محمود عيسى.. من زنازين العزل إلى طوفان الأحرار

محمود موسى عيسى، المعروف بلقبه “أبو البراء”، أحد أبرز قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وأقدم أسرى الحركة في سجون الاحتلال الإسرائيلي. اعتُقل عام 1993 بعد أن نسبت إليه سلطات الاحتلال قيادة أول خلية قسامية في القدس، وحُكم عليه بالسجن ثلاث مؤبدات و46 عامًا، قضاها بين الزنازين والعزل الانفرادي، ليغدو عميد أسرى حماس وأحد رموز الصمود الأسطوري في الحركة الأسيرة الفلسطينية.

على مدى أكثر من ثلاثة عقود، خاض محمود عيسى رحلة طويلة من الانتقام الممنهج والعقوبات المتواصلة، إذ حوّلت إسرائيل أسره إلى نموذجٍ للعقاب اليومي، ومعاقبة الفكرة قبل الفعل، محاوِلةً أن تجعله عبرةً لكل من يفكر في عمليات أسر الجنود كمدخلٍ لتحرير الأسرى. غير أن ما أراده الاحتلال كسرًا لإرادته، تحوّل في الواقع إلى أسطورة صمودٍ تجاوزت الزمان والمكان، ظلّ خلالها محمود صامدًا في وجه كل محاولات العزل والتنكيل، محتفظًا بصلابته وإيمانه بعدالة قضيته.

واليوم، وبعد ثلاثة وثلاثين عامًا من الأسر، يُطلّ أبو البراء محررًا بفعل صفقة تبادل الأسرى الجديدة التي أنجزتها المقاومة الفلسطينية ضمن سلسلة عمليات “طوفان الأحرار”، ليُجسد بعودته انتصار الإرادة على القيد، ويؤكد أن الحرية حين تصنعها المقاومة لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعًا.

المولد والنشأة

وُلد الأسير محمود موسى عيسى، المعروف بلقب “أبو البراء”، في بلدة عناتا شمال شرق مدينة القدس المحتلة في 21 مايو/أيار 1968، ونشأ في كنف أسرة فلسطينية بسيطة متجذّرة في أرضها، بين ثلاثة أشقاء وخمس شقيقات، حملته منذ طفولته على قيم الصمود والانتماء.

كانت بداياته الدراسية في مدارس بلدته، قبل أن ينتقل إلى المدرسة الرشيدية في القدس لإكمال المرحلة الثانوية في الفرع العلمي، لعدم توفر هذا التخصص في عناتا. تفوّق في دراسته، والتحق لاحقًا بـجامعة القدس (أبو ديس)، حيث درس الشريعة وأصول الفقه، جامعًا بين العلم والدين في مسارٍ يعكس شخصيته المتوازنة بين الفكر والعمل.

عرفه أهالي القدس شابًا هادئًا، متواضعًا، عميق الإيمان بالفكرة الوطنية، لكن خلف ذلك الهدوء كان ينبض إصرارٌ مبكر على الفعل والمقاومة. وبعد اعتقاله عام 1993، فقد والده بعد عامٍ فقط من أسره، فيما توفيت والدته عام 2021 بعدما تمكّنت من زيارته خمس مرات فقط خلال ثلاثة عقود من الأسر، تاركةً خلفها حسرة الفراق الطويل.

ناشط طلابي وصحفي

برز محمود موسى عيسى منذ سنوات دراسته الجامعية كأحد الوجوه النشطة في الكتلة الإسلامية بجامعة القدس – أبو ديس، الإطار الطلابي لحركة حماس، وحمل همّ القضية الفلسطينية من داخل قاعات المحاضرات، وشارك بفعالية في الأنشطة النقابية والوطنية التي جسّدت روح الوعي المقاوم داخل الجامعات الفلسطينية في أواخر الثمانينيات.

ومع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، كان محمود عيسى من أوائل الشباب الذين انخرطوا في صفوف حركة حماس مع انطلاقتها، ليجمع بين العمل الطلابي والسياسي، قبل أن يلتحق لاحقًا بجناحها العسكري كتائب الشهيد عز الدين القسام، مؤمنًا بأن الدفاع عن الأرض والهوية هو امتداد طبيعي للفكر الذي تربّى عليه.

