العلاقات السورية اللبنانية: إرثٌ ثقيل ومحاولة لبناء الثقة

اتسم تاريخ العلاقات السورية اللبنانية منذ نشأة الدولتين بشكلها الحالي، بتقلبات حادة تراوحت بين القطيعة والتعاون، التوافق والخلاف، التدخل والهيمنة، إذ لم تعرف هذه العلاقة يومًا استقرارًا دائمًا، إذ كان للقرب الجغرافي والتاريخي دورٌ في صياغة العلاقة بشكلٍ اجتماعي واقتصادي وجيوسياسي، كما كان لتناقض المصالح السياسية دورٌ آخر، حيث بقيت دمشق وبيروت تدوران في فلك علاقة مضطربة متحولة، تحكمها الظروف الإقليمية وتوازنات القوى المسيطرة داخل كلا البلدين.
من الوصاية إلى التداخل
كانت فترة ما بعد الاستقلال فترة اضطراب في العلاقات، والتي لم تشهد استقرارًا واضحًا، إلا أنها بدأت تأخذ شكلًا آخر منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فمع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، دخل الجيش السوري إلى لبنان بقرار عربي ظاهري تحت مسمى قوات الردع العربية، لكن هذا التدخل تحوّل لاحقًا إلى وصاية مباشرة في ظل حكم الرئيس حافظ الأسد.
خلال تلك الحقبة، أحكمت دمشق سيطرتها على القرار اللبناني السياسي والأمني، ووصلت إلى ممارسة سياسات انتدابية عبر ضباط مخابراتها، واعتُبر لبنان ساحة نفوذ سورية بامتياز، حيث أدار حافظ الأسد علاقاته بين إيران والدول العربية والغربية أحيانًا عبر الساحة اللبنانية، حتى انتهاء الوجود العسكري السوري عام 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، الذي اتُّهم النظام السوري بالتعاون مع حلفائه داخل لبنان بقتله نتيجة محاولاته تغيير شكل العلاقة بين البلدين.
حزب الله وتبدل موازين التأثير
مع تولي بشار الأسد الحكم، تغيّر شكل العلاقة من سيطرة سورية مطلقة على الشأن اللبناني إلى تدخل لبناني في الشأن السوري عبر حزب الله، الذي بات يُنظر إليه كذراع إيرانية داخل لبنان، مؤثرة بل مسيطرة على القرار الوطني.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تحوّل الحزب إلى طرف فاعل في الصراع، بعدما شارك بشكل مباشر في القتال إلى جانب النظام السوري، ما فاقم الشرخ بين الشعبين. كما عبّر تعامله الصارم عبر عمليات القتل والاختطاف تجاه اللاجئين السوريين في لبنان عن توتر سياسي واجتماعي بلغ حدود العداء، إذ وُصم كثيرون من السوريين بأنهم خصوم للحزب أو لموقفه من الحرب.
إرث مثقل بعد سقوط النظام
بعد سقوط نظام الأسد وتسلُّم حكومة سورية جديدة مقاليد الحكم، ورثت دمشق علاقات متشابكة ومعقدة مع بيروت. فملفات كثيرة ما زالت مفتوحة رغم تغير الواقع السياسي في البلدين، تشمل مصير المعتقلين والمفقودين من الجانبين، والأموال السورية المجمدة في المصارف اللبنانية، ووجود قوى سياسية لبنانية لا تزال تُظهر عداءً للحكومة السورية الجديدة، وعلى رأسها حزب الله وبعض القوى الشيعية المرتبطة بمحور إيران.
إعادة تطبيع العلاقات السورية اللبنانية تتطلب مصارحة متبادلة وبناء ثقة حقيقية تقوم على مبدأ الندية، إضافة إلى معالجة القضايا الحساسة التي تحمل طابعًا إنسانيًا واقتصاديًا وسياديًا. ويأتي في مقدمة هذه الملفات إعادة ترسيم الحدود رسميًا، وهي خطوة أساسية لضمان الاستقرار الأمني والاقتصادي بين البلدين، إضافة إلى الاتفاق على آلية واضحة لمعالجة ملف اللاجئين والمعتقلين.
يقول الصحفي والكاتب مؤيد اسكيف، أحد النشطاء بما يتعلق بملف المعتقلين السوريين في لبنان: “يسعى لبنان بشتى الطرق للحصول على معلومات تخص المغيبين اللبنانيين في سوريا خلال العقود السابقة”، مضيفًا: “كذلك أي تفاصيل خاصة بعمليات الاغتيال بحق لبنانيين، وكان هناك بادرة سورية سابقة فيما يخص قضية الشهيد كمال جنبلاط. كان هناك محاولة أن يكون هذا الملف شرطًا لتلبية مطالب سورية، ولكن تم تجاوز الحالة الشرطية مع التجاوب السوري الإيجابي”.
