في وداعية وليد جنبلاط: نهاية الأيديولوجيا والبراغماتية

في مشهدٍ لبنانيٍّ تتآكل فيه الزعامات التقليدية تحت ضغط الانهيار الاقتصادي والتحولات الإقليمية، يظلّ وليد جنبلاط حالةً استثنائيةً يصعب تصنيفها بسهولة. فهو ابنُ سلالةٍ سياسيةٍ عريقةٍ تمتد جذورها إلى جبل لبنان في القرن التاسع عشر، كما أنه وريثُ زعامةٍ درزية – وطنيةٍ صاغ ملامحها والده كمال جنبلاط في ذروة الحرب الباردة. لكنّه في الوقت نفسه، سياسيٌّ براغماتيٌّ نجا من كل العواصف التي عصفت بلبنان منذ الحرب الأهلية حتى اليوم، متنقلًا بمرونةٍ لافتةٍ بين المحاور، دون أن يفقد موقعه أو رمزيته.
شخصيةٌ مثل وليد جنبلاط ليست مجرد سردٍ لسيرةِ زعيمٍ درزيٍّ، بل مرآةٌ لتاريخِ لبنانَ نفسه؛ بلدٌ يتأرجح بين الولاءات الطائفية والمشاريع الوطنية، وبين الذاكرة الدامية والمصالح المتغيرة. في شخصه تتقاطع العائلة، والطائفة، والحزب، والدولة، ويتجلّى التوترُ الدائم بين الموروث الأبوي والواقعية السياسية التي فرضها انهيارُ الأيديولوجيات الكبرى بعد الحرب الأهلية. ومع انتقال القيادة مؤخرًا إلى نجله تيمور، يثور سؤالٌ أعمق من مجرد الخلافة: هل يُمثّل وليد جنبلاط آخر الزعماء التقليديين في لبنان؟ أي آخر أولئك الذين جمعوا بين رمزية الطائفة ودهاء السياسة، بين الكاريزما الشخصية وشبكات الولاء الموروثة؟ أم أن ما يرمز إليه جنبلاط هو نهايةُ حقبةٍ بأكملها من الزعامة الوراثية، وبدايةُ مرحلةٍ جديدةٍ تتآكل فيها الحدودُ بين السلطة والعائلة والطائفة؟
في هذا المقال، نحاول قراءةَ مسارِ وليد جنبلاط السياسي والفكري بوصفه حالةً رمزيةً لتحولات الزعامة اللبنانية: من الإقطاع إلى الطائفية الحديثة، ومن الخطاب الأيديولوجي إلى البراغماتية البحتة، مستعرضًا كيف استطاع جنبلاط أن يحافظ على بقائه السياسي في بلدٍ يتبدّل فيه كل شيء باستثناء هشاشة النظام نفسه.
الزعامة الموروثة والانتقال القسري (1949–1977)
تستمد الزعامة الجنبلاطية شرعيتها من جذورٍ تاريخيةٍ عميقة، يُرمز إليها قصر المختارة في الشوف، والذي ورثته العائلة منذ عام 1712. وعلى النقيض من النزعة الإقطاعية التقليدية، أسس كمال جنبلاط (الأب) الحزب التقدمي الاشتراكي عام 1949 على مبادئ فكريةٍ متقدمةٍ شملت الاشتراكية، والإنسانية، والدعوة إلى العلمانية والعدالة الاجتماعية. وعلى الرغم من تبنّي الحزب لهذا التوجه العابر للطوائف، ظل أغلب مؤيديه ينتمون إلى الطائفة الدرزية. وقد تمحور الصراع السياسي لكمال حول مواجهة “المارونية السياسية” في لبنان ودعم القضية الفلسطينية، مما جعله قطبًا رئيسيًا في الحركة الوطنية اللبنانية.
