اتفاق غزة: حين يصبح السلام وجهًا آخر للمحرقة

ترجمة وتحرير: نون بوست

عبدالله أحمد جهاد الحسني، رضيع لم يُكمل عامه الأول، وماسا محمد حمزة الرفيعي، رضيعة لم تُكمل عامها الأول، وسيلين أحمد مفيد اليزيجي، رضيعة لم تُكمل عامها الأول، ورضيع أخر لم يُكمل عامه الأول؛ عالم بأسره لأحدهم، اختفى في لحظة.

في أمستردام، ومع أولى نسمات الخريف التي اجتاحت المدينة، جرى تلاوة أسماء 69,000 شخص قُتلوا في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، اسمًا تلو الآخر، ليلًا ونهارًا دون انقطاع، على مدار خمسة أيام كاملة.

إنه عدد مذهل من القتلى، ومع ذلك يظل رقمًا غير مكتمل إلى حد بعيد، وقد أصبح قديمًا بالفعل بحلول لحظة تلاوة الاسم الأخير.

وبحسب الحسابات التي استخدمتها مجلة لانسيت الطبية في مقال نُشر عام 2024، فإن العدد الحقيقي قد يصل إلى نصف مليون شخص، وربما أكثر. وهذا يعني أن محور الإبادة الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي قد أودى بحياة نحو ربع سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.

هذه هي المحرقة في عصرنا.

أشباح غزة

بينما كنت أكتب هذا المقال، دمرت إسرائيل 17 منزلاً ومبنى سكنياً ومسجداً. بحلول وقت نشر هذا المقال، من المرجح أن يكون أولئك المحاصرون تحت الأنقاض قد اختنقوا وسط الغبار الكثيف، أو ماتوا عطشًا، أو أنهم يذبلون ببطء، يتمنون أن يأتي الموت بسرعة ليخلصهم من عذابهم.

وربما يأتي يوم يُستخرج فيه رفات آلاف الأشخاص الذين ماتوا وحيدين في شقوق المباني المنهارة، عالقين بين كتل إسمنتية لا يمكن تحريكها.

من المرجّح؛ إذا استمرت إسرائيل في الإفلات من العقاب على جرائمها، أن يُمحى هؤلاء إلى الأبد، حيث تُسحق عظامهم في تراب فلسطين المشبع بالدماء، أو تُلقى في مياه البحر الأبيض المتوسط، فلا يبقى منهم سوى أشباح تتعقب المستوطنين الصهاينة الذين سرقوا وطنهم واحتلوه.

أما الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء لم يتم التعرف عليها، فلم تُسجّل وفاتهم. فالقنابل الخارقة للتحصينات، أمريكية الصنع، التي أُلقيت من طائرات مقاتلة أمريكية وأوروبية، حفرت حُفرًا عميقة في مناطق مكتظة بالسكان كانت تنبض بالحياة، وحوّلتها إلى مقابر جماعية تضم أجزاءً مبعثرة من أجساد مجهولة الهوية.

والهجمات على فرق الدفاع المدني تعني أن العديد من الجثث، على الرغم من إمكانية التعرف عليها عند مقتل أصحابها، لم يتم انتشالها. وتتحلل هذه الجثث تحت أشعة الشمس الحارقة، وتنهشها الحيوانات التي تلتهم الأطراف والأعضاء وحتى العيون، حتى لا يبقى منها سوى عظام بيضاء نُزعت عنها كل بقايا اللحم.

لقد أصبحت غزة جحيم على الأرض؛ حيث تضم قائمة القتلى المعروفين في غزة عائلات بأكملها – من البالغين إلى المراهقين والأطفال والرُضّع– جميعهم يحملون نفس الألقاب، وقد رحلو جميعًا.

هل نجا أحد؟ هل بقي من يتذكر هذه العائلات؟ من سيجهر بأسمائهم في وطنهم؟ أم ستُقرأ فقط من بعيد، على أيدي أناس لم يعرفوهم قط، لكن قلوبهم تنفطر لأنهم رحلوا؟

هذه حرب إبادة، وحكوماتنا متواطئة فيها. فعلى مدى قرون، قامت القوى الاستعمارية الأوروبية بمحو شعوب بأكملها، وما يحدث في غزة لا يختلف عن ذلك.

لكن ما يجعل الأمر أكثر إيلامًا هو أنه لا يحدث في الخفاء، ولا نعلم به إلا بعد وقوعه؛ فالفلسطينيون يوثّقون محوهم بأنفسهم لحظة بلحظة، ونحن نشاهد ذلك مباشرة.

