي جمع بين العمل السري الدقيق والفكر العسكري المنظم، حتى صار من أكثر الشخصيات تأثيرًا في تطور بنية كتائب القسام وتحولها إلى قوةٍ عسكرية منظمة ذات طابع احترافي.

شكلت تجربة السجن التي مر بها محطةً مركزية في بلورة شخصيته الفكرية والمقاومة، إذ غادر الزنازين أكثر تصميمًا على تطوير مسار المقاومة وبناء قدراتها، والتحق بعدها مباشرة بصفوف كتائب القسام، وسرعان ما صعد في مواقعها حتى بات أحد أبرز المخططين الميدانيين في التسعينيات.
شارك في دفعة العمليات الاستشهادية التي نُفذت عام 1996 ردًا على اغتيال المهندس يحيى عياش، إلى جانب محمد الضيف وحسن سلامة وآخرين، قبل أن يُعتقل ويقضي أربع سنوات في السجون، ويُفرج عنه مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.

بعد خروجه من سجون السلطة، برز دوره في إعادة هيكلة الكتائب وتحويلها من خلايا صغيرة شبه مستقلة إلى تشكيل عسكري منظم قائم على ألوية وكتيبات محددة وفق هرمية واضحة. عُرف عنه أنه صاحب رؤية تخطيطية بعيدة المدى، إذ لم يكن ينظر إلى المعركة كحدثٍ عابر، بل كحلقة في مشروع تراكم طويل يقود إلى بناء جيشٍ مقاوم ذي عقيدة وانضباط.

وقد وصفه الإعلام الإسرائيلي لاحقًا بأنه “القائد الفعلي للقسام على الأرض”، نظرًا لحضوره في تفاصيل القرار العملياتي، وقدرته على الجمع بين الذكاء الميداني والفهم العميق لبنية العدو وآلياته الدفاعية.

خلال مرحلة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، ظهر اسمه رسميًا ضمن قائمة “قادة الصف الأول” التي نشرتها كتائب القسام. وتزامن ذلك مع نشر مقابلة في نشرة “فجر الانتصار”، حيث عُرف حينها بلقب “مسؤول عمليات المستوطنات”، متحدثًا عن طبيعة العمل القتالي داخل المستوطنات وآليات الرصد والتخطيط التي كانت تمتد لأسابيع قبل التنفيذ.

وقد أكد في تلك المقابلات أن صلاح شحادة، القائد العام السابق للقسام، هو من زرع فكرة نقل المعركة إلى قلب المستوطنات، قائلاً: “قررنا نقل المعركة إلى منازل المستوطنين”، في إشارةٍ إلى جوهر الاستراتيجية التي جعلت من الاحتلال في غزة في موقع دفاعٍ دائم حتى لحظة الانسحاب.

عرفت عنه الدقة والانضباط، والاهتمام الشديد بالتفاصيل التقنية والاستخبارية. إذ كان يصرّ على أن كل عملية يجب أن تُبنى على رصد ميداني متقن وتحليل استخباري دقيق، وأن تُدار باحترافية توازن بين الجرأة والضبط الميداني.

وقد تجلّت بصماته التكتيكية في مختلف معارك غزة، من “حجارة السجيل” عام 2012 إلى “العصف المأكول” عام 2014، وصولاً إلى “سيف القدس” عام 2021، وأخيرًا “طوفان الأقصى” عام 2023، حيث ظهرت آثار المدرسة التي ساهم في ترسيخها من حيث التنسيق العملياتي، والقدرة على المزج بين القتال البرّي والاستخباري والهندسي والتقني في منظومة واحدة.

بعد عام 2014، ارتبط اسمه بمشروع “نخبنة القسام”، الذي سعى من خلاله إلى تحويل سرايا النخبة المنتشرة في الكتائب إلى كتائب كاملة في كل لواء، بما يرفع مستوى الاحتراف ويزيد من جاهزية المقاتلين الذين يجري إعدادهم منذ الصغر ليكونوا في مستوى المواجهة الكبرى، وقد أعاد هذا المشروع تشكيل العمود الفقري للقسام وهيكليته الداخلية، ورسخ ثقافة القتال الاحترافي داخل صفوفه.

