“لا ملوك”.. حراك شعبي لإنقاذ الديمقراطية الأمريكية من ترامب

من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، ومن بوسطن إلى أتلانتا، مرورًا بشيكاغو ولوس أنجلوس، تدفقت جموعٌ ضخمة من الأمريكيين، يوم السبت 18 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إلى الشوارع في أكثر من 2700 تظاهرة شملت معظم الولايات، في مشهد وُصف بأنه «أكبر يوم احتجاج في التاريخ الأمريكي الحديث».
جاءت هذه الموجة الواسعة من التعبئة الشعبية تحت شعار «لا ملوك»، تعبيرًا عن رفض ما يراه المحتجون نزعة استبدادية متصاعدة لدى الرئيس دونالد ترامب، واحتجاجًا على سياسات يعتبرونها مهددة للديمقراطية ومقيدة لحقوق المهاجرين والمعارضين السياسيين.
وفي ردٍّ ساخر على هذا الزخم الشعبي، نشر ترامب عبر منصته «تروث سوشيال» مقطع فيديو مُولّدًا بالذكاء الاصطناعي، يظهر فيه مرتديًا تاجًا ملكيًا وهو يقود طائرة حربية ويلقي ما يشبه القاذورات على المتظاهرين، في إشارة واضحة إلى ازدرائه للحراك وعدم اكتراثه بمطالبه.
ومع اتساع رقعة الاحتجاجات أفقيًا عبر الولايات ورأسيًا عبر تنامي التنظيم والدعم المؤسسي من منظمات مدنية وكيانات تمويلية، بدأت الحركة تكتسب ملامح أبعد من مجرد فعل رمزي، لتتحول إلى حراك اجتماعي – سياسي منظم يطرح تساؤلات جادة حول مدى قدرته على إحداث تأثير ملموس في المشهد السياسي الأمريكي الراهن.
“لا للملوك”.. حركة احتجاجية بمقاييس مختلفة
تُعدّ حركة “لا للملوك” (No Kings)، التي يتخذ الحراك الأمريكي الراهن شعارها الجامع، واحدة من أضخم وأوسع الحركات الاحتجاجية التي شهدتها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، إذ تمثل تعبيرًا جماهيريًا واسعًا عن رفض ما تصفه بـ”النزعة السلطوية” المتنامية في إدارة الرئيس دونالد ترامب.
استلهم منظمو الحركة شعارهم من الإرث التاريخي للثورة الأمريكية التي رفضت الحكم الملكي البريطاني، ليعيدوا اليوم إحياء هذا المبدأ في مواجهة ما يعتبرونه مسعى لتكريس سلطة تنفيذية فوق القانون. وتحمل الحركة ثلاثة أبعاد رئيسية:
بعد رمزي يعكس عمق القلق الشعبي من تجاوزات السلطة ومحاولات تطويع القانون، وبعد عددي يتجلى في الحشود الهائلة التي تملأ الشوارع، في تأكيد على قوة الإرادة الشعبية، وبعد مؤسسي يقوم على مبدأ أن السلطة التنفيذية خاضعة للقانون، وأن الشعب هو الضامن الأخير للديمقراطية وحارسها.
ينطلق شعار الحركة من قاعدة واضحة مفادها أن “الرئيس قد يظن أن سلطته مطلقة، لكن في أمريكا لا ملوك لدينا، ولن نستسلم للفوضى أو الفساد أو القسوة”، وقد نشأت كردّ فعل مباشر على ما يصفه مؤسسوها بتصاعد النزعات السلطوية في إدارة ترامب خلال ولايته الثانية.
ويرمز اسم الحركة إلى رفض تحويل الرئيس أو السلطة التنفيذية إلى كيان فوقي أشبه بالملك، وهو ما تختصره عبارتهم الشهيرة: “لا عروش، لا تيجان، لا ملوك”، وكانت أولى تظاهراتها الكبرى في 14 يونيو/حزيران الماضي، حيث خرجت الاحتجاجات في أكثر من 2000 موقع داخل الولايات المتحدة، لتبلغ ذروتها في 18 أكتوبر/تشرين الأول الجاري مع امتدادها إلى أكثر من 2600 موقع في مختلف الولايات والمدن الأمريكية.
يرفع المشاركون في الحركة شعارات تؤكد على حماية الحريات المدنية، وضمان استقلال القضاء والبرلمان، ومساءلة السلطة التنفيذية، إلى جانب رفض الإجراءات التسلطية مثل نشر الحرس الوطني في المدن، وتنفيذ مداهمات الهجرة الواسعة، ومحاولات إضعاف الضوابط الديمقراطية، كما يؤكد المحتجون أن الإضراب أو التظاهر ليسا عملاً عدائيًا تجاه الوطن، بل تجسيدًا لفكرة أن الديمقراطية لا تُصان إلا بالمشاركة.