لقد اتخذت المؤسسات السياسية والاقتصادية، بقيادة القوى الغربية وبتواطؤ أو تساهل من عدد من الدول العربية، قرارًا مدروسًا بأن يتم التضحية بالشعب الفلسطيني من أجل الحفاظ على نظام عالمي إمبريالي وأبيض، وأوروبي استعماري.

حرب لا تنسى

بينما كنّا نتلو الأسماء، اسمًا بعد آخر، من داخل خيمة في هولندا، راودنا سؤال: هل أُحرق من حملوا هذه الأسماء أحياءً في خيام مشابهة بمنطقة المواصي؟

انتشرت صور الأجساد المتفحمة في جميع أنحاء العالم، وشاهدها الناس بذهول ورعب، وإن كنا قد وُقينا رائحة اللحم المحترق التي لا تُحتمل. وفي النهاية، انطفأت تلك الأرواح كما انطفأت النيران التي التهمتها.

هل كان من بين الأسماء التي تمت قراءتها بصوت عالٍ أولئك الخمسة والأربعون الذين أُحرقوا أحياءً في غارة جوية إسرائيلية على رفح؟ أم أن بقاياهم المتفحمة كانت أشد احتراقًا من أن يتم التعرف عليها؟ لقد كانت رفح خطًا أحمر، والآن لم تعد موجودة.

ومع تدفّق الأسماء من أكوام الصفحات المتراكمة على المنصة، كان من المستحيل ألا يتساءل المرء: أي اسم يقترن بأي جريمة قتل؟ إذ كانت الوفيات تحدث واحدة تلو الأخرى، فيما تمضي إسرائيل بوحشية في محو كل أثر للحياة الفلسطينية من غزة.

وأنا أقرأ الأسماء، كانت صورة واحدة تتكرر في ذهني؛ مقطع فيديو لانفجار قنبلة، كان تأثيره عنيفًا ووحشيًا، لدرجة أن شخصين طارا في الهواء لمسافة مئات الأقدام.

في أحد أيام الشتاء الماضي، علقت في ذهني تلك اللقطات التي لا تتجاوز مدتها 16 ثانية. ولم أستطع مشاهدتها حتى النهاية، لكنني لم أستطع التوقف عن محاولة مشاهدته. كان الفيديو عبارة عن مشهد لسطح منزل، وانفجار مدوٍ، وسحابة دخان، وصراخ يجمّد الدم في العروق، وجسدين يُقذفان إلى السماء قبل أن يهويَا من جديد إلى الأرض.

في أي لحظة تحديدًا فارقوا الحياة؟ هل كان ذلك عندما قُذفوا في الهواء؟ أم حين ارتطموا بالأرض؟ هل قرأتُ أسماءهم؟ من كانوا في حياتهم؟ هل أخون إرثهم حين لا أستحضرهم إلا في موتهم؟

ثمّة مقاطع أخرى أيضًا؛ صور لأطفال يصرخون وطفل يحمل رأس والده المبتور وهو ينوح، متوسلًا أن يعود إلى الحياة. هل قرأتُ اسم الأب؟ هل نجا الطفل؟ كانت صرخاته ممزقة إلى حد أن المرء يتساءل: هل كان من الأفضل ألا ينجو؟

وماذا عن الأطباء الذين تم استهدافهم واحدًا تلو الآخر، بينما يصطف القناصة الإسرائيليون ويوجّهون بنادقهم كما لو كانوا في لعبة إلكترونية؟ وماذا عن المستشفيات التي دُكّت بالدبابات الإسرائيلية حتى لم يبقَ مرفق صحي واحد يعمل؟

إن غياب المساءلة عن هذه الجرائم الصارخة يبعث برسالة مرعبة: أن ما يُمحى في غزة ليس فقط الشعب الفلسطيني، بل القانون الدولي ذاته.

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وبينما كان مستشفى الشفاء تحت الحصار، وقف قادة أوروبيون على بُعد نحو 15 كيلومترًا فقط، يلتقطون الصور التذكارية في كيبوتس بئيري، برفقة من أصدروا الأوامر بتدمير غزة.

وظهرت لاحقًا صور لمقابر جماعية تضم مئات الجثث التي سُحقت تحت الجرافات، في مشاهد مروّعة يُرجَّح أنها وقعت بينما كان قادة أوروبيون يتناولون الطعام ويتبادلون الأنخاب مع الجناة على بُعد مسافة قصيرة مكانيًا، لكنها بعيدة كل البعد إنسانيًا وأخلاقيًا.

