متى يعود سكان رفح لأراضيهم؟

منذ أن بدأت الحرب على غزة، كانت رفح في أقصى الجنوب شاهدةً على أقسى فصول المأساة، لكنها صارت اليوم إحدى أكثر المدن المنكوبة صمتًا وتجاهلًا. رفح، التي فتحت قلبها وبيوتها للنازحين من شمال القطاع ووسطه، باتت هي الأخرى بلا مأوى، بلا صوت، تُركت تواجه مصيرها وحدها تحت القصف، ثم في عزلة إعلامية وسياسية خانقة.

بين سحر، التي ترى في رفح جزءًا من هويتها، وأحمد، الذي نام فوق ركام بيته بحثًا عن بعض الأمان، ورائد، الذي خرج منها مرغمًا للمرة الثانية، تنبض القصص بوجع لا تزال تعيشه آلاف العائلات.

مدينة الذكريات التي لا تموت

“في السادس من مايو/ أيار 2024، اضطررتُ لمغادرة حيّ السلام في مدينة رفح، بعد أن وجّه الجيش الإسرائيلي إنذارًا لسكان الحي بالإخلاء الفوري، تمهيدًا لبدء عملية عسكرية جديدة. كانت تلك واحدة من أكبر موجات النزوح الجماعي منذ بداية الحرب، لحظة ثقيلة اختلطت فيها الصدمة بالخوف والحنين”، تصف سحر النحال أن النزوح لم يكن مجرد مغادرة منزل، بل اقتلاعًا قاسيًا من الجذور.

رفح، بكل تفاصيلها، لا تزال حاضرة؛ دوّار النجمة، سوقها الشعبي، معبرها، مسجد العودة، والمخيمات التي تحكي قصص الصبر والصمود.

تقول سحر لـ”نون بوست” إنها لا تزال تحتفظ في ذاكرتها بنبض الشوارع المزدحمة، بأصوات الناس وضحكات الأطفال التي كانت تملأ الأجواء قبل أن يُخيِّم عليها الصمت والأنين. وتشير إلى أن رفح كانت دائمًا الحضن الدافئ، استقبلت النازحين من الجنوب والشمال، فتحت بيوتها وقلوبها للجميع. واليوم، يلفها الركام، لكن روحها لا تزال حيّة فينا.

وتؤكد أنه على الرغم من الدمار، ورغم تجريف الشوارع وغياب المعالم، “نحن نترقّب العودة، لأن رفح، بكل ما فقدته، لا تزال بيتنا”.

تُظهر الصورة الدمار الهائل في رفح- المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان

رفح ما زالت تنادي

أحمد جربوع، شاب من سكان حيّ الشابورة في رفح، وتحديدًا من مفترق بئر سالم قرب ملعب برقة، يروي رحلته مع النزوح والعودة، ثم النزوح مجددًا، في دوّامة لم تتوقف منذ بدء الحرب.

يقول أحمد لـ”نون بوست”: “نزحتُ أول مرة إلى مواصي خان يونس، وبعد إعلان الهدنة في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، عدتُ إلى منزلي كما عاد كثير من السكان. البيت كان مهدومًا جزئيًا، لكنه بيتنا، وحنيننا إليه غلب كل شيء”.

لم تكن العودة سهلة، بل كانت لحظة مشحونة بالمشاعر المتضاربة. يضيف: “أول يوم رجعت فيه رفح، حسّيت بحزن كبير من حجم الدمار، لكن في نفس الوقت كان في فرحة لا توصف برجوعي. أول ليلة نمت فيها في البيت كانت مريحة بشكل ما بتقدر توصفه، رغم كل الدمار حوالي”.

حقوق النشر محفوظة لجهد الأشرفي / حقوق النشر 2025 لوكالة أسوشيتد برس

خلال فترة الحرب، فتح أحمد وعائلته بيتهم لأكثر من أربع عائلات نازحة من غزة وخان يونس، واحتضنوهم بقلب مفتوح: “ما قصّرنا معاهم، شاركناهم بيوتنا وأكلنا، ورفح كلها كانت هيك. كنا أهل لبعض”.

لكن، رغم كل هذا العطاء، يشعر أحمد أن رفح منسية، مغيّبة عن طاولة المفاوضات: “رفح غايبة عن الوفد المفاوض، كأنهم ما بيعرفوا إن في مدينة كاملة بتتألم. إحنا بنصحى وبننام على أصوات القنابل والرصاص، وآخر مرة قذيفة ضربت بيتي بشكل مباشر، واضطريت أنزح من جديد إلى المواصي”.

أحمد، اليوم، كغيره من أبناء رفح، يتابع أخبار وقف إطلاق النار بقلب مثقل بالترقّب: “الهدنة صارت، لكن بدون ما نرجع. إحنا أهل رفح لسا الوضع صعب، وإحنا كل يوم بنناشد العالم، بنناشد الصحفيين، إنهم يوصلوا صوتنا. رفح مش بخير، وبتستحق ترجع تعيش”.

واختتم حديثه بنبرة شوق وأمل: “رفح حلوة، وبتعطي راحة نفسية ما بتتفسّر. كنا نرجع ننام فوق ركام بيوتنا، بس نرجع. اليوم، كل اللي بدناه هو نعيش بكرامة، ونرجع نعيش في مدينتنا، في رفح”.

نُزِعنا من رفح قسرًا

رائد أبو عبيد، أحد سكان حيّ السلام في مدينة رفح، يروي رحلته مع النزوح والعودة، ثم النزوح القاسي من جديد، في قصة تختصر ألم مدينة كاملة طُرد أهلها من بيوتهم تحت النار.

يسرد رائد لـ”نون بوست”: “نزحت أول مرة من حيّ السلام، وبعد الهدنة عدتُ إلى بيتي، رغم المخاطر. كانت أصوات إطلاق النار لا تتوقف في المنطقة، ومع ذلك قررت البقاء في منزلي المدمر جزئيًا. لم يكن قرارًا سهلًا، لكنه كان الخيار الوحيد لأشعر أنني ما زلت على قيد الحياة في مدينتي”.

لكن الهدنة لم تطل، كما يروي رائد: “مع عودة الحرب، جاء الإنذار بإخلاء رفح بالكامل. غادرنا تحت الضغط والخوف، والآن نحن على يقين أن بيوتنا لم تعد قائمة. الاحتلال لا يترك شيئًا، كل شيء يُمحى. التدمير بالنسبة لهم ليس استثناءً، بل قاعدة”.

رغم كل هذا، ما زال رائد، كغيره من سكان رفح، يحمل حلم العودة في قلبه: “حتى لو عدنا ووجدنا رفح صحراء، سنعود. لا نريد شيئًا سوى مدينتنا، لا نطلب سوى أن نعيش فيها، أن نراها من جديد”.

يستذكر بحنين كيف كانت رفح في بدايات الحرب، مدينة احتضنت النازحين من شمال غزة: “كنا نعيش كأهل، فتحنا بيوتنا، شاركناهم خبزنا وذكرياتنا. لم يكن هناك فرق بيننا، كنا جسدًا واحدًا”.

لكنه يعبّر عن مرارة النسيان: “اليوم، لم يعد أحد يتحدث عن رفح. المدينة باتت منسية، لا ذكر لها في الأخبار أو المفاوضات. حتى مشاعر أهلها غابت عن المشهد”.

ويختم حديثه بصوت يملؤه الشوق والتمسّك بالأمل: “رفح ليست مجرد مدينة، هي نبض. لا شيء يعوّضها، ولن تُنسى، لأننا ما زلنا نحلم بها، وننتظر العودة، مهما طال الانتظار”.