عرف أبو البراء بقدرته على التحدث بالعبرية بطلاقة، ما جعله أحد أهم العقول التي فهمت عقل العدو من الداخل، واستثمر هذه المعرفة في تطوير التكتيكات وأساليب التمويه والتشويش. كما لعب دورًا مهمًا في صفقة تبادل الأسرى عام 2011، المعروفة بصفقة شاليط، وتقول تقارير إسرائيلية إنه زار الأسير جلعاد شاليط أكثر من مرة خلال فترة احتجازه، ما يعكس حجم الثقة التي كان يحظى بها داخل البنية القيادية للمقاومة.

في عام 2017، انتُخب مروان عيسى عضوًا في المكتب السياسي لحركة حماس ممثلًا عن جناحها العسكري، ثم أعيد انتخابه في عام 2021. وفي عام 2019 أدرجته الولايات المتحدة على قوائم “الإرهاب”.

استُهدف مروان عيسى في غارة إسرائيلية بتاريخ 10 مارس/آذار 2024، غير أن كتائب القسام نعتْه رسميًا في 30 يناير/كانون الثاني 2025، وقد جاء الإعلان عن استشهاده متزامنًا مع إعلان كتائب القسام استشهاد القائد العام محمد الضيف، وعدد من أعضاء المجلس العسكري، بينهم غازي أبو طماعة، ورافع سلامة، ورائد ثابت.

أبو عمر السوري: مهندس التدريب وصانع هيكلية القسام

حكم العيسى، المعروف باسم أبو عمر السوري، وُلد عام 1967 في الكويت لعائلة فلسطينية من بلدة رامين قرب طولكرم، وسيرته تُقرأ كمسارٍ عسكري طويل امتد بين ساحاتٍ إقليمية وتجارب ميدانية أثّرت في تكوينه وخططه اللاحقة.

تنقّل خلال سنوات شبابه بين سوريا ولبنان، وشارك في ساحات خارجية، من أفغانستان إلى الشيشان، ما منحَه خبرات قتالية وتعليمًا ميدانياً نادرًا لمقاتل فلسطيني آنذاك. في عام 2005، انتقل إلى قطاع غزة مع عائلته مبعوثًا من قيادة حماس في الخارج بهدف نقل الخبرة للقسام في غزة، وهناك بدأ فصلٌ جديد من عمله الذي تميّز بالتركيز على بناء القدرات والتدريب والتطوير التقني.

انخرط أبو عمر مبكرًا في مسارات التدريب ضمن صفوف كتائب عز الدين القسام، فبنى لنفسه سمعةً كخبير في إعداد المقاتلين وصقل مهاراتهم، حتى صار مؤسسًا لأول أكاديمية للتدريب العسكري داخل الحركة، فيما عرف بين المقاتلين باسمٍ دارج هو “أبو المواقع”. واجتهد في تأسيس ما عُرف لاحقًا بالأكاديمية العسكرية للكتائب، مُدخلاً أساليب تدريب متقدمة ومناهج تكتيكية وتقنية رفعت مستوى الجاهزية لدى أجيالٍ كاملة من المقاتلين.

مع مرور الوقت، توسع دور أبو عمر في قيادة القسام فكُلف بالمسؤولية عن ملفاتٍ مركزية، إذ تولّى مسؤوليات قيادة دائرة الإعداد والتدريب المركزية في غزة، ومهد لإنشاء سلاح دفاع جوي خاص بالقطاع، كما صار مرجعيةً للتخصصات العسكرية الأساسية من المدفعية إلى الهندسة والدروع والقنص.

لعب دورًا محوريًا في لجنة الخطة الدفاعية والمواجهة، وساهم في رسم وصقل الخطط الدفاعية والهجومية عبر جولات القتال المتعاقبة، بدءًا من معارك ما بعد 2008 وحتى المواجهة التي سبقت الحرب، في معركة “سيف القدس” عام 2021، ومرورًا بالتصعيدات التي أعقبتها.
بعد حرب 2014، شهدت مساهماته تطورًا واضحًا حين كلّفته القيادة بركني الاستخبارات والعمليات، ثم عُيّن لاحقًا قائدًا لركن التدريب وعضوًا أساسيًا في المجلس العسكري العام لهيئة الأركان.

