كيف أعادت القاهرة تموضعها في ملف غزة؟

منذ أكتوبر 2023، وجدت القاهرة نفسها في موقع بالغ التعقيد والهشاشة؛ فالحرب على غزة لم تكن مجرد أزمة سياسية عابرة، بل كانت قضية وجودية وإنسانية تتشابك فيها الأبعاد الأمنية والقومية مع ثقل الجوار والتاريخ. وعلى مدار عامين كاملين، ظل الموقف المصري متأرجحاً بين حسابات قومية قاسية خوفاً من سيناريو التهجير القسري إلى سيناء، وبين الواجب الأخلاقي والإنساني تجاه الشعب الفلسطيني، ودفع هذا التداخل المعقد القاهرة بعيداً عن مركز المعادلة الإنسانية، وحوّلها في نظر البعض من حليف مفترض إلى هدف لسهام النقد والخذلان.
وبشكل يبدو مفاجئاً، وعكس عقارب الساعة السياسية، برز الدور المصري بقوة- إلى جانب قطر وتركيا- ليكون الحلقة الأساسية في إبرام اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار، إذ قادت القاهرة مفاوضات مكثفة لتقريب وجهات النظر بين حركة المقاومة (حماس) والحكومة الإسرائيلية، مدفوعة بضرورة إيقاف حرب الإبادة التي استمرت على مرأى ومسمع من أقرب الجيران.
هذا التحول الدراماتيكي في الظرفية جعل من مصر لاعباً مؤثراً في اللحظة الحاسمة، خاصة في سياق مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو ما أحدث انقساماً حاداً في تقييم الموقف العام، حيث يرى الإعلام الرسمي وبعض المؤيدين أن الاتفاق يمثل انتصاراً للدبلوماسية المصرية ونظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وشهادة براءة من اتهامات التواطؤ والتقصير التي وُجّهت للدولة المصرية على مدار العامين، وصل الأمر ببعضهم إلى حد المطالبة بترشيح السيسي لجائزة نوبل للسلام.
وعلى الجانب الأخر، يقلل المنتقدون من هذا الاحتفاء، معتبرين أنه مبالغة غير موضوعية تختصر تاريخاً طويلاً من الأزمة في “لحظة حرجة” مدفوعة بتطورات ظرفية، ولا يُعفي مصر من مسؤولية الخذلان العام الذي تعرض له الغزيون.
من تلك القاعدة، أصبح تقييم الدور المصري مسألة جدلية وقضية معقدة، لا يمكن اختزالها في ثنائية الشيطنة والتقديس، التربص والمكايدة، إذ تحتاج إلى تفكيك هادئ لطلاسم المشهد، بدقة وروية، لقراءته بموضوعية وحرفية، لاستشراف ما يمكن أن يكون عليه مستقبل هذا الدور الذي يحتاج إلى فترة اختبار ليست بالقصيرة.
مأزق القاهرة ومثلث خطوطها الحمراء
اختزال التعاطي المصري مع عملية طوفان الأقصى وما تبعها من حرب إبادة شاملة ضد قطاع غزة على أنه حلقة في سلسلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفقط، تعاطيًا يفتقد للموضوعية، إذ مثّلت العملية والحرب معًا زلزالاً جيوسياسياً قوّض الثوابت الأمنية وأعاد تعريف مفهوم الأمن القومي المصري بصورة لم يعرفها منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
ومن أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2025، وجدت القاهرة نفسها في أخطر مأزق سياسي وأمني واقتصادي منذ عقود طويلة، زحزحها عن مقاربة الحياد التي حاولت التشبث بتلابيبه منذ اليوم الأول لحرب، لتجد نفسها في قلب المشهد، عالقة بين خطوط حمراء ثلاثة شكلت مفترق طرق وجودي بالنسبة لها.
