ما جرى في غزة لم يكن “حربًا” و”وقف إطلاق النار” كذبة مماثلة

ترجمة وتحرير: نون بوست
تستمر اتفاقات وقف إطلاق النار عندما تبلغ الأطراف المتحاربة حالة من الجمود العسكري، أو عندما تفوق الحوافز التي تدفع كل طرف إلى إلقاء السلاح تلك التي تحثه على مواصلة سفك الدماء، ولا ينطبق أي من ذلك على غزة.
لقد شهد القطاع الكثير من الأحداث خلال العامين الماضيين، لكن ما حدث لم يكن حربًا قط، مهما أراد الساسة والإعلام الغربي إقناعنا بذلك. وهذا يعني أن الرواية الحالية عن “وقف إطلاق النار” ليست سوى كذبة، تمامًا كالرواية السابقة عن وجود “حرب في غزة”.
إن وقف إطلاق النار ليس “هشًّا” كما يُقال لنا باستمرار، بل هو غير موجود من الأساس، كما يتضح من الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة، من خلال استمرار جنودها في إطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين وقتلهم، ومنع المساعدات الموعودة.
فما الذي يحدث حقًا؟
لفهم “وقف إطلاق النار” و”خطة السلام” التي اقترحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تتكون من 20 بندا، والتي لا تقل تضليلا عن وقف إطلاق النار، علينا أولًا أن نفهم ما الذي كانت تحاول إخفاءه السردية السابقة عن “الحرب”.
خلال الأربعة والعشرين شهرًا الماضية، شهدنا أمرًا بالغ الخطورة. رأينا مجازر عشوائية بحق سكان مدنيين كانوا يعيشون أصلًا تحت حصار دام 17 عامًا فرضته إسرائيل، القوة العسكرية الإقليمية المدعومة والمسلّحة من القوة العسكرية العالمية: الولايات المتحدة.
شاهدنا تدمير كل مباني غزة تقريبًا، وتحول القطاع إلى معسكر اعتقال، وأُجبرت العائلات على الإقامة في خيام مؤقتة، كما حدث عندما طُردوا من أراضيهم قبل عقود تحت تهديد السلاح فيما يُعرف الآن باسم إسرائيل. لكنهم تعرضوا هذه المرة لمزيج سام من غبار أنقاض منازلهم السابقة وبقايا مواد متفجرة تعادل ما أُسقط على هيروشيما مرات عديدة.
رأينا سكانًا أسرى يتضورون جوعًا منذ أشهر طويلة، في سياسة لا يمكن وصفها في أحسن الأحوال إلا بأنها عقاب جماعي سافر، وجريمة ضد الإنسانية يُلاحق بسببها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من قِبل المحكمة الجنائية الدولية.
تعرض مئات الآلاف من أطفال غزة تعضوا لأضرار جسدية، بالإضافة إلى الصدمات النفسية، نتيجة سوء التغذية الذي غيّر تركيبة حمضهم النووي، وهو ضرر يُرجّح أن ينتقل إلى الأجيال القادمة.
شاهدنا مستشفيات غزة تُفكك واحدة تلو الأخرى بشكل منهجي، حتى انهار القطاع الصحي بأكمله، وأصبح غير قادر على التعامل مع تدفق الجرحى أو الموجة المتزايدة من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية.
ورأينا عمليات تطهير عرقي واسعة النطاق، حيث أُجبرت العائلات – أو ما تبقى منها – على النزوح من “مناطق الإبادة” إلى مناطق وصفتها إسرائيل بأنها “آمنة”، لتتحول تلك المناطق سريعًا، ودون إعلان مسبق، إلى مناطق إبادة جديدة.
ومع تصاعد ضغط ترامب من أجل “وقف إطلاق النار”، رأينا إسرائيل تطلق موجة عنف عارمة، لتدمر أكبر قدر ممكن من مدينة غزة قبل حلول الموعد النهائي لوقف إطلاق النار.