من ملامح عمله المؤثرة اعتماد آلية صنع قرار عسكري مهنية ومنهجية، ورفع مستوى الجاهزية الدفاعية والهجومية، والإشراف على تدريب قادة التدريب ورسم أطر تنظيمية للتخصصات المختلفة داخل الكتائب، كما كان له دور فني في تطوير أنواع من الأسلحة المحلية وتحسين فعالية المدفعية والدروع والدفاع الجوي، بما يسهم في تعزيز قدرة القطاع على المواجهة.

كرّس أبو عمر جهده لتدريب المقاتلين وتجهيز الخطط العملياتية، وكان من الذين عملوا على هندسة معركة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفضّل طوال مسيرته العمل تحت أسماءٍ مستعارة كثيرة -من بينها أبو محمود، وأبو عماد، وأبو عمر- ولم يظهر إعلاميًا، محافظًا على غطاءٍ سريٍّ يتناسب وطبيعة عمله.

عُرف عنه تمسّكه بالبقاء في غزة رغم ظروف الحصار والقصف، ورفض مغادرتها مع عائلته، فقد ترددت بين مقربيه عبارته المشهورة: “لا خروج من غزة بعد الدخول إليها مع زوجتي وأطفالي صغارًا إلا إلى الضفة المحتلة محرّرًا أو للفردوس الأعلى محلّقًا”، تعبيرًا عن قناعةٍ شخصية التزمت بها حتى النهاية.

خلال السنوات الأخيرة، كان مسؤولًا عن استخلاص العبر من المعارك وتحديث الخطط الدفاعية بما يتناسب مع متغيرات الساحة، فعمل على دمج الدروس الميدانية مع برامج التدريب لضمان التعلم المستمر داخل البنية القتالية.

عاش مع عائلته أوقات الحصار الشديد والنقص في الحاجات الأساسية، وظل طوال الحملة العسكرية البرية على غزة يقود ملفات الدعم القتالي والتدريب والتطوير الفني. قُدّرت مساهماته بأنها شكلت العمود الفقري للقدرة التنفيذية التي أظهرتها كتائب القسام في مواجهاتها، ووصفه رفاقه وأعداؤه بأنه “الأب الحقيقي للهيكلية” التي جعلت من الكتائب قوةٍ قادرة على تنفيذ مهام معقّدة بطريقة احترافية.

نال الشهادة مساء السبت 28 يونيو/حزيران 2025، مع زوجته وحفيدته في استهدافٍ إسرائيلي طالهم، فاختُتمت مسيرة رجلٍ أمضى عقودًا في التعليم والتدريب وصناعة قدراتٍ قتالية، تاركًا وراءه إرثًا تنظيميًا وتدريبيًا سيظل حاضرًا في بنية الحركات المسلحة التي تستلهم من تجربة غزة.

محمد السنوار: رجل الظل الفولاذي وقائد الهجوم في طوفان الأقصى

محمد إبراهيم حسن السنوار، المكنّى أبو إبراهيم، من مواليد 16 سبتمبر/أيلول 1975 في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة، لعائلة فلسطينية هجّرت من بلدة مجدل عسقلان عام 1948.

نشأ في بيئة متواضعة وتلقى تعليمه في مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وتفتحت وعيه المقاوم في أجواء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، متأثرًا بشقيقه الأكبر يحيى السنوار الذي أصبح لاحقًا قائد حركة حماس في قطاع غزة.

التحق محمد مبكرًا بصفوف الحركة منذ تأسيسها في ديسمبر/كانون الأول 1987، وكان من بين أوائل الشباب الذين انخرطوا في نشاطاتها التنظيمية والميدانية، حيث برزت لديه ملامح القيادة والصلابة الفكرية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

مع بداية عمل كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، التحق بها محمد السنوار ضمن مجموعات الجنوب التي كانت تنشط ضد الاحتلال في مناطق رفح وخان يونس، وسرعان ما أصبح أحد أبرز عناصرها الميدانيين إلى جانب رفيقيه محمد أبو شمالة ورائد العطار.