أولها: حماية السيادة القومية، وقد تمثل هذا في الرفض المطلق والقاطع لسيناريو التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء، حيث اعتبرت مصر هذا التهديد “خطاً أحمر” لا يمكن تجاوزه، إذ يمس سيادتها ويُهدد بتصفية القضية الفلسطينية على أراضيها.
ثانيها: البعد الإنساني والوسيط المحوري، فرغم التعقيدات، كان على مصر أن تحافظ على دورها التاريخي كـشريان حياة إنساني لا غنى عنه لغزة، والوسيط الإقليمي الوحيد القادر على التواصل مع جميع الأطراف، بما في ذلك حركة المقاومة الفلسطينية.
ثالثها: تثبيت أركان السلام، ففي ظل التصعيد المشتعل على الحدود، واجهت القاهرة تحدي الحفاظ على استقرار معاهدة السلام مع إسرائيل التي اهتزت أركانها بشكل غير مسبوق، خوفاً من جر المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة.
تلك الأولويات الوجودية الثلاثة، جعلت موقف مصر يبدو مركباً وصعباً، إذ بات عليها التوازن بين هذا المثلث، وتلك مسألة تعلم القاهرة أنها غاية في الصعوبة والإرهاق، وتخضع لحسابات ومقاربات مختلفة، قد تطيح بها فجأة من محطة الوسيط والحليف إلى المتواطئ، ومن الحياد إلى طرف أصيل في تلك الحرب.
بين الصمت والتردد.. هاجس الأمن القومي
في الأيام الأولى لاندلاع الحرب على غزة، اتسم الموقف المصري بالتأرجح بين الصمت والتردد، حيث التزمت القاهرة بمقاربة سياسية أقرب إلى الحياد الحذر منها إلى الاضطلاع بالمسؤولية التاريخية المفترضة، واقتصر رد الفعل الرسمي على بيانات لا تتجاوز حاجز الشجب والإدانة والاستنكار، محذرةً من مخاطر التصعيد ومطالبة بضبط النفس.
بعد مرور نحو عشرة أيام على بدء المواجهات، بدأت القاهرة تكشف بوضوح عن هيمنة المقاربة الأمنية القومية على موقفها العام، تحوّل جوهر الثوابت الاستراتيجية المصرية من مجرد التنديد إلى حماية الحدود المصرية ومنع أي محاولة لتهجير سكان غزة قسراً إلى سيناء.
في نظر القاهرة، لم يعد هذا الموقف مسألة تضامن إنساني وحسب، بل أصبح قضية وجودية وخطاً أحمر لا يمكن تجاوزه تحت أي ضغط سياسي أو إنساني، وهنا اعتبرت مصر أن فرض تغيير ديموغرافي أو جغرافي عليها، عبر دفع الفلسطينيين إلى سيناء تحت ضغط الحرب أو الحلول المؤقتة، هو تهديد مباشر لأمنها القومي وسيادتها واستقرارها الداخلي.
إلى جانب البعد الأمني المباشر، دفع تخوّف الدولة المصرية من التغول الإسرائيلي المتصاعد إلى مزيد من الانخراط والمرونة في التعاطي مع الأزمة، إذ رأت القاهرة في هذا المسار الإسرائيلي محاولة لـتصفية القضية الفلسطينية وجودياً من جذورها، هذا بخلاف القلق الواضح من تنامي النفوذ الإسرائيلي في المنطقة على حساب دول الإقليم، الأمر الذي يهدد معادلة توازن القوى.
هذا التخوف، المقترن بالضرورة الأمنية لمنع التهجير، دفع الموقف المصري للخروج من دائرة “الشجب الخجول” إلى “الانخراط النسبي”، ليصبح مدعوماً بحسابات استراتيجية واضحة تهدف إلى إدارة الأزمة على الحدود، ومنع امتداد تداعياتها إلى الداخل المصري، وفي الوقت ذاته، محاولة الحفاظ على مسار سياسي يمنع الإجهاز التام على فرص قيام الدولة الفلسطينية.