يشير سكيف إلى أن “هناك سعي سوري حكومي واضح للتعاون الكامل مع لبنان في مختلف القضايا، ولا سيما موضوع النازحين السوريين، وأعتقد أن المسألة في هذا الخصوص هي مسألة وقت، إذ أنه من الضروري تجهيز المناطق التي سيعود إليها السوريون من حيث البنى التحتية اللازمة، وتنظيم عملية العودة التي أعتقد أنها باتت قريبة”.
ليس من خلال التصريحات فقط، بل من خلال السلوك السوري، بات واضحًا أن هناك مساعي لإقامة علاقات ودية ومتوازنة مع لبنان تتجاوز مرحلة العقود السابقة التي كانت قائمة على الإخضاع والتسلط.
تسعى الحكومة السورية ممثلة بوزارة الخارجية والمغتربين إلى حل قضية المعتقلين السوريين في لبنان على خلفية الثورة السورية، ومجمل قضية السجناء في لبنان، بما فيهم السجناء الجنائيون، وذلك من خلال توقيع اتفاقيات تتضمن تبادل السجناء والمطلوبين. أما المعتقلون على خلفية الثورة، فهي حالة خاصة، وتسعى الوزارة لتسلُّمهم والإفراج عنهم، على اعتبار أن اعتقالهم جرى لطبيعة مواقفهم من النظام البائد، أو لأنهم من أبناء المناطق الحدودية التي سيطر عليها حزب الله، وقام بتهجيرهم منها. ونأمل أن يحصل هؤلاء على حريتهم في القريب العاجل.
مستقبل العلاقات بين دمشق وبيروت
رغم ثقل الإرث الماضي وتراكم الأزمات، يبقى المستقبل مفتوحًا أمام إمكانية بناء علاقة جديدة تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. فإذا استطاعت الحكومتان تجاوز الانقسامات التاريخية، واعتبار ما جرى درسًا في سوء إدارة الجوار، فقد يشهد المشرق مرحلة من التعاون الحقيقي تحفظ سيادة البلدين وتحقق مصلحة شعبيهما. أما الإبقاء على الشكوك والنفوذ المتبادل، فسيجعل من العلاقات السورية اللبنانية ساحة دائمة للتجاذب والارتهان الإقليمي.
الكاتبة الصحفية عالية منصور، والخبيرة بالشأن اللبناني، قالت لـ”نون بوست”: “أبرز ما سمعته من الجانبين السوري واللبناني خلال اللقاءات بين الطرفين، أن هناك إرادة سياسية جدية للوصول لأفضل العلاقات بين الدولتين، على أساس احترام سيادة واستقلال واستقرار كل دولة، (كررت كلمة “الإرادة السياسية” مرارًا خلال الاجتماعات)”.
وتضيف منصور: “إنها المرة الأولى بتاريخ البلدين التي تكون هناك فرصة حقيقية لهذه العلاقة، ملفات الماضي المثقلة بالجراح على جانبي الحدود تحتاج إلى عمل جدي بين السوريين واللبنانيين، لكن هناك فرصة اليوم لتكون العلاقة بين دولتين مبنية على الاحترام والمصالح المشتركة”. وتوضح الصحفية إن “هناك ملفات عالقة منذ الاستقلال كترسيم الحدود، وهذا ملف شائك، ولكن الإرادة اليوم موجودة، والمملكة العربية السعودية رعت اجتماعًا بين وزيري الدفاع بهذا الخصوص، ولكن الأمر الضروري اليوم هو ملف ضبط الحدود، وهو مصلحة مشتركة”.
وتشير منصور إلى أن “لبنان ملزم بضبط حدوده بعد الاتفاق مع إسرائيل لوقف الحرب الأخيرة، والتزاماته الإقليمية والدولية بخصوص ملف سلاح حزب الله وتجارة الكبتاغون، وسوريا ملزمة بضبط حدودها لأنها تدرك أن أي عمل لزعزعة استقرار سوريا ستقوم به إيران ومن خلفها سيكون من خلال الحدود السورية اللبنانية، بعد أن خسر الحزب باقي المعابر التي يمكن أن يستخدمها لتجارة الكبتاغون أو تهريب السلاح”.
وتضيف: “كذلك ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية هو الأولوية اليوم بالنسبة للدولة السورية، وهناك بوادر حلحلة قريبًا في هذا الملف، وإن كان على دفعات، وأي تعاون اقتصادي وسياسي بين البلدين مرتبط بحل موضوع الحدود والمعتقلين”، وتوضح: “طبعًا، هناك ملف الاغتيالات التي ارتكبها نظام الأسدين في لبنان، وملف المختفين اللبنانيين في السجون السورية، وهي ملفات شائكة وتحتاج إلى وقت، ولكنها أولوية أيضًا للجانب اللبناني”.