وبعد أسابيع، مات أطفال حديثو الولادة، الذين لم يعرفوا بعد دفء اللمسة البشرية، وحدهم داخل الحاضنات، بعدما أُجليت المستشفيات قسرًا ونفد الوقود الذي كان يُبقيهم على قيد الحياة.

لا عدالة ولا سلام

كان من بين قتلى غزة سعيد درويش الكيلاني، وهو رجل يبلغ من العمر 84 عامًا، وُلد في أرض كانت حرّة، في فلسطين التي كانت موجودة قبل أن يحتلها الكيان الصهيوني.

هل سار سعيد في أراضي بيت لاهيا أو بيت حانون الخصبة عندما كان طفلًا، يقطف الزيتون في أواخر الخريف، ويتلذذ بالحمص وخبز الصاج؟ هل اصطاد السمك من مياه البحر المتوسط الغنية، وملأ بطنه على شاطئه عند الغروب؟ هل رقص الدبكة، ووقع في الحب تحت سماء ليلية أضاءتها آلاف النجوم، لا القنابل ونيران الطائرات المسيّرة؟

في سنواته الأخيرة، شهد سعيد سقوط أكثر من 200 ألف طن من القنابل على وطنه، وهي كمية تفوق ما تم استخدامه في الحرب العالمية الثانية، قبل أن يُقتل هو وغيرُه من كبار السن الذين وُلدوا في فلسطين الحرّة ونجوا من نكبة 1948، على يد النظام الصهيوني.

ماذا كان ليقول عن إعادة طرح “حل الدولتين” الفاشل بالفعل في الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ أو عن “خطة السلام” التي قدمها الرئيس ترامب والتي تستثني فلسطينيي غزة؟ أو عن الدول التي تعترف بدولة فلسطين بينما تواصل تسليح ودعم الكيان الذي يمحوها؟

إن هذه “الحلول” المزعومة بعيدة كل البعد عن جوهر القضية، إلى درجة أنه حين نصل إلى ما يُفترض أن يكون حلاً، قد لا يبقى فلسطينيون في فلسطين.

لا شك أن الحل الحقيقي يبدأ بوقف فوري للإبادة الجماعية، وتحقيق العدالة للناجين منها، وينتهي بتفكيك المستعمرة الصهيونية بالكامل، بما في ذلك طرد المستوطنين من الأراضي التي استولوا عليها، وإعادتهم إلى أوروبا الولايات المتحدة، وغيرها.

أما المؤسسات الإعلامية التي تجاهلت المجازر اليومية بحق الفلسطينيين وطبّعت معها، فقد مارست هذا التواطؤ بالفعل. فبعد “خطة السلام” التي طرحها ترامب، عاد اهتمام الإعلام للتركيز على قضية الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، متجاهلًا التجويع المستمر، وسبل الموت المتعددة التي لا يزال الفلسطينيون يواجهونها نتيجة الإبادة الجماعية، حتى لو توقفت القنابل مؤقتًا.

وفي الوقت نفسه، بالنسبة لكثير من السياسيين، تُعد غزة مصدر إزعاج، والفلسطينيون الجائعون مشهدًا غير مرغوب فيه. متى ستنتهي إسرائيل من “إنجاز المهمة“، كي يتمكن هؤلاء من حضور حفلات العشاء والمآدب الفاخرة دون أن يُفسد عليهم النشطاء الفلسطينيون المناسبة بتذكيرهم بتواطئهم في الإبادة الجماعية؟

يغيب تمامًا عن “خطة السلام” أي تصور للعدالة أو المساءلة عن القتل المنهجي واسع النطاق، وهو أمر لا يثير الدهشة، بالنظر إلى أن من صاغوا الخطة هم أنفسهم من نفّذوا ذلك.

فبدون عدالة، لن يكون هناك سلام.

كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “نحن القادرون على التذكّر، قادرون على التحرير”. لذا، وعلى الرغم من العبثية والغضب واليأس الناتج عن إدراك أن استذكار قتلى غزة، فيما يستمر قتل المزيد، لن تقف المحرقة ولن تتحقق العدالة، فإننا نواصل، على أمل أن تُحدث جهودنا الجماعية، يومًا ما، أثرًا تراكميًا قد يُفضي إلى شيء.

لا بد أن يحدث ذلك؛ فطالما أن الفلسطينيين ينهضون كل صباح ليواجهوا ما لا يُحتمل في غزة، فإن علينا واجبًا أخلاقيًا بأن نضمن ألا تنتهي هذه القصة بمحوهم، بل بتحريرهم.

المصدر: ميدل إيست آي