ورغم تزحزح الموقف المصري عن دائرة الحياد والانخراط سياسيًا في المشهد إلا أن ذلك لم يوقف مسارات التعاون الاقتصادي بين القاهرة وتل أبيب، وهو ما تكشفه البيانات الصادرة عن دائرة الإحصاء الإسرائيلية حيث شهد التبادل التجاري بين مصر- إلى جانب الأردن والإمارات والمغرب والبحرين- تناميًا مضاعفًا منذ بداية الحرب مقارنة بما كان عليه قبلها.
المقاومة تبعثر كافة الأوراق
لم يعد سراً أن صمود حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية خلال حرب الإبادة الأخيرة قد شكّل “غصة” عميقة في حلوق العديد من العواصم العربية المؤثرة، على رأسها القاهرة وأبو ظبي والرياض، هذه العواصم كانت تمني النفس بأن تكون الحرب فرصة سانحة لـاقتلاع المقاومة نهائياً، لتخليصها من الصداع الأيديولوجي الذي طالما مثّلته في البنية الأمنية والسياسية لأنظمتها الحاكمة.
عكست المقاربة السياسية والإعلامية الرسمية في مصر وبعض دول الخليج هذه الرغبة المكبوتة والمعلنة في الإطاحة بالمقاومة، فمنذ اللحظة الأولى، تبنّى الخطاب الرسمي لغة الشيطنة والتشويه تجاه فصائل المقاومة، والذي ظهر جلياً على لسان القيادة المصرية، التي أشارت إلى إمكانية تهجير الغزيين إلى صحراء النقب كحل ضمني للتخلص من المقاومة، في مقاربة أعطت الأولوية للاعتبارات الأمنية البحتة على حساب الحقوق الفلسطينية.
كذلك عبر المنصات الإعلامية المملوكة لتلك الدول، التي تبنت في أحيان كثيرة السردية الإسرائيلية حول مجريات الحرب وتفاصيلها، في محاولة لنزع الشرعية عن المقاومة أمام الرأي العام العربي.
لكن أمام هذه الرغبات العابرة للحدود، كان للمقاومة رأي آخر قاطع، فقد أدت قدرة الفصائل على الصمود الأسطوري والمواجهة الفعالة لقرابة عامين كاملين إلى قلب الطاولة وإرباك كافة الحسابات، وأجهض هذا الصمود الميداني حلم الأنظمة العربية بالقضاء النهائي على المقاومة.
فبدلاً من أن تتحول الحرب إلى لحظة تطهير أيديولوجي لصالح تلك الأنظمة، تحولت إلى دليل على جذور المقاومة العميقة وقدرتها على الثبات في وجه آلة الحرب المدمرة، وقد دفع فشل الهدف الإسرائيلي/العربي غير المعلن، تلك العواصم إلى إعادة النظر في مقارباتها واستراتيجياتها، والقبول بالتعامل مع المقاومة كـواقع لا يمكن تجاهله أو إزالته بالقوة، مما مهد الطريق في النهاية للبحث عن تسوية، ولو كانت مؤقتة، للخروج من هذا المأزق.
المستجدات تفرض نفسها
بعد مرور عامين على الحرب المدمرة، شهدت المقاربة المصرية في التعامل مع الملف الفلسطيني تحولاً جذرياً، فقد تحولت غزة إلى ما يشبه “رمانة الميزان” التي تختبر الثقل المصري الإقليمي، خاصة بعد فترة طويلة تعرض فيها موقف القاهرة لـتشويه وانتقادات حادة.
وأدت مجموعة من التطورات التي فرضت نفسها بقوة إلى دفع القاهرة نحو إعادة نظر مرحلية في إدارتها لهذا الملف المعقد، إذ كانت الظرفية التاريخية والمستجدات على الساحة الغزية هي المحرك الأساسي لهذا التغير، فقد وصلت الأطراف المتصارعة إلى “نقطة التوقف” الحرجة، حيث شعر الجميع بضرورة إنهاء الحرب التي بدت وكأنها حلقة مفرغة، تهدد بابتلاع المزيد من المصالح والحسابات الإقليمية.