سردية “حرب غزة”
لا يمكن، ولا ينبغي وصف أي من هذا بأنه حرب. الأمم المتحدة، وكل منظمات حقوق الإنسان الكبرى في العالم، بما في ذلك منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية، وأبرز الهيئات الأكاديمية المتخصصة في دراسات الإبادة الجماعية، تتفق على أن ما حدث في غزة يندرج تحت تعريف الإبادة الجماعية، كما ورد في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، والتي صادقت عليها إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، حاول الخطاب الإسرائيلي والغربي حول “الحرب” تسويق سردية لا تقل زيفًا عن “وقف إطلاق النار” و”آمال السلام” للرأي العام الغربي.
إن كذبة وقف إطلاق النار الحالي هي الوجه الآخر لكذبة “حرب غزة” التي رُويت لنا على مدار العامين الماضيين، وهو وصف يخدم الغرض ذاته: التغطية على الأهداف الإسرائيلية الكبرى.
يوم الثلاثاء، وأثناء ما يُسمى “وقف إطلاق النار”، وبينما كان يتم تبادل الجثث بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واصلت إسرائيل قتل المزيد من الفلسطينيين. كانت صحيفة “فايننشال تايمز” من بين وسائل الإعلام التي أفادت بأن جنودًا إسرائيليين قتلوا عددا من الفلسطينيين في ذلك اليوم.
ونشر جنود إسرائيليون في وقت سابق مقاطع فيديو وهم يحرقون المنازل والمؤن الغذائية ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي الحيوية أثناء انسحابهم من مدينة غزة.
بعبارة أخرى، لم تكن لدى إسرائيل أي نية لوقف إطلاق النار، وهذا نمط مألوف.
قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 170 فلسطينيًا خلال “وقف إطلاق نار” سابق عمل عليه ترامب في يناير/ كانون الثاني، ثم أنهته من جانب واحد بعد أسابيع لتستأنف الإبادة الجماعية.
وقد سُجل أكثر من 4,500 خرق إسرائيلي لبنود وقف إطلاق النار الذي يفترض أن يكون ساريًا في لبنان منذ العام الماضي تحت إشراف الولايات المتحدة وفرنسا.
وحسب ملاحظة السفير البريطاني السابق، كريغ موراي، حول فترة وقف إطلاق النار، فقد قتلت إسرائيل “مئات الأشخاص، بينهم رُضّع، وهدمت عشرات الآلاف من المنازل، وضمّت خمس مناطق من لبنان”.
فهل يتصور أحد أن غزة، تلك الرقعة الصغيرة التي لا تملك جيشًا ولا مقومات دولة، ستلقى مصيرًا أفضل من لبنان في ظل وقف إطلاق نار إسرائيلي؟
مسرحية وقف إطلاق النار
قد يكون وقف إطلاق النار مجرد هدنة مؤقتة في خضم حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة منذ عامين، لكنه لا يوقف بأي حال من الأحوال الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود للأراضي الفلسطينية، والذي يُعد السبب المحرّك لما يُسمى “الحرب”، فالاحتلال مستمر.
وهو لا يوقف أيضًا بأي حال من الأحوال نظام الفصل العنصري الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، والذي اعتبرته أعلى محكمة في العالم العام الماضي غير قانوني.
وطالبت محكمة العدل الدولية حينها إسرائيل بالانسحاب الفوري من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك غزة، كما دعت الدول الأخرى إلى الضغط عليها لتنفيذ هذا الانسحاب.
وقد أمهلت الجمعية العامة للأمم المتحدة إسرائيل حتى الشهر الماضي للامتثال لقرار محكمة العدل الدولية، لكن إسرائيل لم تكتف بتجاهل هذا الموعد النهائي، بل مازالت تنشر جنودها بشكل مباشر في أكثر من نصف مساحة غزة حتى خلال ما يُسمى بـ”وقف إطلاق النار”.
