حرب الجواسيس.. كيف قلبت تركيا الطاولة على “إسرائيل”؟

في الشرق الأوسط، حيث تختلط رائحة النفط بالبارود، تُدار معارك أشد ضراوة في أروقة الظل، معارك لا تُقاس بالمدافع أو بالخسائر الميدانية فحسب، بل بالمعلومات، وبشبكات الاتصالات، وبأشخاص يُجنَّدون ويُستغَلّون في صمت.

في السنوات الأخيرة، دخلت تركيا بثقلها في هذا المضمار، لتغيّر موازين اللعبة الاستخبارية مع “إسرائيل” في الشرق الأوسط، ليس بإعلان نصرٍ عابر، بل عبر استعراض قدرة استخباراتية وتنظيمية أعادت تعريف قواعد الاشتباك في قضايا التجسس على أراضيها.

العنوان الأبرز في هذه الحرب غير المعلنة هو ما بات يُعرف بـ”عملية ميترون”، التي كشفت عن شبكة تجسّس اتهمت أنقرة أنها تعمل لصالح جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد)، لكن هذه العملية ليست منعزلة، بل هي نقطة التقاء في خط طويل من التصادم الاستخباري بين تركيا و”إسرائيل”.

في هذا التقرير، سنغوص في تفاصيل هذه المواجهة التي شكّلت ذروة صراع طويل بين جهاز المخابرات التركي والموساد، ونرسم خريطة المعركة الرقمية والسرّية، ونحاول فهم الرسائل والتداعيات.

السقوط في مصيدة الاستخبارات التركية

في فجر الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 2025، نفّذت المخابرات التركية عملية نوعية حملت الاسم الكودي “ميترون”، الذي بدا غريبًا منذ اللحظة الأولى، فلا هو اسم عميل، ولا مدينة، ولا حتى كلمة معروفة في عالم الاستخبارات، لكن في الحقيقة كان الاسم رسالة مشفرة بحد ذاتها.

المداهمات التي جرت في إسطنبول، بالتنسيق مع فرع مكافحة الإرهاب والنيابة العامة، استهدفت شخصًا بدا في الظاهر رجلًا تركيًا بسيطًا يُدعى سركان تشيتشك، لكنّ التحقيقات كشفت سريعًا أن هذا الاسم ليس إلا قناعًا لشخص آخر يُدعى محمد فاتح كيليش، وقد غيّر اسمه بعد تراكم الديون عليه.

كان تشيتشك يعمل كمحقق خاص، وله علاقات في دوائر التحريات، وأنشأ عام 2020 مكتبًا صغيرًا باسم “باندورا للتحريات”، يتعامل مع قضايا مدنية بسيطة، ويقدّم خدمات مراقبة وبحث لصالح شركات أو أفراد، ويبيع المعلومات في سوق مفتوح، لكن في لحظة ما اشترى منه الطرف الخطأ.

في أحد الأيام تلقَّى عرضًا غريبًا مغريًا من حساب غامض على تطبيق مشفَّر، وهو عبارة عن مهمة تستمر لأربعة أيام فقط، مقابل 4 آلاف دولار تُدفع بالعملة المشفّرة، ما جعل الأمر استغلالًا لأزمته الاقتصادية السابقة.

المفاجأة أن وسيلة التواصل بين تشيتشك والموساد، كانت عبر هوية رقمية وهمية لشخص يُدعى “فيصل رشيد”، تُدار من وحدة إلكترونية داخل الموساد، لكن الأدلة التي جمعتها الاستخبارات – بما في ذلك اتصالات رقمية، وتتبع هواتف، وتسجيلات مراقبة – أفضت إلى بنية شبكة أوسع.

أثناء تنفيذ المهمة، التقطت الأجهزة التركية تحركات تشيتشك واتصالاته، وحين ارتفعت الشكوك، تمّت المداهمات المتزامنة، واعتُقل طغرل هان ديب في منزله، وهو محامٍ تركي معروف في الأوساط القانونية، لكن خلف مكتبه المنظّم وبدلته الرسمية، كان يخفي تجارة بالمعلومات.

