ميزانيات الحرب بدل الرفاه.. أوروبا تودّع حلم السلام والحياد

“ثمار السلام”، كان حلمًا مشتركًا جمع بين الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، أُعلن عنه في مرحلة تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1990، إذ رأى بوش الأب وتاتشر أن عالمًا دون حرب سيمكن من خفض الإنفاق الدفاعي وتخصيص تلك الموارد في أماكن أخرى لتلبية مزيد من الاحتياجات البشرية وتعزيز نظام الرفاه من خلال الإنفاق على الخدمات الاجتماعية.

نعمت أوروبا بتلك الثمار على مدار ثلاثة عقود منذ التسعينيات، فلم يكن إنفاقها الدفاعي جديرًا بالذكر إذا ما قورن بدول أخرى، ففي عام 2014، وصل الإنفاق الدفاعي في الاتحاد الأوروبي، المكوَّن من 27 دولة، إلى أدنى مستوياته، مسجّلًا 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو العام ذاته الذي ضمّت فيه روسيا شبه جزيرة القرم.

ورغم أن تلك الكارثة الأمنية لم تحرك الكثير في حينها، فإن مغامرة روسية أخرى، هي حربها على أوكرانيا التي اندلعت مطلع عام 2022، أكدت لدول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو حقيقة التهديد الأمني الخطير الذي تمثّله روسيا، والتي ظنّوا طيلة العقود السابقة أن تهديداتها لن تخرج عن نطاق صراعات باردة وجولات قصيرة الأمد قد تُخاض في جورجيا أو القرم وتنتهي قبل أن تبدأ.

حرب تبتلع أموال القارة

لقد تجلى القلق الأوروبي من الاعتماد المتزايد على الولايات المتحدة، ومن التهديد الروسي، على مدار العقد الأخير، في مشاريع كثيرة، كان أحدها – للمفارقة الساخرة – حادثًا قبل اندلاع الحرب بأشهر، حين أُسس صندوق الدفاع الأوروبي (EDF) لدعم الصناعة العسكرية الأوروبية، حيث وُضع مخطط عمله للفترة بين عامي 2021 و2027، بميزانية بلغت 7.3 مليار يورو، تهدف إلى دعم الشركات الصغيرة والكبيرة الناشطة في مجال صناعة السلاح، وتمويل أبحاث الدفاع التعاونية، وتطوير القدرات الدفاعية، وتعزيز مشاريع دفاعية تنافسية ومبتكرة.

ومع اندلاع الحرب، تجلّت مشكلات جمعت بين الاعتماد السابق على الولايات المتحدة، وتوجّه كثير من دول أوروبا نحو تقليص الإنفاق العسكري لصالح برامج الرفاه الاجتماعي. ومع تراجع الولايات المتحدة عن أداء دور “حارس أوروبا”، أصبحت مسألة التسلح الأوروبي شريان حياة لدول الاتحاد وحلف الناتو، متقدمةً على أي مشاريع اجتماعية أو سياسية أخرى. وبين عامَي 2014 و2025، حدثت تحولات كثيرة جعلت من عودة أوروبا إلى نزعة التسلّح واقعًا يستحق الرصد والتحليل.

يشير معهد “سيبري” (SIPRI) لأبحاث السلام، في تقريره عن الإنفاق العسكري العالمي لعام 2024، إلى معطيات تؤكد هذه العودة، فقد ارتفع الإنفاق العسكري في أوروبا (بما في ذلك روسيا) بنسبة 17% ليصل إلى 693 مليار دولار أمريكي، متجاوزًا بذلك المستوى المسجّل في نهاية الحرب الباردة. كما زادت جميع الدول الأوروبية إنفاقها العسكري في ذلك العام، باستثناء مالطا.

الإنفاق العسكري الروسي بلغ 149 مليار دولار، بزيادة قدرها 38% عن عام 2023، وهو ما يُعادل ضعف مستواه في عام 2015، ويُشكّل 7.1% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا. وفي المقابل، نما الإنفاق العسكري الأوكراني بنسبة 2.9% ليصل إلى 64.7 مليار دولار، وهو ما يُمثّل 34% من الناتج المحلي الإجمالي.