بالإضافة إلى ذلك، تواصل إسرائيل السيطرة على كامل أراضي غزة عن بُعد عبر طائرات التجسس والطائرات الهجومية والمقاتلات الحربية وتقنيات المراقبة والحصارين البري والبحري.
ومن البديهي أن الدولة التي تنوي تنفيذ الإبادة الجماعية لا تملك سببًا لوقفها ما لم تُجبر على ذلك من طرف أقوى.
وقد استعرض ترامب قوته على الساحة الدولية متظاهرًا بأنه يقوم بهذا الدور من خلال الضغط على إسرائيل وحماس. لكن هذه المسرحية لا يصدقها سوى السذّج والنخب السياسية والإعلامية الغربية.
إن “وقف إطلاق النار” ليس “هشًّا”، بل تم تصميمه ليفشل، لا ليمهد الطريق إلى السلام. والغرض الحقيقي منه هو منح إسرائيل تفويضًا جديدًا لاستئناف الإبادة الجماعية.
سجناء مجردون من إنسانيتهم
لقد أُجبر الفلسطينيون على العيش في معادلة مستحيلة على مدى عقود من الزمن: فهم يُعاقبون إن قاوموا، ويُعاقبون إن لم يفعلوا شيئا. أي مقاومة للاحتلال الوحشي تؤدي إلى مذابح – أو ما تسميه إسرائيل “جزّ العشب” – فضلًا عن تصنيفهم كـ”إرهابيين”.
أما سياسة عدم المقاومة، التي تنتهجها السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس في الضفة الغربية، فتترك الفلسطينيين عرضة للتهميش، حيث يعيشون كسجناء دائمين مجردين من إنسانيتهم تحت الحكم الإسرائيلي، ويُحشرون في مناطق محمية تتقلص باستمرار، بينما يُسمح للميليشيات اليهودية ببناء المستوطنات على أراضيهم.
هذا هو نفس “الاختيار” الزائف الذي يتمحور حوله وقف إطلاق النار الحالي.
لقد حصلت حماس على صفقة تبادل أسرى – بعد أن تم اختطاف آلاف الفلسطينيين من الشوارع (وسيجري اختطاف آلاف آخرين قريبًا ليحلوا محلهم) – بينما نال سكان غزة هدنة قصيرة من حملة التجويع والإبادة التي تشنها إسرائيل. كانت هذه هي الصيغة التي حُوصرت بها حماس للموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تعرف تمامًا أنه مليء بالفخاخ.
أبرز هذه الفخاخ هو الشرط المفروض على حماس بإعادة آخر الإسرائيليين المحتجزين في غزة، بمن فيهم 28 جثة، مقابل الإفراج عن نحو 2000 أسير فلسطيني من السجون الإسرائيلية. وقد حدد الاتفاق مهلة زمنية مدتها 72 ساعة لإتمام صفقة التبادل.
لكن حماس واجهت صعوبة في تحديد مواقع دفن القتلى، وقد أعادت حتى الآن 10 جثث فقط، ويبدو أن إحداها لا تعود لإسرائيلي.
تحولت غزة إلى أرض قاحلة تفتقر إلى المعالم التي يمكن من خلالها تحديد مواقع الدفن الأصلية، أما جبال الأنقاض التي ترقد تحتها جثث الإسرائيليين – والتي تسببت بها القنابل الخارقة للتحصينات التي قدمتها الولايات المتحدة لإسرائيل، والتي يُرجّح أنها أدت إلى مقتل الرهائن – فيكاد يكون من المستحيل تحريكها دون آلات ثقيلة، وهي آلات تفتقر إليها غزة.