كان هان ديب يبيع تقارير قضائية وبيانات حساسة لأشخاص يعملون سرًا مع الموساد، من بينهم محققون أتراك عاديون يظنون أنهم يتعاونون مع جهات بحثية أو إعلامية، ومع الوقت تحولت معلوماته إلى جسر بين الداخل التركي والمخابرات الإسرائيلية.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by نون بوست | NoonPost (@noonpost)


لم تكن العملية مجرد مداهمة أو اعتقال، بل كانت محاكاة استخباراتية معكوسة، حيث انقلبت العملية من تجسس على تركيا إلى صيد للموساد نفسه، فالعملاء الذين ظنوا أنفسهم في مهمة سرية للتسلل إلى عمق إسطنبول، كانوا يتحركون داخل فخٍّ محكمٍ صمّمته المخابرات التركية خصيصًا لهم، فكانت كل رسائلهم وتحويلاتهم وخطواتهم تحت المراقبة.

تشير المصادر التركية إلى أن هذه المجموعة ليست حالة فردية بل امتدادًا لشبكات تجسس استُهدِفت سابقًا، وبعد أيام من “ميترون”، أُعلن عن اعتقال شخص يُدعى عثمان تشيليك، متهم بإيواء المحامي طغرل هان ديب، ما يُظهر أن الجهاز التركي مستمر في الملاحقة.

ومع ختام العملية، لم يكن النجاح الحقيقي في عدد الموقوفين بقدر ما كان في ما أظهرته من عمق الاختراق المضاد، فقد بيّنت التحقيقات أن الموساد لم يعد يعتمد على جواسيس تقليديين مزروعين، بل على تجنيد عقول محلية وشراء ولاءات مؤقتة بالمال والتقنيات الرقمية.

الفلسطينيون في قلب اللعبة

على مدى سنوات، حافظ الموساد على وجود خفي داخل الأراضي التركية، نسج خلاله شبكة معقدة من العملاء والوسطاء، استهدفت شخصيات فلسطينية ونشطاء سياسيين معارضين لـ”إسرائيل”، إلى جانب مراقبة تحركات إيرانية أو أنشطة لجهات إقليمية تراها تل أبيب تهديدًا مباشرًا لأمنها.

التكليف الممنوح لتشيتشك يمثّل دليلًا قويًا على ذلك، فقد كان مكلّفًا بمراقبة ناشط فلسطيني معارض للسياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، ويقيم في منطقة باشاك شهير بإسطنبول، ورغم محاولته التخفيف من جدّية الأمر خلال الاستجوابات، مدّعيًا أن الهدف كان مجرد صفقة احتيال مالي، إلا أن المعلومات المتقاطعة أكدت أن مهمته كانت استخباراتية بحتة، وصُمّمت بعناية لرصد التحركات الفلسطينية ضمن خطة أوسع لاختراق الجالية الفلسطينية في البلاد.

وتشير تقارير إلى أن تشيتشك كُلّف بجمع بيانات حول تحركات عضو المكتب السياسي لحركة حماس، زاهر جبارين، في إطار خطة إسرائيلية لاغتياله بعد فشل محاولة سابقة استهدفته إلى جانب أعضاء من الوفد المفاوض في الدوحة، ما يعكس خطورة النوايا الإسرائيلية واستهدافها المباشر لقيادات المقاومة على الأراضي التركية.