ويستمد الحراك قوته من دعم منظمات مدنية وحقوقية بارزة، مثل Indivisible، والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU)، وMoveOn، وغيرها من الكيانات التي ساهمت في توسيع نطاق الحركة لتشمل جميع الولايات الأمريكية. كما شهدت بعض العواصم الأوروبية والأسترالية مظاهرات تضامنية رفعت شعار “لا ملوك” دعمًا للحراك الأمريكي.
أما في أسلوبها الميداني، فتعتمد الحركة على التظاهرات السلمية، والرموز البصرية مثل اللون الأصفر الذي يوحّد المشاركين، مع الابتعاد حتى الآن عن أي مظاهر للعنف أو الصدام المباشر مع قوات الأمن، وإن كان مراقبون لا يستبعدون أن يشهد هذا الموقف تغيرًا إذا تصاعد التوتر في الميدان.
في المقابل، يرى الجمهوريون أن الحركة “مناهضة لأمريكا” و”مُغذّية للتطرف”، فيما يصفها ترامب بأنها حراك “غير وطني” يقوده “أعداء الداخل” أما أنصارها والمدافعون عنها فيرون فيها تجسيدًا لحق دستوري أصيل في الاحتجاج، ويعتبرون أن اتهامها بالتطرف ليس سوى محاولة لتشويهها وتقويض رسالتها الداعية إلى حماية الديمقراطية من التآكل.
ثمة مؤشرات تذهب باتجاه أن الحركة لا يمكن اعتبارها ظاهرة عفوية محضة، بل هي نتاج تحالفات واسعة ومتعددة الأطراف، تضم في عضويتها جمعيات حقوقية، نقابات عمالية كبرى، منظمات مدنية، ومنظمات ثقافية وسياسية تعمل بشكل منسق، حيث توفر هذه البُنى المؤسسية الدعم اللازم للتنظيم اللوجستي، التجنيد المستمر، والتدريب على السلوك السلمي، مما يمنح الحركة قدرة فائقة على الحشد والانتشار.
وبفضل هذا التنظيم، قد تنتقل الحركة من كونها مجرد “فعل رمزي” إلى “شبكة ضغط” قادرة على تنسيق أنشطة متزامنة ومتابعة لاحقة، مما يزيد من احتمالية استمرارية المبادرة، إذ أن وجود مؤسسات كبرى وراء الاحتجاجات لا يعزز فقط من إمكانات التمويل والتخطيط، بل يضمن أيضاً أن رسالة الحركة، بأن السلطة التنفيذية ليست فوق القانون وللشعب كلمة، يمكن أن تتحول إلى قوة ضغط سياسي فعّالة.
التنديد بسياسات ترامب السلطوية
يشترك المشاركون في حراك “لا للملوك” في قناعة راسخة بأن الرئيس ترامب، منذ بداية ولايته الثانية، قد بدأ يتصرف “كملك بلا قيود” أو محاسبة، متجاوزاً الدستور والقانون وتقويضاً للاستقرار الداخلي.
وتأجج قلق الشارع الأمريكي إزاء “السلطوية الترامبية” بسبب سلسلة من الإجراءات، أبرزها، عسكرة المدن (تدخل القوات الفيدرالية والحرس الوطني لفض الاحتجاجات والتظاهرات السلمية) التشدد في الهجرة (الإجراءات المتخذة ضد المهاجرين والتدابير القسرية المشددة) تقويض الحريات (تضييق الخناق على حريات الإعلام وتراجع الممارسات الديمقراطية) ما جعل الرئيس سيفاً على رقاب المعارضين، والتأثير الاقتصادي لقراراته (الإجراءات السلبية على منظومة الأمان الاجتماعي والاقتصادي، مثل خفض برامج الضمان الاجتماعي)
نتيجة لذلك، خرجت الملايين من أبناء الشعب الأمريكي مطالبة بحزمة من الأهداف الجوهرية، تشمل، حماية المؤسسة الديمقراطية، تعزيز الحقوق المدنية، وقف التوسع التنفيذي، ومساءلة السلطة في حال ثبوت تجاوزها للقانون.