لم تقتصر نشاطاته على الميدان السياسي؛ فقد خاض أيضًا غمار العمل الإعلامي والصحفي، حيث تولّى إدارة مكتب جريدة “صوت الحق والحرية” في القدس، وهي صحيفة كانت تصدر من مدينة أم الفحم وتحمل صوت الحركة الإسلامية وأفكارها. عرفه زملاؤه كقلمٍ جريء وصوتٍ حرٍّ في زمن الرقابة والملاحقة، فكان يجمع بين الوعي والكلمة والفعل، ويؤمن بأن الإعلام المقاوم جزءٌ أصيل من معركة الوعي ضد الاحتلال.

ورغم أن نشاطه المكثف في الكتلة الإسلامية والصحافة حرمه من استكمال دراسته الجامعية في كلية الشريعة، فإنه واصل تطوير نفسه في مجالات أخرى، فحصل على دبلوم في مختبرات الطب، مؤكدًا أن مسيرة النضال لا تُلغي قيمة المعرفة، بل تعزّزها وتمنحها معناها الحقيقي.

الوحدة 101 والالتزام بتحرير الأسرى

في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومع تصاعد العمل المقاوم في الضفة الغربية والقدس، كان الشاب محمود موسى عيسى – الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره آنذاك – من أوائل الذين ترجموا فكرة المقاومة إلى فعلٍ منظم داخل القدس المحتلة.

أسس مع ثلاثة من رفاقه المقدسيين، موسى عكاري، ومحمود عطون، وماجد قطيش، أول خلية عسكرية تابعة لـكتائب الشهيد عز الدين القسام في المنطقة، حملت اسم “الوحدة الخاصة 101″، لتكون نواة العمل القسامي في العاصمة المحتلة، ومهمتها الأساس أسر جنود الاحتلال الإسرائيلي لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين.

انطلقت هذه الوحدة بعمليات نوعية هزّت المنظومة الأمنية الإسرائيلية، كان أبرزها في 13 ديسمبر/كانون الأول 1992، حين نفذت عملية اختطاف الرقيب الأول في جيش الاحتلال نسيم طوليدانو قرب مدينة اللد المحتلة، وطالبت بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين – مؤسس حركة حماس – مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي، في عملية أطلقت عليها المقاومة اسم “الوفاء للشيخ أحمد ياسين”.

منحت الوحدة الحكومة الإسرائيلية مهلةً مدتها عشر ساعات لتنفيذ مطلبها، لكن رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين رفض الاستجابة، فقام أفراد الخلية بتنفيذ وعيدهم وقتلوا الجندي، وألقوا جثته في أحد شوارع اللد، في رسالةٍ صريحة بأن الأسرى الفلسطينيين ليسوا ورقة منسية في معادلة الصراع.

أحدثت العملية هزةً أمنية وسياسية كبيرة داخل إسرائيل، دفعت سلطاتها إلى شن حملة اعتقالات ومداهمات واسعة ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، طالت الآلاف من عناصرهما في الضفة والقطاع، وأُبعد على إثرها 415 من قادة الحركتين إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.

لكن الوحدة 101 لم تتوقف، بل تابعت تنفيذ عملياتها النوعية، من بينها دهس جندي في الخضيرة في مارس/آذار 1993، وقتل شرطيين في المدينة نفسها بعد أيام، ثم استهداف عقيد في جيش الاحتلال على مفرق “بيلو” قرب الرملة في مايو/أيار من العام ذاته، ما جعلها على رأس قوائم الملاحقة الأمنية.

في 3 يونيو/حزيران 1993، داهمت قوات كبيرة من جيش وشرطة ومخابرات الاحتلال منزل عائلة عيسى في بلدة عناتا شمال شرق القدس، واعتقلته بعد تطويق الحي بالكامل، إذ جرى اعتقاله مع أشقائه الثلاثة الذين أُفرج عنهم لاحقًا، فيما اقتيد هو إلى مركز تحقيق المسكوبية في القدس، لتبدأ فصول رحلة الأسر الطويلة التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود.

رأت سلطات الاحتلال في اعتقاله نصرًا أمنيًا وانتقامًا رمزيًا من أحد أبرز من أصابوا كبرياءها في الصميم، فوجهت له تهمًا متعددة كان على رأسها قيادة خلية مسؤولة عن عملية اختطاف وقتل الجندي طوليدانو، ليُحكم عليه لاحقًا بالسجن المؤبد مدى الحياة ثلاث مرات، إضافة إلى سنواتٍ أخرى بتهم مقاومة الاحتلال والانتماء لكتائب القسام.