عميل الموساد محمد فاتح كيليش يراقب منزل الناشط الفلسطيني

وتشير التحليلات إلى أن نشاط الموساد في تركيا ازداد في السنوات الأخيرة تحديدًا بسبب مكانتها كمركز تجمع للفلسطينيين المعارضين، فقد احتضنت على مر العقود أعدادًا من السياسيين والناشطين والأكاديميين واللاجئين، أو من الطلاب والباحثين، وحتى كوادر الحركات الفلسطينية مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

هذا الحضور الفلسطيني المتنامي شكّل دافعًا واضحًا لتل أبيب لمحاولة اختراق هذا الفضاء ومراقبته عن كثب، إذ باتت أنقرة بالنسبة لـ”إسرائيل” ساحة مفتوحة على احتمالات الخطر، وقد تجلّى ذلك بوضوح في تهديد صريح أطلقه مدير جهاز “الشاباك”، رونين بار، في أواخر عام 2024، عندما توعّد بملاحقة قيادات حركة حماس في كل مكان – بما في ذلك داخل الأراضي التركية – في رسالة حملت نبرة تحدٍّ لأنقرة، وأكدت أن الحرب الاستخباراتية بين الجانبين تجاوزت الخطوط الدبلوماسية التقليدية.

ومع اندلاع عملية “طوفان الأقصى”، وما رافقها من تصعيد إقليمي غير مسبوق، أعادت تل أبيب تفعيل سياسة الاغتيالات خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما استدعى ردًّا حازمًا من أنقرة، إذ وجّه وزير الداخلية التركي، علي يرلي قايا، تحذيرًا علنيًا لـ”إسرائيل” من تنفيذ أي نشاط استخباراتي أو اغتيالات على الأراضي التركية، قبل أن تتبع الأجهزة الأمنية ذلك بإجراءات ميدانية مشددة، عكست استعداد أنقرة لتحويل تحذيراتها إلى فعل وردع فعلي على الأرض.

مقارنةً بالعديد من الدول العربية، تُعدّ تركيا بيئة آمنة نسبيًا للفلسطينيين، إذ توفّر درجة من الحماية القانونية والسياسية تتيح هامشًا واسعًا من الحركة والنشاط، ما يجعلها محطة لعمل ميداني أو نشاط فلسطيني تنظيمي، لكنها في الوقت ذاته حوّلتها إلى ساحة جذب محورية لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي ترى في هذا الوجود النشط مصدر قلق وفرصة استخبارية لا يمكن تجاهلها.

ولأن العديد من الفلسطينيين في تركيا يشاركون في فعاليات وفضاءات إعلامية أو أكاديمية، ويتواصلون مع الداخل الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد أصبحت دوائرهم الاجتماعية والبحثية تشكل بالنسبة للموساد مناجم معلومات يمكن من خلالها استنتاج خرائط العلاقات التنظيمية والسياسية، وتتبع الموارد المالية ومسارات الدعم اللوجستي للحركات الفلسطينية.

كما ينظر الموساد إلى الساحة التركية باعتبارها أداة ضغط ناعمة يمكن من خلالها إرسال رسائل سياسية إلى الفلسطينيين، فاستهداف ناشط أو شخصية فلسطينية بعينها في تركيا قد يرسل رسائل تخويف أو ضغط على بقية الأوساط الفلسطينية، أو الكشف عن شبكات داخلية قد تربك التنظيمات.

وبالتالي، لم تعد تركيا مجرد ساحة مراقبة، بل تحولت في الحسابات الإسرائيلية إلى مركز استراتيجي لإدارة التهميش أو لتوجيه الضربات الاستخباراتية غير المباشرة، وأصبح الوجود الفلسطيني فيها أكثر من مجرد حضور إنساني أو سياسي، بل عقدة حساسة في شبكة الصراع مع تل أبيب، ومحورًا دائمًا في المواجهة الخفية التي تجمع الأمن بالسياسة، والمعلومات بالنفوذ.

الموساد في تركيا.. حرب صامتة بلا رصاص

خلال السنوات الماضية، كانت “إسرائيل” تبني شبكات مراقبة في عدة دول تحت غطاء من الشركات الأمنية الخاصة، والمكاتب الاستشارية، وحتى الجامعات، ولم تكن تركيا استثناءً، فعلى مدى سنوات، كان للموساد وجود خفي داخل أراضيها، محاولًا استهداف الفلسطينيين بالدرجة الأولى.