نفّذ معهم عددًا من العمليات النوعية ضد مواقع الاحتلال، وتميّز بقدرة عالية على التخطيط والتنسيق الميداني. وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، أسهم مع عدد من القادة الميدانيين في إعادة بناء الكتائب التي كانت قد تضررت بفعل حملات الاعتقال والملاحقة بين عامي 1996 و2000، ونجح في تأسيس نواة تنظيمية صلبة شكّلت لاحقًا قاعدة لانطلاقة قوية لكتائب القسام في الجنوب.

تدرّج السنوار في المناصب القيادية داخل الكتائب حتى تولّى قيادة لواء خان يونس عام 2005، ليصبح لاحقًا عضوًا في المجلس العسكري، وهي الهيئة العليا المسؤولة عن إدارة العمل العسكري في القسام.

وخلال سنوات توليه القيادة، طوّر علاقات وثيقة مع القائد العام محمد الضيف ونائبه مروان عيسى، ليصبح أحد أركان القيادة المركزية وصاحب نفوذ واسع في القرارات العملياتية الكبرى. اتهمته إسرائيل مرارًا بأنه “العقل المدبر” للعديد من العمليات الفدائية، خصوصًا تلك التي استخدمت فيها الأنفاق المفخخة لاستهداف المواقع العسكرية الإسرائيلية بين عامي 2000 و2005، إذ اعتمد على تكتيكات الاختراق العميق والمباغتة الدقيقة التي أربكت الجيش الإسرائيلي في أكثر من موقع.

برز اسم محمد السنوار بصورة خاصة في عملية الوهم المتبدد التي نُفذت فجر 25 يونيو/حزيران 2006، عندما تمكنت مجموعة من مقاتلي القسام من التسلل إلى موقعٍ عسكري إسرائيلي قرب معبر كرم أبو سالم عبر نفق أرضي مجهز مسبقًا. أدت العملية إلى مقتل جنديين وإصابة خمسة وأسر الجندي جلعاد شاليط، الذي نُقل بنجاح إلى داخل غزة رغم تدخل الطيران الإسرائيلي الكثيف.

كانت هذه العملية نقلة نوعية في تاريخ العمل الفدائي الفلسطيني، لما اتسمت به من دقة تنظيمية وتعقيد هندسي، وشكّلت نقطة تحولٍ في التفكير العسكري للمقاومة، إذ أثبتت أن العمل تحت الأرض يمكن أن يتحول إلى سلاح استراتيجي يوازي قدرات الجيوش النظامية.
عاش السنوار منذ مطلع الألفية في بيئة أمنية مغلقة وحياة شديدة السرية، بعد نجاته من ست محاولات اغتيال إسرائيلية، جعلته يعيش في نطاقٍ محدود وتحركاتٍ محسوبة، إلى حد أن ملامحه كانت مجهولة لدى معظم سكان القطاع.

طيلة عقدين تقريبًا لم يظهر علنًا إلا في مشهدٍ مصورٍ نادر بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، ثم في مقابلة بثتها قناة الجزيرة ضمن برنامج “ما خفي أعظم” في 27 مايو/أيار 2022، تحدث فيها عن محاولات القسام أثناء معركة سيف القدس عام 2021 أسر جنود إسرائيليين.

ينسب إليه العديد من الخبراء والمسؤولين الأمنيين الإسرائيليين الدور المحوري في إفشال خطة “مترو حماس” عام 2021، التي هدفت إلى استدراج المقاتلين إلى الأنفاق لاستهدافهم بغاراتٍ جوية مكثفة. فقد أصدر أبو إبراهيم قرارًا عملياتيًا بالانتقال إلى الدفاع فوق الأرض بعد أن قرأ بعمق المؤشرات الميدانية ورصد النية الإسرائيلية لاستهداف الأنفاق، ما اعتبره الاحتلال فشلًا استخباريًا كبيرًا.