نقاط القوة والضعف
تتمتع الحركة الاحتجاجية الأمريكية بعدد من نقاط القوة التي تمنحها زخمًا وتأثيرًا متزايدين، أبرزها الانتشار الواسع والمشاركة الجماهيرية الضخمة، إذ تشير التقديرات إلى مشاركة ما يزيد على سبعة ملايين أمريكي في احتجاجات يوم السبت الأخير، في مشهد يعكس عمق الاحتقان الشعبي ويشكل ضغطًا ملموسًا على السلطة الحاكمة والأجهزة الأمنية.
كما تتميز الحركة بقدرتها اللافتة على استقطاب شرائح متعددة من المجتمع، سواء جغرافيًا عبر انتشارها في مختلف المدن الأمريكية، أو خارجيًا من خلال اتساعها لتشمل مظاهرات تضامنية في دول أخرى، فضلًا عن توسعها الرأسي عبر تنامي نفوذ المؤسسات والمنظمات الداعمة والممولة لها، وهو ما يمنحها شرعية متزايدة واستمرارية تنظيمية مع مرور الوقت.
ومن بين أدواتها الفاعلة في تعزيز حضورها الميداني، توظيف الرموز والشعارات البسيطة والعميقة في آنٍ واحد، مثل شعارها المركزي “لا ملوك” الذي يحمل دلالات تاريخية وسياسية واضحة، مما يسهل تداوله وانتشاره بين مختلف الفئات الاجتماعية والإعلامية.
لكن في المقابل، تواجه الحركة جملة من التحديات والعقبات التي تحدّ من فاعليتها، إذ إن حضورها، رغم ضخامته العددي، لا يزال في الغالب رمزيًا ومحدود الأثر الميداني، دون أن يُترجم حتى الآن إلى تغيير ملموس في المشهدين السياسي أو التنفيذي.
يُضاف إلى ذلك أن الخلفية الأيديولوجية اليسارية التي تهيمن على الخطاب العام للحركة قد تشكل عامل انقسام داخلي، إذ تُعرّضها لخطر الاستقطاب والتحزب الفكري، ما قد يعيق قدرتها مستقبلاً على توسيع قاعدتها الجماهيرية ويجعل تأثيرها، في نهاية المطاف، محصورًا ضمن دوائر محددة من الطيف السياسي الأمريكي.
احتمالية التأثير.. شروط أربعة
حتى لحظة كتابة هذه السطور، نجحت حركة “لا ملوك” في فرض واقع سياسي جديد داخل المشهد الأمريكي، قوامه إشعال الجدل الداخلي وإعادة إحياء النقاش حول حدود السلطة التنفيذية، ومع ذلك، ما زال هذا الحراك، رغم اتساعه غير المسبوق، أسير الطابع الرمزي ولم يتمكن بعد من تجاوز مرحلة التعبير الاحتجاجي إلى مستوى الفعل التغييري الملموس.
ولكي تنتقل الحركة من مجرد موجة احتجاج جماهيري إلى قوة سياسية دائمة وفاعلة قادرة على التأثير في موازين القرار، فإن الأمر يتطلب تحقيق أربعة شروط أساسية:
أولًا، استدامة الحراك وتنظيمه مؤسسيًا، عبر تطوير آليات تنسيق دائمة وتحويل المجموعات الميدانية إلى كيانات ضغط منسّقة تعمل في مسارات تشريعية وانتخابية ومجتمعية، كما ورد في بيانات الحركة الرسمية.
ثانيًا، توسيع شبكة التحالفات السياسية من خلال بناء جسور تواصل متينة مع فئات انتخابية متنوعة وممثلين محليين قادرين على تمرير إصلاحات وتشريعات تحمي الحريات وتحد من تغوّل السلطة.
HAPPENING NOW: A MASSIVE crowd of protesters flood the streets of San Diego for a “No Kings Day” rally showing their love for America and standing up against Trump #NoKings #NoKingsDayOct18th pic.twitter.com/x4DGIrBnOI
— No Kings (@NoKingsProtest) October 18, 2025
ثالثًا، تحقيق مكتسبات ملموسة قابلة للقياس، سواء عبر صياغة جدول أعمال واضح يتضمن أهدافًا مرحلية، أو الدفع باتجاه قوانين جديدة تعزز الرقابة البرلمانية وتضمن استقلالية المؤسسات الديمقراطية.
وأخيرًا، تحويل الزخم الشعبي إلى قوة انتخابية وضغط سياسي متكرر، بحيث تتحول أصوات الملايين في الشوارع إلى أداة ديمقراطية منظمة قادرة على إجبار صناع القرار على مراجعة سياساتهم وإعادة حساباتهم.
عندها فقط يمكن القول إن الحركة تجاوزت رمزية الاحتجاج إلى مرحلة التأثير الحقيقي في الواقع السياسي الأمريكي.