تبدو هذه الأرقام منطقية في سياق حرب بين البلدين، غير أن انعكاسات الحرب على باقي أرجاء القارة تتجلّى في أرقام أخرى. فقد رفعت العديد من دول أوروبا الوسطى والغربية إنفاقها العسكري بنهاية العام الثاني من الحرب. ففي ألمانيا، ارتفع الإنفاق بنسبة 28% ليصل إلى 88.5 مليار دولار، لتصبح بذلك أكبر منفق عسكري في أوروبا الوسطى والغربية، ورابع أكبر منفق في العالم. أما بولندا، فقد نما إنفاقها بنسبة 31% ليصل إلى 38 مليار دولار، وهو ما يُمثّل 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي.

أما أعضاء حلف الناتو، فقد بلغ إنفاقهم العسكري رقمًا قياسيًا، بلغ في المتوسط 2% من الناتج المحلي الإجمالي. فقد زادت جميع دول الحلف إنفاقها في عام 2024 ليصل إلى 1506 مليارات دولار، وهو ما يعادل أكثر من نصف الإنفاق العسكري العالمي، بنسبة 55%. ومن بين 32 دولة عضوًا في الحلف، أنفقت 18 دولة ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو أعلى رقم منذ اعتماد الناتو معايير ترشيد الإنفاق عام 2014. وتستحوذ الولايات المتحدة على 66% من إجمالي نفقات الحلف، فيما أنفق الأعضاء الأوروبيون 454 مليار دولار، بما يُعادل 30% من إجمالي الإنفاق.

وفي تحول لافت، رفعت السويد – في عامها الأول من عضوية الناتو – إنفاقها العسكري بنسبة 32% ليصل إلى 12 مليار دولار، أي ما يعادل 2% من ناتجها المحلي الإجمالي.

من ناحية أخرى، بلغ الإنفاق العسكري لأعضاء حلف الناتو رقمًا قياسيًا، إذ وصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث زادت جميع دول الحلف إنفاقها العسكري في عام 2024 ليبلغ الإجمالي 1506 مليارات دولار، أي ما يزيد على نصف الإنفاق العسكري العالمي، بما نسبته 55%. ومن بين الدول الـ32 الأعضاء في الحلف، أنفقت 18 دولة ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي، وهو أعلى عدد يُسجَّل منذ اعتماد الناتو لمبدأ ترشيد الإنفاق عام 2014.

تستحوذ الولايات المتحدة على ما نسبته 66% من إجمالي نفقات الحلف، بينما بلغ الإنفاق العسكري للأعضاء الأوروبيين 454 مليار دولار، بنسبة 30% من إجمالي إنفاق الحلف. أما السويد، ففي عامها الأول كعضو في الناتو، فقد زادت إنفاقها العسكري بنسبة 32% ليصل إلى 12 مليار دولار، أي ما يعادل 2% من ناتجها المحلي الإجمالي. إلى جانب هذه الأرقام، برزت تحولات لافتة في السياسات الدفاعية الجوهرية لعدد من الدول الأوروبية، لا سيما ضمن مشاريع الاتحاد الأوروبي.

تعديلات دستورية وميزانيات بمعايير جديدة

كانت ألمانيا، بصفتها زعيمة الاتحاد الأوروبي وصاحبة القرار الأهم فيه، مضطرة لإحداث تغيير جذري في سياساتها الدفاعية، خاصةً وهي الدولة التي تبنّت النزعة السلامية شعارًا لها بعد إعادة توحيدها، وفي ظل إرث الحروب المدمرة التي خاضتها في القرن العشرين.

ورغم محاولاتها تقليل أثر الحرب الروسية الأوكرانية على مدار ثلاث سنوات، جاءت الصدمة الكبرى مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وإعلانه تقليص مساهمة واشنطن في نفقات حلف الناتو.

استجابةً لتلك الضغوط مجتمعة، صوّت البرلمان الألماني (البوندستاغ) في الثامن عشر من مارس 2025 على مشروع قرار تاريخي لإقرار تعديل دستوري يُجيز زيادة الإنفاق على الدفاع والبنية التحتية وبعض المساعدات الخارجية، إلى جانب الاقتراض لتمويل الصناعات الدفاعية.