رحلة عذاب وثلاثة عشر عامًا في العزلة

منذ اعتقاله في الثالث من يونيو/حزيران 1993، دخل الأسير محمود موسى عيسى في واحدة من أقسى تجارب الأسر التي عرفتها السجون الإسرائيلية، فقد وجّهت إليه محكمة الاحتلال تهمًا تتعلق بالمشاركة في خطف وقتل جندي إسرائيلي، ومحاولة قتل جنديين آخرين، ليصدر بحقه حكمٌ هو من الأشد قسوةً في تاريخ الحركة الأسيرة في حينه، السجن ثلاثة مؤبدات و46 عامًا إضافيًا.

حملة اعتقالات واسعة تسفر عن الكشف عن هوية أعضاء الوحدة الخاصة وفي مقدمتهم محمود عيسى

ومنذ تلك اللحظة، بدأ رحلة عذاب طويلة، تنقّل خلالها بين السجون الإسرائيلية بشكل متكرر كل ستة أشهر تقريبًا، في محاولةٍ دائمة من إدارة السجون لمنعه من الاستقرار وقطع أي روابط اجتماعية أو إنسانية داخل السجن.

قضى محمود عيسى ما يقارب 13 عامًا في العزل الانفرادي، حتى لُقّب بين رفاقه بـ”عميد الأسرى المعزولين”، وكانت تلك السنوات تجري في زنزانةٍ ضيقة لا تتجاوز 3×3.5 أمتار، سيئة التهوية، لا يدخلها ضوء الشمس إلا من فتحةٍ صغيرة أعلى الباب، فيما يُغلق بابها الحديدي طوال اليوم، ولا يُفتح إلا لإدخال وجبة الطعام عبر فتحةٍ ضيقة.

في هذا القبر المعتم، كان يقضي الأسير 23 ساعةً يوميًا، ويُسمح له بالخروج ساعةً واحدة إلى ما تُسمّى ساحة “الفورة”، وهي مساحةٌ صغيرة محاطة بأربع طبقات من الأسلاك الشائكة والصاج الحديدي، لا تحتوي على أي مرفق إنساني سوى فتحة مجارٍ في وسطها.

كان يُكبل عند خروجه، ويُفك قيده فقط بعد دخوله الساحة، يقضي تلك الساعة برفقة الأسير جمال أبو الهيجاء، ثم يُعاد إلى زنزانته المعزولة.

لم تكن تلك العزلة مجرد إجراءٍ إداري، بل عقوبةً سياسيةً متواصلة، إذ جدّدت سلطات الاحتلال قرار عزله كل عامٍ بذريعة “الأسباب الأمنية”، ورفضت مرارًا طلب محاميه برفع هذا الإجراء، حيث عُزل عن العالم الخارجي تمامًا، وحُرم من رؤية عائلته، ولم تسمح إدارة السجون إلا لوالدته بزيارته خمس مرات فقط خلال ثلاثة عقودٍ من الأسر، وكانت تلك الزيارات خلف الزجاج عبر سماعة هاتف، قبل أن ترحل عام 2021 وهي تحلم بعناقه.

منذ الأيام الأولى لأسره، بدأ الاحتلال بسياسة انتقامٍ متعمّد ضده؛ فحُرم من رؤية والده خلال جلسات محاكمته الأولى، ثم أُغلق منزل عائلته، ومُنع من توديع والده حين توفي لاحقًا، كما رفضت إدارة السجون طلبه مواصلة دراسة العلوم السياسية رغم سماحها بذلك للأسرى الآخرين في الجامعات العبرية.

وفي سلسلةٍ طويلة من التعذيب النفسي والجسدي، أُعيد محمود إلى العزل عام 1996 عقب محاولته الهرب من سجن عسقلان مع عددٍ من رفاقه بعد حفر نفقٍ بطول عشرة أمتار، ثم أُعيد التحقيق معه عام 1998 بتهمةٍ جديدة تتعلق بقتل مستوطن عبر توجيه خليةٍ فدائية من داخل السجن، فبقي في العزل لعامين إضافيين.

وفي عام 2002، اتُّهم مجددًا بتجنيد خليةٍ عسكرية من داخل السجن، وخضع لتحقيقٍ قاسٍ استمرّ أسابيع، انتهى بإضافة ست سنواتٍ جديدة إلى حكمه.

كانت تلك السنوات الممتدة من 2000 إلى 2012 الأكثر قسوةً في رحلته الطويلة؛ إذ أمضى خلالها عقدًا كاملًا في زنزانة العزل، لا يرى فيها إلا ظلّه وصوت سجّانيه، ولا يسمع سوى ضجيج السجناء الجنائيين الإسرائيليين من حوله، الذين تعمّدت إدارة السجون وضعهم بقربه لزيادة معاناته. ومع ذلك، بقي صامدًا، يحفظ القرآن، ويكتب الرسائل، ويروي لرفاقه حكايات الصمود من خلف الجدران.