ومن الملاحظ أن نهج الموساد داخل الأراضي التركية يتسم بالبراغماتية التي تجمع بين العمل الميداني والتقنيات الرقمية، مستعينًا بأغطية مهنية تبدو قانونية مثل مكاتب التحريات أو الاستشارات، وتسمح بالتحريات وجمع المعلومات الحساسة دون إثارة الشبهات.

وليس المال بعيدًا عن هذه المعادلة، فالتجنيد عبر الضغوط المادية مقابل مبالغ مالية مغرية يظل أداة فعّالة في ترسانة الاختراق. هذا الأسلوب – كما في حالة تشيتشك الذي قبِل المهمة لأسباب مالية بحتة – يحوّل الحاجة الاقتصادية إلى أداة لتجنيد العملاء وبناء شبكات بشرية قابلة للاستخدام.

أمَّا على صعيد التواصل، فيوظّف الموساد هويات افتراضية وشخصيات رقمية وهمية (مثل الوسيط الافتراضي المعروف باسم فيصل رشيد) تُدار من خارج الحدود، لتوجيه العملاء المحليين وإرسال التعليمات عبر تطبيقات مشفّرة يصعب تعقّبها، ما يجعل من عملية تتبّع القنوات الحقيقية أمرًا شبه مستحيل للمراقب التقليدي.

وفي الميدان، يعتمد على وسطاء محليين كمحامين أو مزوّدي بيانات عامة أكثر من العملاء الأجانب، لتوفير غطاء قانوني ظاهري يتيح تسريب البيانات أو جمعها دون لفت الانتباه، كما في دور طغرل هان ديب، الذي كان يزوّد بياناته من السجلات العامة، أو ينشئ آليات استعلام غير قانونية.

وأخيرًا، يعتمد الأسلوب في كثير من الأحيان على شبكات متعددة الطبقات تربط خلايا محلية بمشغّلين في أوروبا وآسيا، لتقليل خطر الكشف المباشر وضمان استمرار النشاط حتى في حال سقوط جزء من الشبكة.

ومع ذلك، جاءت العمليات التركية، والتي كان آخرها “ميترون”، لتكسر هذا الإيقاع، فهي لم تكتفِ بكشف شبكة تجسس، بل كشفت نهج الموساد داخل الأراضي التركية، والمتمثل في الاعتماد على المحيط التركي كمسرح عمليات، واستخدام مواطنين محليين لجمع المعلومات الحساسة دون وعيهم الكامل.

ويؤكد ذلك أن ما تغيّر مؤخرًا ليس فقط أنماط التجسس الإسرائيلي التي تحوّل المدن الكبرى إلى ساحات صامتة لحروب لا تُرى، بل أيضًا حجم الكشف والتنظيم المضاد من الجانب التركي، فخلال السنوات الثلاث الماضية، نفَّذ جهاز الاستخبارات التركي خمس عمليات أمنية كبيرة كشفت حجم التعقيد الذي تتسم به الأنشطة الإسرائيلية داخل البلاد، من تجنيد محققين خصوصيين إلى استخدام العملات الرقمية لشراء معلومات حساسة، خاصة عن الفلسطينيين المقيمين في تركيا.

مثلًا، في ديسمبر/ كانون الأول 2022، نفّذت الاستخبارات عملية نوعية استهدفت شبكة من المحققين الخصوصيين والعناصر الميدانية المرتبطة بالموساد، حيث تبيّن أنهم يبيعون بيانات جمعوها عبر وسطاء محليين، لتنتهي العملية باعتقال سبعة من أصل تسعة مشتبهين، في واحدة من أكثر الضربات دقة للموساد في تركيا.