وعلّق المستشار الألماني فريدريش ميرتس على ذلك قائلًا: “إن القرار الذي نتخذه اليوم لا يمكن أن يكون أقل من خطوة أولى رئيسية نحو بناء مجتمع دفاعي أوروبي جديد”.

في السياق ذاته، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن التصويت “يوجه رسالة واضحة للغاية إلى أوروبا، مفادها أن ألمانيا عازمة على الاستثمار بكثافة في مجال الدفاع”.

يُغيّر هذا القرار من مبادئ ألمانية ظلّت راسخة لعقود، مثل القيود الصارمة على الاقتراض، والتي كانت تمنع تجاوزه نسبة 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن بعد هذا التعديل، أصبح الاقتراض للأغراض العسكرية غير مقيَّد، مما يتيح تمويل النفقات المتعلقة بالأمن والدفاع والأمن السيبراني ضمن خطة استثمارية ضخمة تبلغ 500 مليار يورو مخصصة للبنية التحتية في البلاد.

وبالفعل، تخطّط ألمانيا حاليًا لإعادة تسليح جيشها من خلال إبرام أكثر من 154 عقدًا رئيسيًا بين سبتمبر 2025 وديسمبر 2026، بقيمة إجمالية تقترب من 83 مليار دولار.

وفي أجزاء أخرى من القارة، أعلنت المملكة المتحدة عن نيتها رفع الإنفاق الدفاعي إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي اعتبارًا من أبريل 2027، مع هدف الوصول إلى 3% خلال الدورة البرلمانية التالية. أما دول مثل بولندا وإستونيا، فقد أعلنت عن خطط لإنفاق ما يصل إلى 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول نهاية العام الجاري.

مشاريع طموحة.. في مرمى النقد والتشكيك

تحت عنوان “ري أرم أوروبا” (ReArm Europe)، قدمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في الرابع من مارس 2025، خطتها الطموحة لإعادة تسليح أوروبا وجعلها على أهبة الجهوزية الكاملة بحلول عام 2030. ورغم أن الخطة لم تلقَ في بدايتها ترحيبًا حارًا، خاصة من قبل رئيسي وزراء إيطاليا وإسبانيا، إلا أن أورسولا شددت على أن أوروبا تواجه تهديدات أمنية غير مسبوقة، ولم يعد النقاش حول ما إذا كان يجب على أوروبا أن تتحمل مسؤولية أمنها، بل حول مدى سرعتها وحسمها في التحرك، وباستقلالية تامة عن الدفاع الأمريكي، إذ يستبعد البرنامج تمويل شركات الدفاع الأمريكية.

تهدف الخطة إلى تمكين استثمارات دفاعية تصل إلى 800 مليار يورو، تُبنى على خمسة أسس رئيسية:

  1. عمل أمني لأوروبا (SAFE): وهي آلية مالية جديدة تهدف إلى جمع ما يصل إلى 150 مليار يورو لتسريع الاستثمارات الدفاعية. تتيح الآلية للدول الأعضاء الحصول على قروض طويلة الأجل منظمة، كما يمكن للدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، مثل أوكرانيا، الاستفادة منها.

  2. تعزيز تمويل الدفاع الوطني: من خلال تشجيع الدول الأعضاء على تفعيل البند الدفاعي في ميثاق الاستقرار والنمو، بما يمنح مرونة إضافية في الميزانيات تسمح بإنفاق دفاعي يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا.

  3. زيادة مرونة أدوات الاتحاد الأوروبي: وذلك للسماح بزيادة الاستثمار الدفاعي على المدى القصير، من خلال تحسين استخدام ميزانية الاتحاد لتوسيع الإنفاق الدفاعي بشكل عاجل.

  4. تفعيل دور بنك الاستثمار الأوروبي: يُطلب من البنك توسيع نطاق الإقراض ليشمل مشاريع الدفاع والأمن، مع الحفاظ على قدرته التمويلية الحالية.