ومع اقتراب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان محمد السنوار أحد العقول الأربعة التي وضعت الخطط النهائية لعملية طوفان الأقصى، بحسب تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. وقد أشرف على الإعداد للهجوم الميداني الكبير الذي استهدف المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، في عملية وُصفت بأنها الأكثر تعقيدًا وتنظيمًا في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

تولى السنوار قيادة ركن العمليات العسكرية في كتائب القسام، ونسّق بين وحدات النخبة والهندسة والطيران المسير ووحدات المشاة والاتصالات الميدانية، حتى غدت العملية نموذجًا في التكامل العملياتي.

وفي تصريح لرئيس سابق للاستخبارات المضادة في جهاز الموساد قال: “كان محمد دائمًا أكثر أهمية من أخيه يحيى”، بينما نقلت صحيفة التليغراف البريطانية عن مسؤول سابق في مكافحة الإرهاب بالموساد قوله: “إن مجموعةً من أربعة أشخاص تقف وراء عملية طوفان الأقصى، وكان محمد السنوار أحدهم بنسبة 100%”.

في 13 مايو/أيار 2025، شنّت إسرائيل هجومًا جويًا عنيفًا على ما وصفته بأنه “مجمّع قيادة وسيطرة لحماس” في خان يونس مستخدمةً تسع قنابل خارقة للتحصينات، وأعلنت أن العملية استهدفت محمد السنوار.

أيمن نوفل: إرساء عقيدة القتال ما بين الاستخبارات والغرفة المشتركة

أيمن أحمد عبد الله نوفل، المكنّى أبو أحمد، وُلد في 13 مايو/أيار 1974 في قطاع غزة، ويُعد من أبرز القادة الميدانيين والمؤسسين الأوائل في كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس.

عُرف بصفته قائد “لواء الوسطى” وعضو المجلس العسكري العام للكتائب، كما شغل مواقع مفصلية في مسيرة المقاومة، من بينها قيادة ركن الاستخبارات، ثم العلاقات العسكرية، وصولًا إلى رئاسته للتنسيق الميداني في الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، التي جمعت تحت مظلتها مختلف الفصائل الفلسطينية في بنية قتالية واحدة.

منذ شبابه المبكر، انخرط نوفل في صفوف المقاومة، وكان من الرعيل الأول الذي تأثر بالانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. لاحقته أجهزة الأمن الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية على حد سواء، فاعتُقل ثلاث مرات لدى الاحتلال عام 1991، ثم لدى السلطة الفلسطينية عام 1997، ما زاد من صلابته السياسية والعسكرية.

تدرّج أيمن نوفل في المواقع القيادية داخل الكتائب، فشغل قيادة لواء غزة، ثم لواء الوسطى، وبرز اسمه كأحد العقول الاستخبارية التي عملت على تطوير القدرات المعلوماتية والرقابية داخل المقاومة.

تولّى قيادة جهاز الاستخبارات العسكرية لعدة سنوات، وخلال تلك المرحلة حققت كتائب القسام اختراقات نوعية في جمع المعلومات وتحليلها، مما مكّنها من إدارة المعركة مع الاحتلال على أساس علمي ومنهجي.

لاحقًا، انتقل نوفل إلى قيادة ركن العمليات والعلاقات العسكرية، فصار العنوان الأبرز للتنسيق بين الأجنحة المسلحة، وهو الدور الذي سيطبع مسيرته لاحقًا كقائدٍ للغرفة المشتركة.

في عام 2008، اعتُقل نوفل في مصر أثناء محاولة عددٍ من الفلسطينيين اجتياز معبر رفح عقب انهيار الجدار الحدودي، بذريعة حيازة سلاح، واستمر اعتقاله نحو ثلاث سنوات ونصف دون توجيه تهمة رسمية أو السماح لوفود حماس بلقائه. أثار احتجازه أزمة صامتة في العلاقات الفلسطينية-المصرية في تلك الفترة، قبل أن يُفرج عنه ويعود إلى غزة ليستأنف مهامه التنظيمية والعسكرية في صفوف كتائب القسام.

