هل يهدد صراع كابول وإسلام آباد الأمن العربي؟

جولة جديدة من التوتر تشهدها العلاقات الباكستانية الأفغانية خلال الساعات الماضية، حيث تبادل الاشتباكات الحدودية بين الجارتين، أسفرت عن سقوط العشرات ما بين قتيل ومصاب، وسط تبادل اتهامات بين الطرفين حول مسؤولية من أشعل فتيل الأزمة أولا. وبعيدًا عما يحمله هذا التوتر في ظاهره باعتباره خلافًا حدوديًا أو أمنيًا، إلا أنه يعكس شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والتوازنات الدولية، ما يطرح العديد من التساؤلات حول ما يمكن أن يكون له من تداعيات تتجاوز حدود البلدين إلى ما هو أبعد من ذلك.

ورغم إعلان وزارة الدفاع الأفغانية انتهاء العمليات العسكرية على الحدود المشتركة مع باكستان مساء السبت 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، استجابة للوساطة القطرية السعودية الصينية، إلا أن التوتر بين كابول وإسلام أباد يبقى  واحدًا من أكثر الملفات حساسية في آسيا، لما يحمله من تشابكات أمنية واقتصادية ودينية معقدة.

ومع استمرار محفزات الاشتعال بين الجارتين، في ظل غياب الحلول الدائمة، ستبقى الحدود بينهما نقطة توتر مزمنة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، لتعيد خلط أوراق التحالفات في جنوب آسيا، ما من شأنه أن يؤثر على الأمن العربي بصفة عامة والخليجي على وجه الخصوص، الأمر الذي يضع هذا الملف في مرتبة متقدمة في قائمة أولويات حكومات المنطقة.

ما الذي حدث؟

البداية كانت الجمعة 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حين أعلنت حركة طالبان باكستان (TTP) (جماعة طلابية بشتونية مسلحة ومنظمة، جامعة للعديد من الجماعات الطلابية المسلحة المتمركزة على طول خط ديورند داخل الأراضي الباكستانية) مسؤوليتها عن هجمات متزامنة استهدفت قوات الأمن الباكستانية في إقليم خيبر بختونخوا الحدودي مع أفغانستان، وأسفرت عن مقتل 23 شخصا، بينهم 20 عنصرا أمنيا و3 مدنيين.

في اليوم التالي مباشرة شنت القوات الباكستانية هجومًا عنيفًا على عدد من الولايات الأفغانية، شملت إلى جانب العاصمة كابل، ولايات خوست وبكتيا وكنر وهلمند، وأسفرت عن سقوط العديد من القتلى والمصابين وتدمير بعض المناطق.

وفي وقت متأخر من نفس اليوم ردت القوات الأفغانية بهجمات انتقامية منسقة على عدد من المواقع الحدودية، حيث تمكنت من السيطرة على ما لا يقل عن 5 نقاط حدودية تابعة للجيش الباكستاني في ولايات بكتيا وهلمند وزابل، إضافة إلى تدمير عدد من الآليات والمعدات العسكرية.

المواجهات أسفرت عن مقتل 58 جنديا وأصابت 30 آخرين من صفوف الجيش الباكستاني، في مقابل مقتل 9 عناصر مسلحة من حركة طالبان باكستان، وأكثر من مائتي عنصر في حركة طالبان الأفغانية، بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن القوات المسلحة لدى البلدين.

تبادل الاتهامات

يتأجج التوتر الحالي بين باكستان وأفغانستان على خلفية تبادل الاتهامات بين البلدين، حيث يحاول كل طرف إلقاء المسؤولية على الطرف الأخر وتبرئة ساحته من تهمة إطلاق الرصاصة الأولى. فمن جهتها، تُعرب إسلام أباد عن استيائها البالغ إزاء استمرار هجمات حركة “طالبان باكستان”  على أراضيها،  حيث توجه أصابع الاتهام صراحة إلى الجارة الأفغانية، متهمة إياها بعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف هذه الهجمات، بل وتزعم أن هذه الجماعة ممولة من قبل الهند وتتخذ من الأراضي الأفغانية منطلقاً لعملياتها.

في المقابل، ترفض الحكومة الأفغانية هذه الاتهامات بشدة، وتؤكد أن الأزمة الأخيرة بدأت نتيجة الاعتداء على سيادتها، فيما تتهم كابول إسلام آباد بالتعدي العسكري المباشر بعد تنفيذ القوات الباكستانية ضربات جوية داخل الأراضي الأفغانية، ما يفاقم من حدة الأزمة الحدودية.

في الساعات الأخيرة تجاوز الأمر حاجز تبادل الاتهامات الضيق، إلى المطالبة فعليًا باتخاذ إجراءات رادعة، وذلك بعد المفاجأة التي فجرها الناطق باسم الحكومة الأفغانية، ذبيح الله مجاهد، الأحد 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حين أشار إلى معلومات تفيد بوجود زعيم فرع خراسان لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، شهاب المهاجر، بالإضافة إلى أعضاء آخرين في التنظيم، على الأراضي الباكستانية، مطالبًا الحكومة الباكستانية إما بتسليم هؤلاء الأفراد إلى السلطات الأفغانية أو طردهم فوراً من أراضيها.