كان اغتيال كمال جنبلاط في آذار/ مارس 1977، والذي يُرجّح أنه على يد النظام السوري، لحظةَ تحولٍ مفصليةً في التاريخ اللبناني وفي مسيرة وليد جنبلاط. فقد أجبر هذا الاغتيال وليد، الشاب الذي لم يكن مستعدًا بالكامل، على تولي الزعامة في خضم الحرب الأهلية وتحت وطأة تاريخٍ عائليٍّ مثقلٍ بالعنف والاغتيالات. كان هذا الانتقال القسري تحديًا مضاعفًا: الالتزام بالإرث الإيديولوجي الثوري لوالده، أو اختيار مسارٍ يضمن بقاء العائلة والطائفة.
كان الرد السياسي لوليد على اغتيال والده هو التحول الجذري. ففي حين أن كمال دفع حياته ثمنًا لنقائه الأيديولوجي في خضم صراعاتٍ إقليميةٍ عاتية، أدرك وليد أن استمرار القيادة يتطلب تكييف الأيديولوجيا مع ضرورات الواقع الطائفي والحرب. حمل وليد رايةَ الدروز، ما رسّخ الزعامة الجنبلاطية كحمايةٍ للجبل، وهو ما تطلب تنازلًا عن الطابع العابر للطوائف الذي سعى إليه كمال، لصالح الدور التقليدي كحامٍ للطائفة. ومن خلال هذه الاستراتيجية، ضمِنَ بقائه الطويل، على عكس مصير والده وجده.
يظهر هذا التباين بوضوح عند مقارنة مسار الأب والابن؛ فقد تبنّى كمال جنبلاط فلسفةً أساسيةً قائمةً على الاشتراكية، والإنسانية، والعلمانية، والطابع الثوري. أما وليد، فاعتمد على الواقعية السياسية والبراغماتية الحادة كفلسفةٍ للبقاء، كما يتبنّى العقلَ الدرزيَّ الديني. كذلك اختلف محور الصراع الرئيسي لكلٍّ منهما؛ فبينما ركّز كمال على مواجهة المارونية السياسية (الكتائب) والقضايا القومية اليمينية، انصب تركيز وليد على إدارة التوازنات الإقليمية وضمان حماية الذات وأمن الجبل بشكلٍ خاص. وحتى في طريقة تولّي الزعامة، كان التباين حادًا حيث تسلّم وليد القيادة بعد اغتيال والده (تسليمٌ قسريٌّ ومفاجئ)، بينما اتبع هو مسارًا معاكسًا تمثّل في التسليم التدريجي والمنظّم لابنه تيمور، ليصبح بذلك أول من يُسلّم الزعامة وهو على قيد الحياة.
البراغماتية كفلسفة بقاء
يُطلق على وليد جنبلاط وصف “الثابت والمتحول” في السياسة. الثابت في هذا المفهوم هو مصلحة المختارة، وأمن الجبل، واستقرار الطائفة الدرزية، وهذه المفاهيم هي في صلب العقيدة الدرزية الباطنية، بينما المتحوِّل هو من أجل التحالفات الخارجية. هذه المدرسة تعتمد على “الواقعية السياسية” وقراءة التطورات الإقليمية والدولية التي تفرض تغيير المواقف، معتبرًا أن المصالح في السياسة تفوق الأخلاق. ومن خلال هذه المرونة المذهلة، سُمح له بأن يلعب دور “بيضة قبان” السياسة في لبنان.
المثال الأوضح لهذه الواقعية يتمثل في التعامل مع النظام السوري. فبالرغم من الاعتقاد السائد بأن دمشق كانت وراء اغتيال والده، اختار وليد جنبلاط مدَّ يد التعاون مع حافظ الأسد بعد أربعين يومًا فقط من الاغتيال. هذا التحول الأقصى كان بمثابة تضحيةٍ بالثأر الشخصي والإيديولوجي لضمان استمرار الزعامة وحماية البيئة الدرزية، وتحول إلى أحد أبرز أذرع دمشق السياسية في لبنان. لكن، هذه العلاقة لم تكن ثابتة؛ فعندما استشعر جنبلاط ضعف النظام في مطلع الألفية، انقلب عليه وانضم إلى معسكر خصومه في ثورة الأرز، والتي كانت بمثابة انتفاضاتٍ وهبّاتٍ واحتجاجاتٍ ضد الوجود السوري في لبنان.