أي تأثير محتمل على مستقبل ترامب؟
من المبكر الجزم بتأثير هذا الحراك – بصيغته الراهنة – على مستقبل دونالد ترامب، كما أن الحديث عن قدرته على إحداث تراجع فوري في مكانة الرئيس السياسية أو الشعبية يبدو مبالغًا فيه، نظرًا إلى امتلاكه قاعدة جماهيرية صلبة من المحافظين وأنصار اليمين الشعبوي، يصعب اختراقها أو زحزحتها في وقت قصير.
يحاول ترامب، ومعه جناحه الجمهوري، إظهار قدر عالٍ من التماسك والانضباط الداخلي في مواجهة هذا المدّ الاحتجاجي، واصفًا إياه بأنه امتداد لـ”مؤامرة ليبرالية” تستهدف تقويضه سياسيًا وتشويه صورته أمام الرأي العام. وفي المقابل، يوظف الرئيس الأمريكي هذا الخطاب لتعبئة أنصاره، محاولًا تحويل الأزمة إلى فرصة يستثمرها لصالحه، عبر تعميق الاستقطاب الأيديولوجي وتأكيد سرديته حول “الاضطهاد السياسي” الذي يتعرض له.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الرمزية المتعاظمة لحركة “لا ملوك”، التي باتت أكثر تأثيرًا من موجتها السابقة في يونيو/حزيران الماضي، فالملايين الذين خرجوا إلى الشوارع في الولايات الخمسين، ضمن أكثر من 2600 تظاهرة، تحت الشعار الجامع “لا ملوك”، إلى جانب الدعم الدولي المتنامي خارج الحدود الأمريكية، كلها عوامل قد تضعف الصورة الذهنية لترامب عالميًا، وتربطه في الوعي العام بمفاهيم مثل “المستبد” و”المقوض الديمقراطية”، وهي صورة سلبية يصعب محوها وقد تترك أثرًا سياسيًا طويل الأمد.
وتملك الحركة فرصة تاريخية، إذا ما نجحت في الحفاظ على زخمها، لتحديد وزنها السياسي الحقيقي خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، فتمكنها من تحويل الغضب الشعبي إلى تصويت فعلي، خاصة في صفوف الشباب والمستقلين، قد يُضعف حظوظ ترامب في ولايات متأرجحة محورية مثل ميشيغان وبنسلفانيا وأريزونا.
لكن إن ظلت الحركة محصورة ضمن الإطار الليبرالي التقليدي، ولم تتجاوز حدودها الأيديولوجية الضيقة، فستفقد تدريجيًا قدرتها على التأثير الانتخابي، وتتحول إلى مجرد صوت احتجاجي رمزي يضاف إلى قائمة الحركات التي أثارت ضجيجًا سياسيًا دون أن تغيّر موازين القوى فعليًا.
ورغم ذلك، فإن القيمة الأعمق لحركة “لا ملوك” تتجاوز مصير ترامب نفسه؛ فهي تُعيد ترسيخ فكرة رفض النزعة الملكية في السلطة التنفيذية داخل الوعي الأمريكي، وتغرس لدى الأجيال القادمة من الساسة والإعلاميين والمشرعين قناعة بأنّ “السلطة تُراقَب ولا تُؤلَّه”. بمعنى أدق، قد لا تُغيّر الحركة مسار ترامب الشخصي، لكنها حتما قد تُغيّر الطريقة التي سينظر بها الأمريكيون إلى الرئاسة ذاتها في المستقبل.
في الأخير.. يبقى مستقبل حركة “لا ملوك” ملكية حصرية احتكارية للقائمين عليها، محصورًا في سيناريوهين محتملين، الأول، أن تستمر في الحفاظ على زخمها، مستفيدة من تنظيمها المؤسسي ودعم المنظمات المدنية، لتصبح قوة ضغط سياسي دائمة قادرة على التأثير في السياسات والانتخابات المقبلة، وتحويل رمزية الاحتجاج إلى مكتسبات ملموسة.
أما السيناريو الثاني، في حال تراجع الزخم أو بقيت الحركة محصورة ضمن إطار أيديولوجي ضيق، فقد تفقد فعاليتها بسرعة وتتحول إلى مجرد صوت احتجاجي رمزي يختفي تدريجيًا من المشهد السياسي، دون أن يترك أثرًا حقيقيًا على موازين القوى أو مستقبل السلطة التنفيذية، فيما تبقى الأيام المقبلة كفيلة بتحديد أي من السيناريوهين ستؤول إليهما الحركة.