65 عامًا من التوتر

لم تعرف باكستان منذ تأسيسها عام 1947، استقرارًا حقيقيًا ودائمًا مع أفغانستان، فقد ظل خط ديورند، الذي رسمه الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر لتقسيم القبائل البشتونية، بؤرة توتر دائمة بين البلدين، إذ تعتبر كابول الخط ترسيمًا غير شرعي وتمسّ بحقها في المناطق الحدودية، فيما تصر إسلام آباد على أنه حدود دولية نهائية، ما جعل الخلاف القبلي والسياسي بينهما متوارثًا عبر الأجيال.

ومع الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، تحولت باكستان إلى قاعدة خلفية للمجاهدين بدعم أمريكي وعربي، ما عمّق الترابط الأمني والسياسي بين الجارتين، إلا أن هذا الدور خلق أيضًا حالة من الشك المتبادل، إذ اتهمت كابول إسلام آباد لاحقًا بالسعي لفرض نفوذها على القرار الأفغاني، بينما رأت باكستان في الفوضى المستمرة بأفغانستان خطرًا مباشرًا على أمنها وحدودها.

بعد عودة حركة طالبان إلى السلطة عام 2021 عقب الانسحاب الأمريكي، اعتقدت باكستان أنها استعادت حليفها التقليدي، لكن الحسابات لم تصب في صالحها، فطالبان الجديدة رفضت الخضوع لنفوذ إسلام آباد، ورفضت التحرك ضد حركة طالبان الباكستانية التي تشن هجمات عبر الحدود، وتتسبب بين الحين والأخر في اشتعال الصراع بين الجارتين.

وفي السنوات الأخيرة، تفاقمت الخلافات السياسية والأمنية، لتتحول الحدود بين البلدين إلى نقطة اشتعال مزمنة تهدد استقرار جنوب آسيا، وبرغم الوساطات المتكررة من دول عربية وصين لتهدئة الموقف، ما تزال جذور الأزمة قائمة، في ظل صراع نفوذ معقد تتداخل فيه القبائل والمصالح والحدود، ليبقى المشهد مفتوحًا على احتمالات التصعيد في أي لحظة.

خلاف يتجاوز الحدود

التعاطي مع التوتر الباكستاني الأفغاني باعتباره نزاعًا حدوديًا ضيقًا، قراءة تفتقد للموضوعية والفهم معًا، إذ يتجاوز هذا التصعيد حدود الخلافات الثنائية إلى نطاق أوسع من تشابكات المصالح الإقليمية والدولية، حيث لم يعد الصراع محصورًا في قضايا الحدود أو الأمن، بل تحول إلى عقدة جيوسياسية تمس توازن القوى في جنوب آسيا وما حولها.

فعلى الصعيد الأمني، تمتد الحدود الجبلية الوعرة بين البلدين لأكثر من 2600 كيلومتر، ما يجعل السيطرة عليها شبه مستحيلة، من الطرفين معًا، وفي ظل ضعف التنسيق الأمني بين الجارتين، تنشط الجماعات المتشددة العابرة للحدود، وعلى رأسها تنظيم “داعش – خراسان”، الذي يسعى لتوسيع نفوذه مستغلًا هشاشة الرقابة واحتدام الخلاف بين الجارتين.

أما على الصعيدين الاقتصادي والإقليمي، فقد أدى النزاع المستمر إلى تعطيل مشاريع استراتيجية كبرى مثل خط أنابيب الغاز “TAPI” الذي يربط تركمانستان بأفغانستان وباكستان والهند، وممر “كاشغر – جوادر” الحيوي ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، مثل هذا التعطيل لا يحرم البلدين من فرص التنمية فحسب، بل ينعكس أيضًا على سلاسل التجارة والطاقة المرتبطة بالإقليم وفي الصدارة منه العالم العربي ودول الخليج تحديدًا.

وفي المقابل، تجد الهند في تصاعد الخلاف فرصة لإضعاف خصمها التقليدي( باكستان)، بينما تخشى الصين على استثماراتها، وتراقب إيران وروسيا الموقف بحذر خوفًا من امتداد عدم الاستقرار إلى آسيا الوسطى، لتتحول الساحة الباكستانية–الأفغانية إلى ميدان تنافس مكتمل الأركان بين القوى الكبرى.

أي تداعيات على المنطقة العربية؟

رغم أن التوتر بين باكستان وأفغانستان يبدو جغرافيًا بعيدًا عن العالم العربي، فإن تداعياته تمتد تدريجيًا إلى المنطقة، وبالأخص إلى دول الخليج، التي تجد نفسها أمام مجموعة متشابكة من التحديات الأمنية والاقتصادية والإنسانية.

على الصعيد الأمني، تتصاعد المخاوف من عودة النشاط الجهادي العابر للحدود، إذ قد يؤدي اشتعال الصراع بين الجارتين إلى تحويل الأراضي الأفغانية إلى بيئة خصبة للجماعات المسلحة المتشددة، وعلى رأسها التنظيمات ذات الارتباطات الأيديولوجية بشبكات في الشرق الأوسط، هذا الاحتمال يثير قلقًا خليجيًا متناميًا من انتقال عدوى التطرف إلى المنطقة مجددًا.