عُرف عن نوفل إيمانه بمبدأ العمل المشترك بين فصائل المقاومة، ورأى أن وحدة الفعل الميداني تشكل درعًا يحمي القضية من الاستفراد ويضاعف من أثر المقاومة، وتحت قيادته تطورت الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة إلى كيانٍ منسّق ومتكامل، استطاع تنظيم سلسلة من المناورات العسكرية الجماعية تحت اسم “الركن الشديد“، والتي كان آخرها وأهمها نسختها الرابعة قبل شهرٍ واحدٍ فقط من اندلاع عملية طوفان الأقصى. في تلك المناورة، تدرب مقاتلو جميع الفصائل على سيناريوهات اقتحامٍ بري فوق الأرض، بنفس النمط التكتيكي الذي نُفذ لاحقًا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

كان نوفل من المقربين جدًا من القائد مروان عيسى، وتربطه علاقات ميدانية متينة بقيادة هيئة الأركان في القسام، حيث ساهم في توسيع منظومة التنسيق الاستخباراتي والعملياتي، ووضع معايير موحدة للتدريب والتخطيط والعمليات الخاصة.

لعب دورًا محوريًا في تطوير المنظومة الصاروخية للمقاومة، وأسهم في التخطيط لعملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006، إلى جانب إسهامه في تصميم عدد من الهجمات النوعية ضد مواقع الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية وما بعدها.

تصفه الأوساط العسكرية في المقاومة بأنه الرجل الذي جمع بين الصرامة والانفتاح التنظيمي، إذ عُرف بانضباطه الميداني الشديد من جهة، وقدرته على خلق أطر تنسيقية جامعة من جهة أخرى. أما في تصنيف الاحتلال، فكان في المرتبة الرابعة على قائمة المطلوبين للاغتيال، واعتُبر أحد “العقول الخطيرة” التي تدمج بين الخبرة الأمنية والتخطيط الاستراتيجي.

في يونيو/حزيران 2023، كشف نوفل في مقابلة نادرة عن رعاية الغرفة المشتركة مشروعًا لدمج أكثر من 40 حالة عسكرية في غزة ضمن عشرة أجنحة موحدة تمثل مختلف الفصائل، في خطوة وُصفت بأنها التمهيد لبنية مقاومة أكثر تكاملًا وتنظيمًا استعدادًا للمرحلة القادمة.

اغتيل أيمن نوفل يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في غارةٍ إسرائيلية استهدفت مخيم البريج وسط قطاع غزة، أثناء معركة طوفان الأقصى، بعد مسيرةٍ امتدت أكثر من ثلاثة عقود في صفوف المقاومة.

شادي بارود: عقل الاستخبارات وقائدها العملياتي

شادي بارود، المكنّى أبو أنس، يُعد أحد أكثر القادة غموضًا في مسيرة كتائب القسام، وأحد أبرز من صاغوا بنيتها الاستخباراتية الحديثة. ندر ظهور اسمه في العلن، لكن بصماته كانت حاضرة في ميادين القتال وفي التخطيط للعمليات الكبرى، حتى أصبح من يُشار إليه باعتباره “العقل الاستخباراتي” الذي أدار أكثر أجهزة القسام سرّية وتعقيدًا.

بدأ شادي مسيرته المهنية أستاذًا لتكنولوجيا الحاسوب في مدارس خانيونس، غير أن وعيه الوطني والتزامه التنظيمي دفعاه إلى ترك الحياة المدنية والانخراط الكامل في العمل المقاوم، إذ استقال من عمله بعد تقدمه في صفوف كتائب القسام، حيث تولّى قيادة كتيبة ميدانية في لواء خانيونس، قبل أن ينتقل إلى مجلس قيادة ركن الاستخبارات العسكرية، ويُكلَّف بمنصب نائب الركن، ثم يصبح المسؤول الفني الفعلي عن قيادة العمل الاستخباراتي للكتائب في قطاع غزة.

تولّى بارود مهمة تطوير منظومة الاستخبارات القسامية على المستويين التقني والميداني، فعمل على تحديث أساليب جمع المعلومات وتحليلها، وإدخال تقنيات حماية المعلومات في بنية التنظيم العسكري.