  5. تعبئة رأس المال الخاص: بعد بناء الثقة في السوق عبر القروض الآمنة، تُفعَّل استراتيجية “اتحاد الادخار والاستثمار” لتعبئة التمويل الخاص، بما يضمن تمويلًا مستدامًا لقطاع الدفاع، من الشركات الناشئة إلى كبار المصنعين.

تنطلق معظم الانتقادات الموجهة إلى مشروع المفوضية الأوروبية الطموح من حقيقة أن المفوضية لا تزال لاعبًا حديث العهد نسبيًا في المجال الدفاعي، وتسعى جاهدة لإثبات جدارتها أمام الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من خلال محاولتها معالجة التحديات الصناعية الدفاعية التي تواجهها القارة.

غير أن الباحثَين ألكسندر بوريغوف وغونترام وولف يريان أن المفوضية لم تنجح حتى الآن في إقناع الدول الأعضاء بقيمتها، سواء من حيث الكلفة أو الكفاءة في توجيه السياسة الدفاعية الأوروبية. فالدول الأعضاء لا تزال مترددة في مشاركة معلوماتها الحساسة، سواء فيما بينها أو مع المفوضية، كما أنها تفتقر إلى أنظمة دفاعية موحدة. ويكفي للدلالة على ذلك أن هناك 117 نظامًا دفاعيًا مختلفًا داخل الاتحاد الأوروبي.

كذلك تُشكك بعض الدول الكبرى في جدوى الإنفاق الدفاعي المشترك، وترى أن المبادرات الأوروبية تشكل نوعًا من “الصدقة” لأولئك الذين أهملوا تطوير دفاعاتهم الوطنية. لذلك، فهي ترفض التنازل عن استقلالها الدفاعي لصالح سلطة مركزية في بروكسل. كما تنظر صناعاتها الدفاعية الوطنية بعين الريبة إلى أي تحركات قد تؤدي إلى زيادة المنافسة على حسابها.

وباختصار، كما تشير ورقة وولف وغونترام، فإن دول الاتحاد الأوروبي لا تؤمن حقًا بأن التعاون مع المفوضية سيجعل مشترياتها الدفاعية أو أبحاثها وتطويرها أسرع أو أكثر كفاءة. لا المفوضية محل ثقة، ولا الدول الأعضاء تثق ببعضها البعض. ومن ثم، تنشأ المبادرات الكبرى، مثل “ري أرم أوروبا”، في فراغ سياسي ومؤسساتي، فتبدو كصرحٍ عظيمٍ محكم التصميم، لا يلبث أن يتحوّل إلى خيالٍ ثم يسقط.

تواجه أوروبا المتشككة تلك، جيشًا روسيًا، رغم أن الحرب كانت لها تكلفة كبرى على بلاده، إلا أنه بفضل التعبئة الواسعة التي قام بها الكرملين للمجتمع والصناعة، أصبح ذاك الجيش الآن أكبر حجمًا وأكثر خبرة وتمرسًا، وأفضل تجهيزًا بهيئة أركان عامة تمتلك خبرة ميدانية لا مثيل لها في أي جيش آخر.

في نهاية عام 2024، بلغ تعداد القوات الروسية في أوكرانيا حوالي 700 ألف جندي وهو عدد يفوق بكثير قوة الغزو في عام 2022، وقد شهد الإنتاج الدفاع الروسي تسارعًا ملحوظًا، ففي عام 2024 وحده، أنتجت روسيا وجددت ما يُقدر بـ 1550 دبابة و5700 مركبة مدرعة و450 قطعة مدفعية من جميع الأنواع، لتزيد نسبة إنتاج الدبابات إلى 220% و150% في المركبات الدفاعية و435% في الذخائر بعيدة المدى.

في كل الأحوال، ووفقًا لأي خطة، سيتحتم على أوروبا في مواجهة ذلك الجيش الزحاف أن تظل في زيادة لعملية إنفاقها العسكري، وتحفيز شهوتها تجاه التسلح بكل الطرق، سواء في شكل دفاعي فردي، أو في شكل مبادرات تنطلق من بروكسل.