كما أن التوتر الحالي يضع المملكة العربية السعودية في موقف دقيق، على خلفية اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة مؤخرًا بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الباكستاني محمد شهباز شريف في سبتمبر/أيلول الماضي، والتي تنص على أن أي اعتداء على أحد الطرفين يعد اعتداءً على الآخر، ما قد يفرض التزامات صعبة على الرياض إذا تجاوز التصعيد حدوده الراهنة.

اقتصاديًا، يحمل الصراع الباكستاني–الأفغاني انعكاسات مباشرة على الممرات البرية الحيوية التي تربط آسيا الوسطى ببحر العرب، وهو ما قد يؤثر بدوره على طرق التجارة الدولية والموانئ الخليجية، فميناء جوادر الباكستاني، أحد أهم محاور مبادرة الحزام والطريق الصينية، يمثل بوابة اقتصادية استراتيجية للعالم العربي، وأي اضطراب في دوره قد يضر بالمصالح التجارية والإقليمية المشتركة.

كما أن العلاقات الاقتصادية الوثيقة التي تجمع باكستان بكل من السعودية والإمارات وقطر قد تتأثر سلبًا في حال تفاقم التوتر، إلى جانب احتمالات تراجع التعاون الخليجي–الأفغاني في مجالات التنمية والاستثمار.

أما من الجانب الإنساني، فإن استمرار التصعيد قد يؤدي إلى موجات لجوء أفغانية جديدة، تتجه عبر إيران وتركيا نحو بعض الدول العربية، ما قد يخلق أعباء إنسانية واقتصادية إضافية على المنطقة، ويعيد إلى الواجهة تحديات طالما رافقت الأزمات الممتدة في الجوار الآسيوي.

البوصلة الخليجية إلى أين؟

حتى كتابة تلك السطور، تلتزم العواصم العربية سياسة الحياد الحذر تجاه التصعيد الأخير بين كابول وإسلام أباد، حيث تراقب المشهد عن كثب دون التورط المبكر في أي استقطاب قد تتجاوز كلفته قدرة ورغبة الدول الخليجية على وجه التحديد في ظل التأثيرات المحتملة لهذا التوتير على أمن المنطقة واستقرارها.

ومن هنا تبرز أمام صانع القرار العربي ثلاثة مسارات رئيسية للتحرك، الأول يتعلق بدعم الوساطة والحوار، عبر تفعيل الأطر الإسلامية والإقليمية مثل منظمة التعاون الإسلامي، أو من خلال مبادرات ثنائية تقودها دول عربية ذات ثقل دبلوماسي مثل السعودية وقطر، للمساهمة في تخفيف التوتر وفتح قنوات اتصال مباشرة بين الطرفين.

فيما يتعلق المسار الثاني بالتعاون الأمني والاستخباراتي مع باكستان في مواجهة خطر تمدد الجماعات المتشددة التي قد تستغل الفوضى على الحدود الباكستانية–الأفغانية، بما يضمن حماية الأمن العربي من أي اختراق محتمل، وأخيرًا تعزيز الشراكات الاقتصادية الإقليمية، كمسار ثالث،  من خلال تنشيط مشاريع الربط البري والبحري بين العالم العربي وجنوب آسيا، مما يقلل من كلفة الاضطراب في المنطقة على التجارة والطاقة والاستثمار.

غير أن الأرجح من بين تلك المسارات أن يستند التحرك العربي إلى مبدأ الانخراط الهادئ والمتوازن بدلًا من الانحياز المباشر لأي طرف، حيث الدبلوماسية كـ “جسر تواصل” بين كابول وإسلام أباد، محاولا الاستفادة من الثقة التي يحظى بها لدى الطرفين معًا، والتي تؤهله للقيام بهذا الدور على أكمل وجه.

عطفًا على ما سبق، يمكن القول إن التوتر بين باكستان وأفغانستان، لم يعد مجرد نزاع حدودي، بل تحول إلى أزمة جيوسياسية متشابكة تعكس صراع النفوذ في جنوب آسيا، فكل جولة تصعيد، مهما بدت محدودة، تحمل في طياتها احتمالات اتساع رقعة المواجهة بما يتجاوز حدود البلدين، ما لم تُعالج جذور الخلاف عبر مسار دبلوماسي شامل يعيد بناء الثقة ويضمن المصالح المشتركة.

هذا التعقيد والتشابك في هذا الملف يستدعي انخراطًا عربيًا وخليجيًا حذرًا ومتوازنًا يقوم على دعم جهود الوساطة، وتكثيف التعاون الأمني والاقتصادي مع باكستان وأفغانستان في آنٍ واحد، انطلاقًا من قاعدة أن استقرار جنوب آسيا يشكل ركيزة أساسية لأمن الخليج ومصالحه الاستراتيجية، ما يجعل من التحرك العربي الهادئ أداة ضرورية للحفاظ على التوازن الإقليمي ومنع انزلاق المنطقة إلى دوامة جديدة من الاضطراب.