ثم جاءت خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا التوقيت لتكون محاولة للبحث عن مخرج مقبول وآمن للجميع، هذا التحرك لم يكن عشوائياً، بل جاء نتيجة اليقين بفشل إسرائيل في تحقيق الأهداف المعلنة لحربها، والتأكد من استمرار صمود المقاومة إلى حد لم يعد الاحتلال قادراً على تحمل أعبائه العسكرية والبشرية والاقتصادية.
ويمكن القول إن أهم ما دعم التحول المصري هو الغطاء السياسي الكافي الذي توفر لهذه الخطة، فالدعم الإقليمي (العربي والإسلامي) والدولي، والانخراط المفاجئ لـلاعبين جدد في مسار المفاوضات، وفّر المناخ الملائم لدفع الأطراف نحو التوافق.
اقتنع الجميع في النهاية بأن الحرب لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، خاصة بعدما فقدت بوصلتها وأهدافها الاستراتيجية المعلنة، هذا الإدراك المشترك بأن لا غالب ولا مغلوب بشكل حاسم هو ما أعاد القاهرة إلى مركز الوساطة، مانحاً إياها فرصة لاسترداد دورها المحوري الذي تعرض للتشويه خلال العامين الماضيين.
مقاربات القاهرة الجديدة
أدخلت الدولة المصرية بعض التغيرات في خارطة مقارباتها إزاء الحرب في غزة، مدفوعة بالتطورات الميدانية والإقليمية سالفة الذكر، حيث تركزت على أربعة مقاربات أساسية، كانت المحرك والدافع للانخراط المصري في المشهد، متخلية عن مقاربة الحياد السلبي التي تبنتها منذ بداية المواجهات.
أولا: المقاربة الأمنية
تعرضت المقاربة الأمنية المصرية إزاء الوضع في غزة لتغيرات جذرية، خاصة بعدما خرق جيش الاحتلال الملحق الأمني الخاص باتفاقية السلام الموقعة بين البلدين بعد احتلال محور فيلادلفيا والانتهاكات التي مارسها جنوده على الشريط الحدودي لمعبر رفح، وتأكيد القيادة الإسرائيلية على البقاء في تلك المنطقة التي يفترض أنها منزوعة السلاح.
هنا استشعر الجانب المصري القلق، إذ بات في مرمى المواجهة المباشرة مع الاحتلال، الأمر الذي يضع الأمن القومي المصري في خطر لابد من تداركه والتصدي له سريعًا، إذ تجاوزت المسألة الخلاف الأيديولوجي مع حماس والمقاومة إلى ماهو أبعد وأهم من ذلك.
وعليه كان لابد من تأييد بعض المطالب التي رفعتها حماس كرفض تسليم السلاح ورفض تسليم القطاع لسلطة أجنبية، ولم يكن هذا الموقف من قبيل دعم حماس قدر ماهو إنقاذ للموقف وإبقاء القضية الفلسطينية على طاولة الاهتمام، وهو ما وضع القاهرة مجددًا في مرمى الانتقادات.
في الكواليس الإقليمية، تسبب الدور المصري في مفاوضات غزة بـغضب مكتوم لدى عواصم عربية كانت ترى أن القاهرة أفسدت “الفرصة التاريخية” للقضاء على حماس، كان الهدف غير المعلن هو إنهاء الحرب بإعلان أمريكي-إسرائيلي مشترك: لا مقاومة بعد اليوم.
