اللامركزية السورية.. مشروع وطني أم حصان طروادة للتقسيم؟

بعيد سقوط نظام الأسد، ومع التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا عقب سقوطه، أصبح موضوع بنية الحكم المستقبلي محل نقاش واسع ضمن الأوساط السياسية والاجتماعية. فقد أفرزت التطورات الميدانية وتعدد مراكز النفوذ في البلاد إشكاليات جديدة أمام قدرة الحكومة الحالية على بسط سلطتها، مما أعاد طرح أسئلة أساسية حول طبيعة النظام الإداري الأمثل للمشهد السوري القادم. برزت في هذا السياق تساؤلات حول مدى ملاءمة النموذج المركزي مقابل اللامركزي، والآليات التي قد تضمن تحقيق الاستقرار السياسي والإداري ضمن إطار يحترم التعددية الجغرافية والاجتماعية للبلاد.

أشكال الحكم في سوريا بعد سقوط نظام الأسد

الإجابة على سؤال أهمية أشكال الحكم في سوريا بعد سقوط النظام تختلف بحسب الخيارات المطروحة بين النظام المركزي، والفيدرالي، واللامركزي، ولكل نظام حججه ومزاياه وتحدياته في السياق السوري المعقد والذي أصبح إرثًا صعبًا ومهترئًا من نظام سابق شمولي استبدادي، ترك آثاره السلبية على المجتمع، وبالتالي تسبب بانقسامات مجتمعية تهدد شكل الحكم ما لم يصل إلى توافق مجتمعي عام، والتي تتراوح بين نظام مركزي وآخر لامركزي إداري أو حتى سياسي، كما تطالب قوى محلية كشرط مسبق لانضمامها للحكومة السورية.

النظام المركزي وأهميته

أهمية النظام المركزي تأتي من أنه يحقق سيطرة أقوى للدولة ويحافظ على وحدة الأراضي والمؤسسات، خصوصًا في مراحل الانتقال السياسي وأوقات الأزمات. ويسهّل إدارة قطاعات الأمن والسياسة الخارجية والدفاع الوطني من مركز واحد، ويقي من خطر تفكك الدولة أو انقسام السلطة. كما يضمن توزيعًا متوازنًا للثروات الوطنية، ولكنه لا يخلو من المساوئ، فقد يعاني من البيروقراطية والبطء في الاستجابة للاحتياجات المحلية.

النظام الفيدرالي

أهمية النظام الفيدرالي تأتي من أنه يقدم فرصة للأقاليم المتنوعة في سوريا لإدارة شؤونها المحلية، مع حفاظ الدولة المركزية على الركائز الكبرى كالسيادة والدفاع والسياسة الخارجية. لكنه، وبحكم التخوف من التقسيم، لا يحظى بكثير من الدعم في المجتمع السوري. يُفترض أن النموذج الفيدرالي قد يساعد في معالجة قضايا التعددية العرقية والدينية، ويوفر إطارًا لتقاسم السلطة والثروة، مما يعزز الاستقرار إذا توفرت المؤسسات المستقلة والتوافق المجتمعي. مع ذلك، تتحفظ أطراف كثيرة على الفيدرالية خوفًا من أن تصبح مقدمة لتقسيم البلاد وتصعيد النزاعات الطائفية أو العرقية.

النظام اللامركزي

تأتي أهمية النظام اللامركزي (اللامركزية الإدارية أو الموسعة) بأنها تُعد مقاربة وسطية تعطي صلاحيات أوسع للإدارات المحلية والمجالس المنتخبة، مع بقاء السلطة السيادية والقرارات الكبرى بيد الدولة الوطنية. تعزز اللامركزية من المشاركة السياسية لجميع المكونات المجتمعية، وتسهم في الاستجابة السريعة للاحتياجات المحلية، كما تشجع الشعور بالانتماء وتجعل التنمية أكثر عدلًا وواقعية. نجاح أي نظام لامركزي مشروط بوجود مؤسسات مركزية قوية ديمقراطية تحمي السيادة والوحدة الوطنية.

الرئيس السوري أحمد الشرع تحدث مؤخرًا عن موضوع اللامركزية الإدارية في تصريحات رسمية وخطابات تلفزيونية وصحفية عدة. حيث أكد في عدة مناسبات أن مشروع اللامركزية سيُعتمد كشكل من أشكال الحكم الذي يتيح للمحافظات السورية إدارة شؤونها التنموية والمالية بصورة أوسع، لكن مع إبقاء الأجهزة السيادية والأمنية تحت إدارة مركزية مقرها دمشق. هذا الاتجاه يهدف لإشراك جميع السوريين، وتعزيز بناء المستشفيات والمدارس والخدمات، وتحفيز التنمية المحلية، مع استمرار رقابة الدولة المركزية على الأمن والجيش.