ولأنه كان من صلب مهمته حماية الأسرار، كان حضوره في الإعلام شبه معدوم، إذ أدرك مبكرًا أن معركته الحقيقية هي في صمتٍ مطبق خلف الشاشات وغرف المتابعة، حيث المعلومة توازي الطلقة، والتقدير الصحيح يغيّر مجرى المعركة.

برز أثره في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ نُسب إليه التخطيط الاستخباري للهجوم بالتنسيق المباشر مع قائد الأركان محمد الضيف، وقائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار.

وقد كان شادي بارود أحد مهندسي “الخداع الاستراتيجي” الذي مكّن القسام من تضليل المنظومة الأمنية الإسرائيلية سياسيًا واستخباراتيًا، وجعلها تفشل في التنبّه إلى نيات الهجوم رغم سنوات المراقبة الدقيقة. كما تولّى إعداد بنك الأهداف ومتابعة خريطة انتشار المواقع العسكرية في غلاف غزة، وهو ما ظهر جليًا في دقة الضربات التي نُفذت خلال الساعات الأولى من العملية.

لم يكن شادي بارود قائدًا ميدانيًا فحسب، بل مهندسًا للوعي الاستخباري داخل الكتائب، إذ صاغ قواعد العمل الأمني الداخلي، وأشرف على تطوير العلاقات الاستخبارية ووسائل الاتصال المحمية، وقد لحظ الاحتلال حجم التطور في أداء جهاز الاستخبارات، فجعله هدفًا دائمًا للملاحقة، وركّز على تصفية كوادره، لا سيما في عدوان 2021 الذي شهد اغتيال عدد من ضباط الجهاز.

وفي محاولةٍ للانتقام منه، استهدف الاحتلال الإسرائيلي عائلته قبل اغتياله، فاستشهد جميع أفرادها في غارتين متتاليتين، قبل أن يُستهدف هو بعد أيام في مدينة خانيونس، ورغم كل ما طاله من قصفٍ ومطاردة، ظلّ اسمه محاطًا بهالةٍ من الغموض حتى استشهاده، تمامًا كما عاش.

أيمن صيام: المايسترو الصاروخي ورائد مظلة النيران

أيمن حسين خليل صيام المعروف بـ”أبو العز” وُلد في مخيم جباليا في 18 أغسطس/آب 1974 لعائلةٍ تعود جذورها إلى يبنا المحتلة عام 1948، وبدأ حياته في الملاعب المحلية فرياضيًا مع نادي الجمعية الإسلامية بين 1994 و2001، ورافقه عشقٌ مبكّر للعمل الجماعي والانضباط الذي ميّز مساره لاحقًا في الحياة العسكرية.

تحوّل أيمن من لاعب محبوب في أوساط الشباب إلى مهندسٍ فني للعمل الصاروخي داخل كتائب عز الدين القسام، فكانت خبراته المصقولة في التنظيم والالتزام بوصفها أرضية لصياغة مشروع صاروخيّ جعل من سماء غزة فضاءً متغيرًا يفرض حساباته على العدو.

كان لأيمن صيام دورٌ مركزي في تطوير سلاح المدفعية لدى الكتائب، وتحويله من مجموعات إطلاق متناثرة إلى منظومة متكاملة تغطي جغرافيا القطاع بأكمله، من الشمال إلى الجنوب، منظومةٌ تتولى تربيض الصواريخ، وتجهيز جداول الضرب، ورسم الإحداثيات لبنك أهداف دقيق يضمن تزامن إطلاق الرشقات وتوزيعها بما يخدم الأهداف العملياتية.

وقد تجلّت نتائج هذا البناء تدريجيًا في كل جولة قتال، من أول قصف صاروخي لتل أبيب من قطاع غزة عام 2012، إلى نجاحات 2014 التي وصلت إلى قصف موسع لقلب المدن المحتلة إلى مفاجآت 2021 في سيف القدس، وصولًا إلى الضربة الافتتاحية لطوفان الأقصى التي شهدت إطلاقًا جماعيًا لطائرات بشرية وصاروخية بلغ فيها عدد الصواريخ الموجهة في الدفعة الأولى أرقامًا تاريخية وصلت إلى 5000 صاروخ.