وفي العام التالي، كشفت الاستخبارات التركية عن “خلية الشبح”، المؤلفة من 56 فردًا مرتبطين بتسع شبكات، يشرف على كل منها تسعة عملاء من الموساد متمركزين في تل أبيب، ولديهم القدرة على العمل على نطاق دولي.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2023، وجّه الادعاء العام في إسطنبول تهمًا إلى 17 شخصًا بالعمل لصالح الموساد، مشيرًا إلى أنهم خططوا لعمليات قتل وخطف وابتزاز باستخدام بيانات سرية، ما يعني بوضوح أن “إسرائيل” كانت تتهيأ لتنفيذ عمليات اغتيال نوعية داخل الأراضي التركية، تُفعَّل متى رأت الحاجة إليها.

وفي أوائل 2024، وبعد أكثرَ من شهر على إحباط محاولة اختطاف مهندس فلسطيني ساهم في اختراق منظومة “القبة الحديدية” عامي 2015 و2016، نفّذت السلطات التركية حملة اعتقالات شملت أكثر من 40 شخصًا يعملون لصالح “إسرائيل”، وتورّط بعضهم بمحاولات اختطاف أو متابعات استهدفت ناشطين فلسطينيين وعائلاتهم داخل تركيا.

وبعد شهرين، اعتقلت تركيا 7 أشخاص متهمين ببيع معلومات إلى الموساد، كانت تتعلق بأفراد وشركات داخل البلاد، من بينهم مدير الأمن السابق في منطقة غونغورن في إسطنبول، حمزة تورهان آيبيرك، الذي فُصل في 2019 على خلفية انتمائه لتنظيم فتح الله غولن المحظور في تركيا، وسرَّب معلومات مقابل المال عبر عمله كمحقق خاص.

وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، اعتقلت الاستخبارات التركية ما وُصف بأنه “العقل المدبر للموساد في تركيا”، ليريدون ركسيبي، وهو مواطن كوسوفي كان يدير الشبكة المالية للموساد، ويحوّل الأموال عبر العملات الرقمية إلى العملاء الميدانيين الذين يقومون بعمليات تصوير جوي بطائرات مسيّرة، وشن حملات ضغط نفسي ضد شخصيات فلسطينية في تركيا.

من الناحية الاستراتيجية، حوَّلت أنقرة الكشف عن هذه الشبكات إلى مناورة تخدم عدة غايات مترابطة. داخليًا، تعمل العمليات المكشوفة على رفع معنويات الجمهور، وإثبات قدرة الدولة على حماية أمنها حتى أمام أكبر أجهزة الاستخبارات.

وخارجيًا، تضع تل أبيب تحت ضغط عملي يجعلها تعيد حساباتها قبل أي تحرّك داخل الأراضي التركية، خشية الفضائح وتضرّر السمعة، وفي الوقت نفسه، تستثمر أنقرة هذه الإنجازات دبلوماسيًا وسياسيًا كورقة تفاوض وضغط في ساحات إقليمية ودولية، فتعلن بوضوح أنها ليست “ساحة مستباحة”، بل طرف يفرض شروطه.

وفي الأفق الأوسع، تتحول هذه المواجهات من عمليات تجسس مضادة إلى ساحة صراع رمزية، حيث يصبح كل كشف محطة جديدة في جدال سياسي واستراتيجي بين الطرفين.

لكمة استخباراتية تحمل رسائل سياسية وأمنية

من الناحية التحليلية، تبيّن أن أنقرة لم تكتفِ بكشف الجواسيس بصمت كما جرت العادة في عالم الاستخبارات، بل تعاملت مع العملية بصيغة عرض علني لتحذير خصومها بأن أي تحركات استخبارية داخل أراضيها ستظل مكشوفة.

بدأت أنقرة تنشر تفاصيل عمليات التجسس أمام الرأي العام، بما في ذلك أسماء المتهمين، والأدلة المادية، ومسارات التواصل بين العملاء ومشغّليهم. هذه العلنية لم تكن مصادفة، بل استراتيجية تهدف إلى كسر عنصر المفاجأة الذي يعتمد عليه الموساد عادة، وإرباك شبكاته النائمة داخل الأراضي التركية.