لكن القاهرة نظرت إلى ما وراء اللحظة، فوفق مقاربة أمنية بحتة، رأت أن السقوط الكامل لحماس سيطلق فوضى أمنية على حدودها، ويفتح غزة إما لميليشيات عشوائية أو لوصاية إسرائيلية كاملة. لذلك اختارت أن تنقذ التوازن الاستراتيجي بدلاً من الانجرار خلف شهية الانتقام الإقليمية.
تجلّى هذا الحسم عندما وصلت المفاوضات إلى بند السلاح، ففي مواجهة إصرار إسرائيل على “نزع السلاح” (الذي يعني الاستسلام التام)، قدمت القاهرة بديلاً ذكياً: “تجميد السلاح”، هذا التعبير لم يكن مجرد مناورة لغوية؛ فبينما كان النزع يعني تجريد حماس من شرعيتها، أبقى “التجميد” على ملكية السلاح تحت السيطرة، محافظاً على رمزية القوة للمقاومة.
ثانيًا: المقاربة السياسية
بعد فترة شهدت تراجعاً في ثقلها الإقليمي، خاصة في ظل هيمنة المقاربة السعودية-الإماراتية على المشهد العربي، سعت مصر إلى استخدام بوابة غزة كفرصة حاسمة لاستعادة مكانتها المحورية، لقد أصبحت الوساطة في حرب الإبادة الأخيرة اختباراً لموقع القاهرة التقليدي كـ”صانعة السلام” والضامن للاستقرار في المنطقة.
كان الهدف الاستراتيجي المصري من وراء دفع اتفاق شرم الشيخ واضحاً، ترميم صورتها المتضررة وتأكيد ريادتها، حيث يرى المحللون في القاهرة أن إنجاز اتفاق يوقف الحرب يعزز مكانة الدولة الإقليمية والدولية كـشريك لا غنى عنه في حل أزمات الشرق الأوسط، هذا الإنجاز جاء كضرورة قصوى بعد أن تزايدت أدوار دول وساطة منافسة، مثل قطر وتركيا، التي حاولت سحب بساط النفوذ من تحت أقدام القاهرة.
إضافة إلى الدافع الجيوسياسي، حملت الوساطة دافعاً معنوياً، لقد عكس هذا التحرك التزاماً تاريخياً وأخلاقياً تجاه الشعب الفلسطيني، فبإنهاء الحرب والمساعدة في تخفيف الكارثة الإنسانية، سعت القاهرة إلى ترميم الصورة المشوهة التي رُسمت لها منذ بداية الصراع، والتي اتهمتها بـالتقاعس أو “الخذلان” في مراحل مبكرة. وبذلك، لم يكن الاتفاق مجرد انتصار دبلوماسي، بل محاولة لإثبات أن مصر لا تزال العصب الحيوي للقضية الفلسطينية، والملاذ الأخير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ثالثًا: المقاربة الاقتصادية
لم تكن المقاربة الأمنية والدبلوماسية وحدها الدافع وراء إعادة نظر القاهرة في موقفها من حرب غزة؛ بل كان الاقتصاد حاضراً كـبعد محفز وحاسم، لقد فرضت الحرب ضريبة اقتصادية باهظة كشفت بوضوح عن مدى هشاشة الوضع المالي الداخلي لمصر أمام الصدمات الجيوسياسية الإقليمية.
كان التوتر المتصاعد في البحر الأحمر، الناجم عن استهداف الحوثيين للسفن التجارية المرتبطة بإسرائيل أو المتجهة لموانئها، بمثابة ضربة قاصمة، فقد ضرب هذا التوتر شريان النقد الأجنبي الرئيسي لمصر، قناة السويس، والتي شهدت خسائر فادحة، حيث فقدت ما بين 50% إلى 60% من إيراداتها في العام الأول للحرب فقط، مترافقاً مع انخفاض حاد في عدد السفن العابرة.
هذا النزيف في مصدر حيوي للعملة الصعبة كان له أثر مباشر على إجمالي العائدات خلال العامين الماضيين، مما ضاعف الضغوط على الاقتصاد المصري المترنح.