وعن أهم العوائق أمام عودة العلاقة اللبنانية السورية إلى طبيعتها، يقول الكاتب السياسي درويش خليفة: “حملت العقود الخمسة الماضية منعطفات كبيرة بالعلاقات السورية اللبنانية، جراء تدخل الجيش السوري هناك عام 1976، وما رافقها من أحداث دموية تخللها الحرب الأهلية، ودعم حزب الله للهيمنة على القرار السياسي في البلاد. ثم مشاركة الحزب بدفع إيراني للمشاركة إلى جانب نظام الأسد بقمع الثورة الشعبية السورية. اليوم، وبعد سقوط النظام السابق في سوريا، هناك محاولات حثيثة من الجانبين لإعادة العلاقات بينهما على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكليهما|.
وجاءت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت يوم الجمعة 10 أكتوبر الجاري، في مرحلة دقيقة تتطلب حكمة سياسية ومقاربات واقعية. ولإيجاد حلول واقعية للملفات العالقة، من الضروري تشكيل لجان دائمة مشتركة لمعالجة القضايا الشائكة بشكل تدريجي ومنهجي. هذه الزيارة قادرة على إعادة بناء الثقة بعد سنوات من الفتور والتوتر، وفتح مرحلة جديدة من التعاون القائم على الندية والاحترام المتبادل، بعيدًا عن نمط الهيمنة السياسية الذي ساد قبل انسحاب الجيش السوري عام 2005.
ويوضح خليفة: “إن الزيارة تأتي في لحظة سياسية واقتصادية حساسة تعكس رغبة الطرفين في فتح صفحة جديدة من العلاقات في ظل واقع إقليمي متغير وتحديات إنسانية متصاعدة. وبين الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية المطروحة، يبقى الأمل أن تكون هذه الخطوة بداية مسار تصالحي يعيد للعلاقات اللبنانية–السورية بُعدها الطبيعي القائم على المصالح المشتركة والروابط التاريخية بين الشعبين”.
علاقات جديدة جدية وندية
إن إعادة صياغة العلاقات تستلزم أدوات جديدة، لعل أبرزها إلغاء أي شكل من أشكال التبعية والسيطرة في كلا البلدين، ولعل أبرزها القرار السوري بتعليق عمل المجلس الأعلى اللبناني–السوري (من وزارة الخارجية اللبنانية عبر السفارة السورية) يُعد خطوة مفصلية لإعادة صياغة العلاقات على أساس جديد من الندية والاحترام، حيث كان المجلس يمثل سابقًا شكلًا من أشكال هيمنة دمشق على لبنان.
وفي هذا السياق، يضيف الكاتب الصحفي درويش خليفة حول عودة العلاقات السورية اللبنانية، وهل ستكون على حساب تيارات سياسية داخل لبنان؟، فيقول: “أعتقد أن عودة العلاقات تتطلب المزيد من الوقت والتأني قبل الولوج الكامل فيها، وبناء الثقة بين الطرفين بإزالة كل العوائق، بدءًا من ملف المعتقلين في سجون لبنان، ثم ترسيم الحدود، وصولًا إلى تسوية قضية الأصول السورية وأموال المودعين في المصارف اللبنانية. غير ذلك، تبقى العلاقة بين الدولتين على أسس دبلوماسية وسياسية، بعيدًا عن تاريخ العلاقة التي نسجها نظام الأسد مع قوى حزبية تحقق له مصالحه على حساب مصالح البلدين الشقيقين”.
ويتابع: “المنطقة تعيش مرحلة صعبة، تتطلب التفكير جديًا بكيفية الفصل بين الملفات الأمنية وقضايا أخرى مثل عودة اللاجئين السوريين من لبنان إلى بلدهم، وتحقيق خطوات فعالة نحو الاستقرار، والمشاركة في ترسيم الحدود من خلال لجان محلية وإشراف عربي ودولي.
وفي ضوء ذلك، يتجنب الطرفان العودة إلى مسار التعاطي مع التيارات السياسية على حساب العلاقة القائمة بينهما على الاحترام المتبادل”.
وبالمحصلة، وللوصول إلى علاقة متجددة، بالرغم من ثقل الإرث السياسي وما احتواه من إشكالات والتوترات التي مرّت بها مراحل العلاقات، يبقى هناك أمل واضح في فتح صفحة جديدة بين سوريا ولبنان تقوم على الاحترام والندية والتعاون، إذا ما ترافق ذلك مع إرادة سياسية حقيقية لدى الطرفين لإنهاء الفصول الماضية من النزاع والاستغلال والهيمنة. المستقبل يحمل إمكانية بناء شراكة متكافئة تخدم تطلعات شعبين جارين في واحدة من أعقد مناطق الشرق الأوسط.