نجح أبو العز في الجمع بين البُعد الفني والهندسي للعمل الصاروخي وبين البُعد التكتيكي والعملي، إذ أراد من صواريخه أكثر من تدمير مادي؛ لتكون “مظلّة نار” تُثبت مواقف المقاتلين وتُغطي تحركات الاقتحام، وأن تشلّ القدرة الجوية والردّ السريع للاحتلال، فتتحوّل لحظة الانقضاض البري إلى فرصة نجاحٍ حقيقية.

وقد أثبتت الصواريخ قدرتها على إجبار الجنود الإسرائيليين على التراجع إلى الملاجئ، وتعطيل الاستجابة الفورية لسلاح الجو، ما منح وحدات الاقتحام هامش مباغتة حاسمًا.

لم تكن رؤية أيمن تقنية بحتة، بل كانت رؤية تدمج صناعة الذخائر المحلية، وتطوير قواعد التصنيع والتخزين، وتعميم بروتوكولات دقيقة لتوقيت الإطلاق وتوزيع الأهداف، فضمن بذلك دقةً ميدانية أثارت القلق لدى الأجهزة المعادية. وصارت مسألة بناء “بنك أهداف” محكمة وسرية من أهم نشاطاته، إذ كانت الخرائط والبيانات الدقيقة التي وُجدت لاحقًا في مرابض الإطلاق أو ظهرت في التوثيقات المصورة، دليلاً على عمق العمل المعلوماتي الذي رافق العمل الصاروخي.

استشهد أيمن صيام يوم الخميس 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، برفقة ثلاثة من قيادات كتائب القسام في شمال قطاع غزة، فاختُتمت مسيرة رجلٍ أنّ مشروعه الذي أمضى نحبه في بنائه لم يكن مجرّد رصد وإطلاق، بل كان إعادة تشكيل لمنطق الاشتباك نفسه، الذي حول الصواريخ محلية الصنع من إطلاقٍ عشوائي إلى منظومةٍ مدروسة تُحاكي نسق الحروب الحديثة، وتضع هدف حماية المقاومين وتثبيت الخطط الهجومية كأولوية استراتيجية.

إرث الأبطال الذين صنعوا المعجزة

في ختام هذا التقرير، تظل الحقيقة البسيطة والمحورية، أن كثيرون ممن وردت أسماؤهم هنا، وكثيرون لم تذكرهم السطور، تركوا بصماتٍ سيبقى أثرها حاضرًا في صفحات التاريخ. هؤلاء لم يكونوا شخصيات عامة تبحث عن الشهرة، بل رجال ظلٍّ عملوا في ظلال الكتائب وجعلوا من السرية منهجًا ومن الصبر تكتيكًا، فكانت أفعالهم التي هزّت أركان دولة الاحتلال وحطّمت بعضًا من أسطورة الجيش الذي بدا لا يقهر.

عمل العشرات داخل دوائر ضيقة ومغلقة تحت قيادة قائد أركان المقاومة محمد الضيف، تحملوا أعباء المسؤولية في لحظات القرار، وبنوا شبكات استخبارية ولوجستية وتدريبية مكنت المقاومة من تحويل تراكم سنوات من الجهد إلى فعلٍ ميداني حاسم. كانوا ندًا حقيقيًا للاحتلال في ميادين المواجهة؛ لم يبرحوا ساحات القتال إلا حين ارتقوا إلى علياء المجد، تاركين وراءهم إرثًا تنظيميًا وتقنيًا وسياسيًا سيظل مفصلاً في سردية الصراع.

هذا التقرير لا يدّعي حصر الحقائق أو إجماع الرواية، لكنه يحاول أن يضيء على بعض وجوه ذلك البناء السريّ، وعلى نماذجٍ من رجالٍ شكلوا العمود الفقري لعملٍ لم يُكشف كله بعد.

وبعيدًا عن الأسماء والعناوين، تبقى الرسالة الواضحة أن القدرة على صناعة الفعل المقاوم الحديث تتطلب تلاقي العقل والسرية والتنظيم، وأن أثر من صنعوا هذا الفعل سيبقى محفورًا في ذاكرة التاريخ، سواء نُسِبت أسماؤهم أو ظلت مكتومة خلف جدار الزمن.