لم تتوقف الخسائر عند الملاحة، بل امتدت لتشمل سوق الطاقة، حيث تعرضت مصر لهزة بسبب عرقلة الحكومة الإسرائيلية لإمدادات الغاز المقررة وفقاً لاتفاقية التصدير المبرمة حتى عام 2040، والتي تبلغ قيمتها نحو 35 مليار دولار.
هذا التعطيل يهدد مصالح مصر الحيوية في مجال الطاقة ويقوض خططها لتصبح مركزاً إقليمياً لتداول الغاز، كل هذه الخسائر والتهديدات مجتمعة عززت قناعة القاهرة بضرورة التدخل وحسم الأزمة لوقف التدهور الاقتصادي.
رابعًا: المقاربة الأخلاقية
تعرضت القاهرة لانتقادات أخلاقية لاذعة وغير مسبوقة منذ بداية الحرب على غزة، بل ووصل الأمر إلى اتهامات صريحة بـالتواطؤ في حصار مليوني فلسطيني داخل القطاع، والمشاركة الضمنية في “حرب التجويع” التي شنتها تل أبيب للضغط على حماس وفصائل المقاومة، هذه الاتهامات وضعت النظام الحاكم في مأزق أخلاقي ودبلوماسي كبير أمام الشارع المصري والعربي والعالمي.
تفاقمت أزمة صورة القاهرة داخلياً وخارجياً بسبب غلق كافة نوافذ التعبير الشعبي عن دعم الفلسطينيين، والتصدي للتظاهرات القليلة التي خرجت تنديداً بجرائم الاحتلال، هذا الإجراء زاد من الشكوك حول مدى التزام النظام بواجبه الأخلاقي تجاه القضية.
علاوة على ذلك، كان تغير المزاج الشعبي العالمي عاملاً حاسماً في زيادة الضغط، التظاهرات الداعمة لفلسطين التي عمّت أرجاء العالم غير العربي والإسلامي، في ظل حرب إبادة ممنهجة ومعاناة إنسانية أقر الجميع بقسوتها، شكلت قوة ضغط قوية على الحكومات العربية، وفي مقدمتها القاهرة.
أمام هذه المأساة الإنسانية المروعة وهذا الحصار الأخلاقي، أصبح من اللازم حتمًا على الجانب المصري التدخل بشكل فعال، ومن ثم جاء التحرك المصري الأخير، الذي أثمر عن اتفاق شرم الشيخ، كـاستجابة مباشرة للضغط الدولي والعربي الهائل لوقف الحرب التي أدت إلى كارثة إنسانية.
فبعد عامين من القتال، تحوّل حقن الدماء ورفع المعاناة إلى ضرورة سياسية وأخلاقية لترميم صورة الدولة المصرية واسترداد دورها في الملف الإنساني، حتى وإن جاء هذا التحرك متأخراً.
في الأخير..
لقد نجح اتفاق شرم الشيخ في الخروج بمصر – حتى كتابة تلك السطور- وهي تمسك نظريًا بخيوط الملف إلى حد ما، إسرائيل لم تنتصر، حماس لم تُهزَم، وغزة لم تُسلَّم، ومع ذلك، يبقى تقييم الدور المصري قضية معقدة وجدلية لا يمكن اختزالها في ثنائية “الشيطنة والتقديس”.
التحرك المصري الأخير كان استجابة للضرورة القسريّة لتهدئة الجوار المشتعل وإدارة التداعيات الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من النجاح في اللحظة الحاسمة، فإن استعادة مصر لـريادتها العربية المفقودة بشكل كامل، وترميم ثقة الشارع الفلسطيني والعربي، سيظلان رهناً بمدى قدرة القاهرة على المضي قدماً في مقارباتها الجديدة، وضمان استمرار تنفيذ الاتفاق والانتقال من هدنة هشة إلى مسار سياسي مستدام.