لم تنتهِ عزلته إلا بعد الإضراب المفتوح عن الطعام عام 2012 الذي خاضته الحركة الأسيرة تحت شعار “معركة الأمعاء الخاوية”، حيث أُجبرت إدارة السجون على إنهاء عزل عشرات الأسرى، وكان من بينهم محمود عيسى.

لكن خروج الجدران من حوله لم يُنهِ محاولات الاحتلال لإبقائه في عزلةٍ مقنّعة، إذ أبقى الاحتلال على القيود الصارمة على الزيارة، ومُنع من إدخال الملابس أو الطعام من خارج السجن، فيما استمرت سلطات الاحتلال في نقله من سجنٍ إلى آخر، بين عسقلان ونفحة والرملة وهداريم، لمنع تشكّل أي بيئة استقرار أو تأثيرٍ له داخل صفوف الأسرى.

في كل تلك السنوات، تحوّل محمود عيسى من أسيرٍ معزول إلى رمزٍ وطنيٍّ للصلابة الأسطورية، ومثالٍ على أن الجسد قد يُقيد، لكن الإرادة حين تؤمن بعدالة قضيتها لا تُهزم، مهما ضاقت الزنازين أو تعاقبت القضبان.

إرادة تتجاوز القيود

لم تكن سنوات السجن الطويلة كافيةً لكسر إرادة الأسير محمود موسى عيسى، الذي استطاع تحويل زنزانته المعزولة إلى مساحةٍ للفكر والإبداع والمقاومة الفكرية، فعلى الرغم من القيود الصارمة والعقوبات المتواصلة، ظلّ يؤمن أن الحرية تبدأ من الوعي، وأن الكلمة الصادقة لا تقل أثرًا عن الرصاصة في مواجهة الاحتلال.

في أبريل/نيسان 2012، شارك محمود عيسى في الإضراب الجماعي عن الطعام الذي خاضه الأسرى الفلسطينيون تحت شعار “معركة الأمعاء الخاوية”، واستمر 28 يومًا، مطالبين بإنهاء سياسة العزل الانفرادي وتحسين ظروف الأسر، وانتهى الإضراب بتحقيق عددٍ من المطالب، كان من بينها إنهاء عزله الانفرادي بعد ثلاثة عشر عامًا من العزلة القاسية، في انتصارٍ شكّل لحظةً فارقةً في مسيرته ومعنوياته، ورَسّخ مكانته كأحد رموز الصمود في الحركة الأسيرة.

رغم عزيمته، لم تتوقف إدارة السجون عن التضييق عليه، فقد منعته من إتمام دراسته الجامعية التي بدأها عام 2000 بعد فصلٍ دراسيٍّ واحد فقط. رفضت إدارة السجون طلباته المتكررة بالاستمرار في الدراسة، ومنعت إدخال الكتب والمراجع إليه بقرارٍ من المحكمة العسكرية، ضمن سياسة عقابٍ ممنهجة تستهدف عزله عن أي منبرٍ للمعرفة.

حتى مقتنياته الشخصية كانت تخضع لمزاجية ضباط السجن، إذ لا يُسمح له بإدخال أي غرضٍ إلا إذا أخرج آخر، وغالبًا ما تصل ملابسه بعد فصولٍ طويلة، فيُمنح ملابس الصيف مع بداية الشتاء. كما حُرم من الصحف العربية لفتراتٍ متقطعة، واقتصر اشتراكه على صحيفةٍ عبريةٍ واحدة فقط، بينما حُظرت عليه المجلات تمامًا.

انتصار عيسى تحمل صورة شقيقها الأسير (الجزيرة)

لكن كل تلك القيود لم تَكسر قلمه، بل زادته إصرارًا على الكتابة والإنتاج المعرفي، وخلال سنوات أسره ألّف عدة كتبٍ ودراسات تناولت قضايا الفكر والمقاومة والسياسة، لتصبح شاهدةً على نضوج تجربته الفكرية. من أبرز مؤلفاته:

  • المقاومة بين النظرية والتطبيق (2000)

  • حكاية صابر (2012)، وهي رواية تُجسّد سيرته الذاتية ومعاناته في السجن

  • عِبر لمن يعتبر: أقاصيص من التاريخ (2012)