أما في الجانب الإسرائيلي، فهذه الكشوفات العلنية تشكّل مصدر إحراج حقيقي، إذ تُظهر أن جهاز الموساد – الذي لطالما روّج لصورة الكمال والقدرة المطلقة – ليس بمنأى عن الثغرات والانكشاف، ومع تحوّل عملياته السرية إلى ملفات علنية تتداولها وسائل الإعلام، وجدت تل أبيب نفسها أمام معادلة محرجة تجمع بين الخسارة الاستخباراتية والتداعيات السياسية والدبلوماسية المتراكمة.

كما أن توقيت الكشف عن الكثير من العمليات – في خضم الحرب على غزة، وتصاعد رقعة الصراع في المنطقة، واتساع دائرة التجسس الإلكتروني بين القوى الإقليمية – يعطي للعملية حمولة رمزية، وكأن تركيا، التي كانت تُراقب بالأمس، وكانت أحيانًا ساحة خفية للموساد، أرادت أن تُظهر شيئًا آخر: أنها أصبحت اليوم ساحة محاسبة له، وأن زمن التساهل مع الاختراقات الإسرائيلية قد انتهى.

ولم تتوقف أنقرة عند حدود الكشف الأمني، بل تجاوزت ذلك إلى ميدان القضاء، حيث قُدِّم المتهمون إلى المحاكم بتهم رسمية تتعلق بالتجسس والإضرار بالأمن القومي، ما منح المواجهة بعدًا قانونيًا ورقابيًا، وأظهر أن تركيا لا تتعامل مع هذه القضايا كحوادث أمنية معزولة، بل كجرائم تستوجب المحاسبة العلنية، وهو ما يضرب أحد أهم أسس العمل الاستخباراتي.

وتسعى أنقرة أيضًا لتذكير تل أبيب بأن الاتفاقيات الأمنية والعسكرية الموقعة بين الجانبين لا تمنح “إسرائيل” حصانة لاختراق السيادة التركية أو استهداف المقيمين، خصوصًا الفلسطينيين، فالاتفاق الموقَّع في أواخر عام 2022، ضمن مسار التطبيع، سمح لجهاز “الشاباك” بالعمل لحماية البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية والتعاون في مكافحة الإرهاب، لكنه تضمّن التزامًا واضحًا من قِبل الموساد بعدم تنفيذ عمليات اغتيال أو ملاحقة ضد الفلسطينيين داخل تركيا، غير أن الواقع الميداني كشف عن خرق لهذه التفاهمات.

أمَّا على المستوى الإعلامي والدبلوماسي، فقد استخدمت تركيا كل عملية كشف كوسيلة ردع رمزية تؤكد بها سيادتها، وتبعث برسائل مباشرة إلى تل أبيب، مفادها أن أراضيها ليست ساحة مفتوحة لأي جهاز استخبارات يعتقد أنه يمكنه العمل من وراء الستار، وأن محاولات الاختراق لن تمرّ بلا ثمن، لذلك، صُمم كل بيان رسمي، وكل تقرير صحفي مرافق لتلك العمليات، بعناية ليحمل معنى سياسيًا بقدر ما يحمل بعدًا أمنيًا.

ولا تبدو الرسائل التركية موجهة إلى تل أبيب وحدها، فأنقرة تدرك أن ساحة الصراع الاستخباراتي تتجاوز حدودها الغربية إلى الجارة الشرقية، إيران، فقبل أعوام، أحبطت المخابرات التركية محاولات إيرانية لاستهداف إسرائيليين على أراضيها، في واحدة من أكثر القضايا حساسية بين الطرفين.