كما أكد الرئيس الشرع في لقاء تلفزيوني أن القوانين الحالية تتيح بالفعل تطبيق بعض جوانب اللامركزية (مثل القانون 107)، إلا أن رؤيته هي تطوير هذه الصيغة ضمن النظام الجديد بما يحترم وحدة البلاد ويرفض مشاريع الفيدرالية أو الانفصال.

كما أوضح أن اتفاقاته (اتفاق ١٠ آذار مع مظلوم عبدي) مع الإدارة الذاتية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) نصت على حل توافقي لدمج المؤسسات المحلية ضمن إطار الدولة السورية والحفاظ على وحدة سوريا الترابية. في ذات الوقت، ردت الإدارة الذاتية وأكدت تمسكها باللامركزية كشكل ديمقراطي غير انفصالي، مطالبة بتنفيذ عملي وفعلي للخطط على الأرض وليس الاكتفاء بالإعلانات، وبالتالي فإن خطاب الحكومة السورية حول اللامركزية يركز على منح صلاحيات أوسع للإدارات المحلية من غير المساس بوحدة الدولة أو توسيع الفيدرالية، مع السعي لمصالحة وطنية وشراكة في صياغة مستقبل الحكم المحلي في سوريا.

من جهته، أكد الباحث السياسي ماجد عبد النور حول تصريحات قسد ومفهومها للامركزية أن مصطلح “اللامركزية الإدارية” أصبح يتردد بكثرة في الآونة الأخيرة، مشيرًا إلى أنه من أفضل الأنظمة الإدارية عالميًا لما يتميز به من مزايا، أبرزها تشجيع التنافس بين الوحدات الإدارية، وتخفيف الضغط عن المركز، والحد من الروتين والبيروقراطية، إضافة إلى تعزيز المشاركة المجتمعية في صنع القرار.

وأوضح عبد النور أن لهذا النظام شروطًا أساسية، منها: ألا يُفرض من قبل تنظيم مسلح يمتلك مرجعية سياسية وأمنية وعسكرية مستقلة عن المركز في جزء من البلاد، وألا يقوم على أسس عرقية أو دينية أو طائفية، وأن يكون المركز هو الجهة المانحة للصلاحيات والمشرفة على عمل الوحدات الإدارية لضمان النزاهة والشفافية. وانطلاقًا من ذلك، تساءل عبد النور في السياق السوري: هل تدرك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حقيقة مفهوم اللامركزية الإدارية، أم أنها تستخدمه لتمرير فكرة اللامركزية السياسية؟ وهل ستسمح للمجتمعات المحلية بممارسة دورها الحقيقي ضمن هذا النظام؟ وهل هي مستعدة لحل أجهزتها العسكرية والسياسية العاملة بمعزل عن المركز لتحقيق اللامركزية الإدارية المنشودة، أم أن طرحها يهدف إلى الوصول إلى شكل من أشكال الحكم الذاتي واللامركزية السياسية؟

لا عودة للنظام المركزي الشديد

حسب الدكتور في القانون الدولي محمود درويش، فإنه واهم من يظنّ أنّ سوريا يمكن أن تُدار مجددًا بذات النظام المركزي الصارم الذي كان سائدًا قبل 8 ديسمبر، وكأنّ التاريخ لم يتحرّك، وكأنّ الأزمات التي عصفت بالبلاد لم تُحدث صدوعًا عميقة في بنية الدولة والمجتمع. إنّ التشبث بالمركزية المفرطة لم يعد مجرّد خلل إداري، بل أصبح عائقًا يحول دون إعادة البناء، ويهدد وحدة الوطن، ويُضعف ثقة المواطن بمؤسساته.

إنّ الحفاظ على وحدة البلاد اليوم لا يتحقق بالشعارات ولا بالعودة إلى أنماط حكم تقادمت، بل بترسيخ نظام لامركزي إداري رشيد يُقرّ بخصوصيات الأقاليم، ويمنحها القدرة على إدارة شؤونها في إطار دولة موحدة قوية. فاللامركزية ليست تقسيمًا، بل هي ضمانة حقيقية للتكامل، إذ تُقرّب القرار من المواطن، وتُحقق عدالة في توزيع الموارد، وتُسرّع عجلة التنمية المستدامة. ولذلك فإنّ تطبيقها في كامل التراب السوري ليس خيارًا تجميليًا أو مطلبًا نخبوياً، بل أصبح ضرورة وطنية.