وحتى لو أمكن تحديد المواقع وإزالة الأنقاض، فقد تكتشف حماس أن الجثث لم تعد موجودة، وأنها قد تبخرت إلى جانب الضحايا الفلسطينيين بفعل القنابل الإسرائيلية. وبالطبع، هناك مشكلة أخرى محتملة: قد تكون بعض الجثث موجودة في المناطق التي لا تزال إسرائيل تحتلها، والتي تزيد عن نصف أراضي غزة، وهي مناطق لا تستطيع حماس الوصول إليها.
وقد أقرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهي الجهة المحايدة الأكثر تخصصًا في هذا الشأن، بأن العثور على الجثث في هذه الظروف سيكون “تحديًا هائلاً”.
والجدير بالذكر أن وسائل الإعلام الغربية، التي لم تتردد في تضخيم مزاعم إسرائيل بشأن سوء نية حماس في إعادة الجثث، وكذلك معاناة العائلات الإسرائيلية التي تنتظر جثث أبنائها، لم تقم بتغطية مماثلة لحالة الجثث الفلسطينية التي أعادتها إسرائيل.
وصلت الجثث المبردة إلى مستشفى ناصر في غزة دون أي شكل من أشكال التعريف، ولم يتمكن الطاقم الطبي هناك من إجراء اختبارات الحمض النووي بسبب الدمار الذي ألحقته إسرائيل بمرافقه، وبذلك لن تتعرف العائلات على أحبائها إلا إذا بذلت جهودا إضافية.
ستكون تلك مهمة مروّعة ومؤلمة، فقد أشار الأطباء إلى أن الجثث المعادة لا تزال مكبّلة الأيدي ومعصوبة العينين، وأنها أُعدمت برصاص في الرأس، مع علامات واضحة على تعرضها للتعذيب قبل وبعد الوفاة.
وفي الوقت نفسه، استغلت إسرائيل التأخير حتى تواصل سياسة التجويع في غزة حتى قبل انتهاء مهلة الـ 72 ساعة المحددة للتبادل، وقيدت المساعدات الضرورية لمعالجة المجاعة التي سببتها في القطاع.
والأخطر من ذلك، أن تقارير إعلامية إسرائيلية تشير إلى أن الولايات المتحدة وافقت على “بند سري” يسمح لإسرائيل باستئناف “حرب الإبادة” إذا لم تتمكن حماس من تسليم جميع الجثث خلال المهلة المحددة بثلاثة أيام.
فخ مزدوج
إذا تمكنت حماس من تجاوز هذا الفخ، فهناك شرط آخر يُفرض عليها: نزع السلاح، ويُصوَّر هذا الشرط باعتباره تمهيدًا لعملية “السلام”. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أنه حتى لو تخلّت حماس عن سلاحها، فلن يكون السلام هو النتيجة.
أطلق ترامب هذا الأسبوع تهديدات غير محددة كعادته، قائلًا: “إذا لم ينزعوا [حماس] سلاحهم، فسنقوم نحن بنزع سلاحهم”. وأضاف أنه إذا تدخلت الولايات المتحدة، “فسيحدث ذلك بسرعة وربما بعنف. لكنهم سينزعون سلاحهم”.
هذا ما يضع حماس وغيرها من الفصائل التي تمارس المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي – وهو حق معترف به في القانون الدولي – في فخ مزدوج متعمد.
أولًا، سيكون سكان غزة، إذا نُزع سلاحهم، أكثر عجزًا في مواجهة الهجمات الإسرائيلية.
وبغض النظر عن صواب أو خطأ استراتيجية حماس العسكرية، فإنه يصعب تجاهل حقيقة أن الخسائر التي تكبدتها القوات الإسرائيلية في المعارك – من حيث الصدمات النفسية وأعداد الضحايا – شكلت نوعاً من الضغط المضاد.
خرج عدد كبير من الإسرائيليين إلى الشوارع احتجاجًا على سياسات نتنياهو في غزة، وليس ذلك بسبب اهتمامهم بمئات الآلاف من الفلسطينيين القتلى والمصابين هناك، لكن دوافع احتجاجاتهم – كما تُظهر استطلاعات الرأي – ترتبط بالقلق على مصير الأسرى الإسرائيليين في غزة، وبالعبء الذي يتحمله الجنود الإسرائيليون.