ولم تتوقف المواجهة عند ذلك، إذ اتهمت أنقرة موظفين إيرانيين رسميين بالتورط في اغتيال معارضين إيرانيين داخل تركيا، أبرزهم الموظف في القنصلية الإيرانية بإسطنبول، محمد رضا ناصر زاده، الذي اعتُقل للاشتباه في مشاركته في اغتيال المعارض مسعود مولوي عام 2019، لتُثبت تركيا أنها لا تسمح بتحويل أراضيها إلى ساحة لتصفية الحسابات بين طهران وتل أبيب.

وفي العواصم الغربية، اُلتقطت الإشارة بسرعة، لأن العملية لم تضرب “إسرائيل” فحسب، بل وجّهت إنذارًا لكل جهاز استخبارات أجنبي يظن أن بإمكانه التجول في الداخل التركي كما يشاء.

وفي خطاباته وظهوره الإعلامي، حرص الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على إعطاء هذا البعد الأمني والسياسي للعمليات ضد شبكات التجسس، ففي كلمة ألقاها بمناسبة الذكرى الـ97 لتأسيس جهاز الاستخبارات التركي، شدّد على أن تفكيك تلك الشبكات يُجسّد قوة الدولة، ويبعث برسالة تحذير واضحة لأعدائها.

في هذه المعركة، ليس المهم فقط القبض على جواسيس، بل جعلهم أدوات للتأكيد على أنها تخوض حربًا استباقية في الفضاء الرقمي، تُراقب الاتصالات المشبوهة، وتتعقّب مسارات التحويلات الإلكترونية قبل أن تتطور إلى نشاط تجسسي فعلي، ولم تعد مخابراتها تنتظر وقوع الاختراق لتتحرك، بل باتت تعمل على إحباطه في مراحله الأولى، مستفيدة من تحليل البيانات، ومن أدوات الذكاء الاصطناعي في تتبع الأنماط السلوكية المشبوهة.

وتأتي هذه الاستراتيجية ضمن إطار أوسع من التعلم من تجارب الآخرين، فتركيا تتابع بدقة أساليب الموساد في ساحات مثل إيران ولبنان، حيث ينشط في شبكات كبيرة، وتستخلص منها دروسًا لتطوير أدواتها الدفاعية والهجومية على حد سواء، أهمها إدراك أن هذه الحرب الصامتة لا يمكن أن تُخاض بالوسائل التقليدية، بل تتطلب معرفة تفصيلية ببنيته وأساليبه، واستعدادًا دائمًا للمواجهة في كل الجبهات.

في مفارقة لافتة، لم تمرّ سوى ساعات على إعلان أنقرة تفكيك أكبر شبكة تجسس تابعة للموساد داخل أراضيها، حتى نفذت “إسرائيل” عملية اغتيال استهدفت نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، وآخرين، في الضاحية الجنوبية لبيروت، ليحمل الحدثان المتزامنان رسالة أكدت لأنقرة أن ضرباتها الاستباقية ضد شبكات التجسس لم تعد خيارًا، بل ضرورة لحماية سيادتها، ومنع انتقال معارك الآخرين إلى ساحتها.

هنا، يمكن القول إن عملية “ميترون” لم تكن مجرد كشف أمني أو عسكري عابر عن جاسوس، بل نقطة انعطاف في “حرب الجواسيس” بين أنقرة وتل أبيب، ورسالة سياسية وأمنية واضحة المعنى لردع التجسس المستقبلي، تقول تركيا من خلالها إنها تضرب في قلب الأدوات السرّية لـ”إسرائيل” على أراضيها، وتحوّل الوكالة التي كانت تعمل في الظل إلى واجهة تُعرض أمام الجمهور.

على المدى البعيد، قد يُعاد تشكيل العلاقات بين تركيا و”إسرائيل” على أساس “قواعد استخدام التجسس أو عدمه”، وقد يجعل هذا الصراع الخفي من أنقرة لاعبًا أكبر في ميدان التوازنات الإقليمية، ليس فقط بالقوة العسكرية أو الدبلوماسية، بل أيضًا بالذكاء والمعلومة.