غير أنّ جوهر المسألة يكمن في كيفية التطبيق: فإرساء اللامركزية بالتساوي بين أبناء الوطن وبمشاركة جميع القوى الوطنية، أجدر وأكرم من أن تُطرح كإملاء خارجي أو تُقدَّم كتنازل للأجنبي. فاللامركزية حين تنبع من الإرادة الوطنية تتحوّل إلى ركيزة للوحدة والتنمية، أما حين تُفرض من الخارج، فإنها لا تُفضي إلا إلى مزيد من التصدع والانقسام. إنّ مستقبل سوريا يتوقف على قدرتها على قراءة دروس الماضي، وتجاوز أخطائه، وبناء نموذج إداري حديث يوازن بين سلطة الدولة المركزية في رسم السياسات الكبرى، وحق الأقاليم في إدارة شؤونها اليومية بما ينسجم مع حاجاتها وتطلعاتها. وهنا تكمن المعادلة الصعبة التي لا بد من تحقيقها: لامركزية إدارية تُعزز الوحدة، لا تُهددها، وتُطلق التنمية، لا تُعطلها.

اللامركزية الإدارية حلًا للوضع السوري

الدكتور زيدون الزعبي، الخبير في الإدارة والحوكمة، يؤكد أن اللامركزية هي جزء أساسي من الحل السياسي في سوريا، وهي ليست مُهددة لوحدة البلاد أو بداية انفصال، وإنما تعني توزيع سلطات الإدارة بحيث تدير المناطق المحلية شؤونها لأنها أدرى بها، مثلما يحدث في دول كبيرة وصغيرة ديمقراطية متعددة مثل الولايات المتحدة والهند وسويسرا وألمانيا وغيرها.

الخوف من اللامركزية مبني على تخوفات من الانفصال، وهذا غير دقيق. فاللامركزية تمنح المناطق المحلية الحق في اتخاذ قرارات تخصها مثل الصحة والخدمات، دون انتظار القرارات من السلطة المركزية في دمشق، وبالتالي تسهيل الإدارة وتحقيق مشاركة أوسع وأفضل في الحكم المحلي.

يضيف الدكتور زيدون أن اللامركزية لا تتعارض مع الهوية الوطنية، بل يمكن للمواطن أن يحتفظ بهويته المحلية والفخر بمنطقته مثل درعا وحوران، وفي الوقت نفسه الالتزام بالوحدة الوطنية والدفاع عن الوطن. ويضيف الدكتور الزعبي أن تطبيق اللامركزية يتطلب إرادة سياسية، ويوضح أن هناك قانونًا أصدره النظام السوري (القانون 107) ينص على اللامركزية، لكنه معيب في بعض بنوده ويتطلب تطبيقًا بروح القانون وليس نصه الحرفي ليكون نصرًا للمناطق التي تطبقه.

وبحسب الزعبي، فإن سوريا مقسمة عمليًا الآن إلى عدة مناطق حوكمة محلية تختلف في الشكل الأمني والإداري، مما يجعل اللامركزية ضرورة لمواجهة التفتيت والتشرذم، ويرى أن الحل سيأخذ سنوات طويلة مع ضرورة العمل الجماعي لتوحيد البلاد.

كما يميز الزعبي بين اللامركزية والفيدرالية، ويؤكد أن اللامركزية ليست فخًا للتقسيم، لكنها آلية للتشاركية السياسية والفعالية في الحكم. وبالتالي، فإن اللامركزية هي مدخل حقيقي ومهم لتحقيق الاستقرار في سوريا، مقابل التمركز السلطوي الذي مارسه نظام الأسد، وهي آلية تقبل تفاصيل الهوية المحلية دون المساس بالوحدة الوطنية.

كيف ينجح أي نظام في حماية مكتسباته؟

إن العوامل المؤثرة في اختيار النظام، يتوقف نجاح أي نظام حكم (مركزي أو فيدرالي أو لامركزي) على الإرادة السياسية السورية، وآلية التعامل مع ملف الميليشيات، وقدرة المؤسسات على الإصلاح، ومدى قبول المجتمع لتقاسم السلطة. أي تحول يجب أن يراعي وحدة سوريا الجغرافية والأمن القومي وتماسك التنوع الاجتماعي والديني، مع ضرورة إطار دستوري مرن يضمن مشاركة الجميع في إعادة الإعمار وصنع القرار. بالتالي، حسم شكل الحكم الأمثل بعد سقوط النظام يتطلب توافق السوريين واستيعاب الدروس من تجارب نظام الحكم السابقة وخصوصية النسيج المجتمعي السوري.