لذلك فإن حماس والكثير من سكان غزة يخشون أن يؤدي نزع السلاح إلى تغيير معادلة الكلفة والعائد لدى الإسرائيليين بشكل أكبر لصالح استمرار الإبادة الجماعية، مما يهدد بمزيد من سفك الدماء، لا بتحقيق السلام.
معادلة خاسرة
ثانيًا، لا يرجح أن توافق حماس على نزع السلاح في ظل وجود عصابات إجرامية مسلّحة ومدعومة من إسرائيل، وبعضها مرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية، في شوارع غزة.
لقد أدرك الفلسطينيون منذ زمن بعيد أن طموح إسرائيل هو تقويض الحركات الوطنية الفلسطينية الكبرى – سواء كانت حماس أو فتح – عبر دعم أمراء حرب ليحلوا محلّهم.
حذرني أحد المحللين الفلسطينيين قبل 14 عامًا من مخاطر ما وصفه بخطة إسرائيل لـ”أفغنة” غزة والضفة الغربية.
وتتمثل الاستراتيجية الإسرائيلية النهائية في سياسة “فرّق تسد” عبر تشجيع زعماء العشائر المتنافسة الذين يركزون على حماية إقطاعياتهم الصغيرة ومحاربة بعضهم البعض، بدلًا من مقاومة الاحتلال غير القانوني والسعي نحو دولة فلسطينية موحدة.
في ذروة الإبادة الجماعية، ظهرت خطورة هذه السياسة على الفلسطينيين. بمساعدة من إسرائيل، ومع وجود أغلب مقاتلي حماس داخل الأنفاق، نهبت هذه العصابات شاحنات المساعدات، وسرقت المعونات من العائلات الضعيفة، ثم احتفظت بالطعام لعائلاتها وباعت الباقي بأسعار باهظة لا يستطيع معظم الناس تحملها. أما الآخرون، فقد تُركوا ليموتوا جوعًا.
وإذا تخلّت حماس عن سلاحها، ستحظى هذه العشائر بحرية مطلقة بدعم من إسرائيل. لا تريد حماس، ولا غالبية سكان غزة رؤية هذا السيناريو يتكرر. هذا ليس طريقًا نحو السلام، بل نحو استمرار الاحتلال الإسرائيلي الوحشي الذي يساعد في تنفيذه وكلاء محليون.
ومما يثير الحيرة أن ترامب يبدو وكأنه يدرك جزءًا من هذا الواقع، فقد قال يوم الثلاثاء إن حماس “قضت على عصابتين سيئتين للغاية… وقتلت عددًا من أفراد العصابات. وهذا لم يزعجني كثيرًا بصراحة. لا بأس بذلك”.
فما الذي يتصور ترامب إذًا أنه سيحدث إذا ألقت حماس سلاحها، كما يطالب هو وإسرائيل؟ ألا يُحتمل أن تعود تلك “العصابات السيئة للغاية” للظهور؟
هذا بالضبط هو الفخ المزدوج الذي تريد إسرائيل أن تُغرق فيه حماس وغزة.
إرباك متعمد
زاد ترامب من إرباك الموقف يوم الأربعاء الماضي، محذرًا من أن إسرائيل ستستأنف هجماتها على غزة إذا لم تتخل حماس عن سلاحها “بمجرد أن أنطق بالكلمة”.
ذهب ترامب إلى أبعد من ذلك في اليوم التالي، ملمّحًا إلى أن الولايات المتحدة نفسها قد تتدخل في غزة. وكتب على حسابه على تويتر: “إذا استمرت حماس في قتل الناس في غزة، وهو ما لم يكن جزءًا من الاتفاق، فلن يكون لدينا خيار سوى التدخل وقتلهم”.