  • وفاء وغدر (2013)، مجموعة قصصية إنسانية

  • تأملات قرآنية (2014)

  • نظرية المؤامرة في القرآن الكريم (2015)

  • السياسة بين الواقعية والشرعية: دراسة نقدية لكتاب الأمير لمكيافيلي (2016)

  • رسالة الوسطية في الجهاد والفكر والتربية (2018)

إلى جانب الكتابة، برع محمود عيسى في الفنون اليدوية والتخطيط والزخرفة، وامتلك خطًا عربيًا جميلًا جعله يقضي ساعاتٍ في كتابة الآيات والعبارات بخطٍّ أنيقٍ يزيّن به جدران زنزانته. كما مارس الرياضة القتالية (الكاراتيه) داخل السجن، محافظًا على لياقته الجسدية بوصفها جزءًا من الصمود النفسي والمعنوي أمام آلة القهر الإسرائيلية.

تحوّل محمود في سجنه إلى مدرسةٍ فكرية ومقاومةٍ إنسانية؛ أسيرٌ محاصر بجدرانٍ أربعة، لكنه يعيش بعقلٍ حرٍّ وقلبٍ ممتلئٍ بالإيمان، يكتب ليكسر العزلة، ويفكر ليهزم القيد، ويؤكد في كل ما يخطّه أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالعقل أولًا، ثم بالإرادة التي لا تخضع مهما طال الزمن.

رمزية الحرية ومعنى الصفقة

يشكّل إدراج اسم الأسير محمود موسى عيسى في قوائم الصفقة المرتقبة لتبادل الأسرى واحدةً من اللحظات الرمزية الأعمق في الوعي الوطني الفلسطيني، فالرجل الذي أمضى أكثر من ثلاثة عقودٍ في الأسر، وثلاثة عشر عامًا منها في العزلة التامة، لم يكن مجرد أسيرٍ يقبع خلف القضبان، بل أصبح رمزًا لفكرة الصمود التي تتجاوز حدود الجسد والزمن.

قصة محمود عيسى ليست حكاية فردٍ فقط، بل مرآةً لجيلٍ كامل من المناضلين الذين جمعوا بين الوعي الوطني والمقاومة المسلحة والفكر النقدي، وظلوا أوفياء لعهدهم الأول في الدفاع عن الأرض والإنسان.

عبر مسيرته الممتدة من ساحات الجامعة إلى ميادين المقاومة، ومن زنازين العزل إلى صفحات الكتب، ظلّ عيسى متمسكًا بفكرةٍ واحدة: أن الحرية لا تُقاس بمسافة الطريق نحو الخروج، بل بالقدرة على الحفاظ على المعنى داخل القيد نفسه.

تحرره المنتظر لا يمثل فقط انتصارًا إنسانيًا لشخصٍ تجاوز الموت البطيء في زنازين العزل، بل يحمل في طياته رسالةً سياسيةً ومعنويةً عميقة؛ أن المقاومة قادرةٌ على إعادة من حاول الاحتلال محوهم من الذاكرة إلى صدارة الوعي الفلسطيني.

لقد حاول الاحتلال مرارًا تعطيل إطلاق سراح “أبو البراء” في كل دفعات التبادل السابقة، إدراكًا منه للرمزية التي يحملها الرجل الذي شقّ طريق خطف الجنود كمدخلٍ لتحرير الأسرى، وظلّ يصرّ على كسر إرادة السجان ومراكمة الوعي داخل الزنازين.

سيخرج محمود عيسى محررًا بعزيمة الأبطال، حاملًا إرث رفاقه ووصاياهم، كما حمل الراية داخل السجون في زمنٍ كان فيه الصوت خافتًا والأمل نادرًا. سيعود بعيدًا عن القدس، بأمرٍ قسري من سلطات الاحتلال بالإبعاد، لكن حريته تلامس بعنانها كل أحياء القدس التي اشتاقها وضحّى من أجلها، لتصبح حريته عنوانًا جديدًا للقدس التي لا تنكسر مهما غابت عنها الوجوه.

بهذه الرمزية، لا يُستعاد الأسير فحسب، بل تُستعاد معه قيمة الوفاء للمقاومين الأوائل، ومعنى الثبات في وجه محاولات الكسر والتدجين. سيخرج محمود من السجن، لكن سيرته ستبقى درسًا مفتوحًا للأجيال: أن الحرية حين تتجذر في الوعي، لا يمكن لجدرانٍ أو مؤبداتٍ أن تُطفئها.