فما الذي يُفترض أن يملأ الفراغ الناتج عن احتمالين شبه مستحيلين: حلّ حماس لنفسها، وانسحاب إسرائيل الكامل من غزة؟
تصرّ إسرائيل على عدم وجود أي شكل من أشكال الحكم الفلسطيني في القطاع، ويشمل ذلك نظام عباس المتعاون معها في الضفة الغربية. كما تواصل رفض الإفراج عن مروان البرغوثي، القيادي الفتحاوي المعتقل منذ سنوات، والذي يُعد الشخصية الوحيدة القادرة على توحيد الصف الفلسطيني، وغالبًا ما يُشار إليه بـ”نيلسون مانديلا الفلسطيني”.
لو كانت إسرائيل مهتمة حقًا بإنهاء الاحتلال وتحقيق “السلام”، فإن كان البرغوثي هو الخيار الأمثل. لكن بدلًا من ذلك، تتردد تقارير بأنه يتعرض مجددًا للضرب الوحشي على يد سجانيه، مما يعرض حياته للخطر.
إن رؤية ترامب للسنوات القادمة لا تقدم سوى ما يُعرف بـ”مجلس السلام” سيء السمعة، وهي إدارة من الطراز الاستعماري الصريح، يُفترض أن تحكم من مصر لا من غزة، ويُتوقع أن يترأسها توني بلير “نائبا عن الملك”. وقد ساعد رئيس الوزراء البريطاني السابق الولايات المتحدة قبل عقدين في تدمير العراق، مما أدى إلى انهيار مؤسسات البلاد وموت الآلاف من العراقيين.
أما على الأرض، يتصور ترامب وجود “قوة استقرار” أجنبية. لكن هذه القوات، إن ظهرت أصلًا، لن تكون على الأرجح أكثر فعالية في مواجهة العدوان الإسرائيلي من قوات حفظ السلام في لبنان، والتي فشلت لعقود في كبح انتهاكات إسرائيل.
هاجمت إسرائيل مرارًا قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، ولم تفعل هذه القوات شيئًا يُذكر لوقف انتهاكات إسرائيل المستمرة لما يُسمى “وقف إطلاق النار”.
لن تستطيع قوة الاستقرار فعل الكثير لمنع تدخل إسرائيل المباشر في غزة عبر الاغتيالات بالطائرات المسيّرة، أو القيود التي تفرضها على استيراد الإسمنت والغذاء والإمدادات الطبية، أو الحصار البحري المفروض على مياه غزة الإقليمية.
إن رؤية ترامب لـ”السلام” هي أن يعيش الفلسطينيون حياة بائسة وسط أنقاض غزة، تحت رحمة طائرات إسرائيل المسيّرة التي تراقبهم باستمرار.
قال رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، لموقع “ذا إنترسبت” هذا الأسبوع إن ما سنشهده على الأرجح خلال الأسابيع والأشهر المقبلة هو انتقال إسرائيل من الإبادة الجماعية العشوائية إلى ما وصفه بـ”إبادة جماعية منظمة، وتهجير قسري منظم”.
ستتمكن إسرائيل الآن من التحكم في الوضع عن بعد وعرقلة إعادة إعمار القطاع، وإرسال رسالة واضحة إلى السكان المعوزين في غزة بأن خلاصهم لن يتحقق أبداً.
لن يكون مستقبل الضفة الغربية مستقبل سلام أيضًا، بل ستكثف إسرائيل فظائعها هناك، وتحوّل التجمعات السكنية الصغيرة التي حُشر فيها الفلسطينيون تدريجيًا إلى “غزات” مصغّرة.
لن تنتهي المقاومة الفلسطينية في مثل هذه الظروف، فلا يوجد شعب في التاريخ استسلم للعبودية والقهر بشكل دائم، والفلسطينيون لن يكونوا استثناءً.
المصدر: ميدل إيست آي