وفي سياقٍ آخر، جسدت علاقته المتوترة مع “حزب الله” نموذجًا آخر للبراغماتية. فبعد خروج الجيش السوري، خاض جنبلاط مواجهةً سياسيةً مفتوحةً مع الحزب، لكن هزيمته في أحداث 7 أيار/ مايو 2008، والتي اعترف لاحقًا بأنها كانت “خطأَ تقدير”، دفعته إلى “طَيِّ صفحة العداء” والالتحاق بالمحور الذي كان يقاتله، ثم عاد مجددًا للتقرب من معسكراتٍ أخرى. هذا السلوك يؤكد أن لا خصومَ دائمين ولا حلفاءَ دائمين بالنسبة له في السياسة، بل إن البقاء والأمان هما الأساس الذي يدفع للاستدارة “للزوم المرحلة”. إن براغماتيته تمنحه الإطار النظري للاستدارة، فبدلًا من الاعتراف بالهزيمة الإيديولوجية، يُعلن جنبلاط أن تحركاته هي قراءةٌ متقدمةٌ للتاريخ والظروف العالمية، ولهذا قال إنه “سامح من قتل والده لكنه لم ينس”.
كذلك، لم تقتصر الواقعية السياسية لدى جنبلاط على التحالفات الخارجية، بل شملت دوره الداخلي المعقّد. فبينما كان زعيمَ الدروز خلال حرب الجبل 1983، التي شهدت تهجير المدنيين، كان أيضًا المهندس الرئيسي لـ”مصالحة الجبل” التاريخية مع البطريرك مار نصرالله صفير عام 2001. هذا التناقض يؤكد قدرته على تجاوز الدم في سبيل استقرار الجبل المشترك.
غير أن مرحلة ما بعد الطائف شهدت جدلًا نقديًّا حول دور جنبلاط في منظومة الفساد. ففي سياق ما سُمّي بـ”المصالحة الوطنية”، تسلّم جنبلاط وزارة شؤون المهجرين، وهي تجربة أشار إليها البعض بأنها كانت نموذجًا لـ”التزوير المنظّم ونهب المال العام”، حيث ضمنت له البراغماتية استقرار الجبل والحماية الذاتية، كما تطلّبت منه الانخراط في آليات التسوية الداخلية القائمة على المحاصصة والفساد، كجزءٍ من الثمن الباهظ للبقاء السياسي.
وليد جنبلاط كظاهرة فكرية وإعلامية
يتميّز جنبلاط بأنه من أكثر الشخصيات اللبنانية “ثقافةً”. فعمقُه الفكري منحه مرونةً في الخطاب العام، وقد ظهر ذلك في اهتمامه بقراءة أعمالٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ مثل ثلاثية “أرض السواد” لعبد الرحمن منيف، التي تتناول التاريخ السياسي والاجتماعي، ما يعكس هذا الانجذابَ قلقَ الزعيم التقليدي من انهيار البنى الفكرية أمام الانهيار السياسي، ما دفعه إلى الدعوة لـ”دراسة العودة إلى الماضي… الفكرية والروحية” في ظل موجة التغيير.
هذا العمق الثقافي قدّم تبريرًا فلسفيًا لتنقلاته السياسية الحادّة، وقد ساهم في بناء ما يُوصف بـ”الشخصية الملتبسة”، وهي ازدواجيةٌ بين النخبوية الفكرية والتطبيق السياسي النفعي الحاد، إذ يرى جنبلاط في التاريخ مرجعيةً لحماية “الدرزية السياسية”، ما يسمح له بتأطير تنازلاته على أنها حكمةٌ استراتيجيةٌ وليست هزيمةً إيديولوجيةً.
كما استخدم وليد وسائلَ التواصل الاجتماعي، وتحديدًا التغريدات الساخرة، كأداةٍ استراتيجيةٍ لإنشاء “الغموض السياسي المُدار”، فأسلوبه يتميّز بالتهكم و”الظُرف”، وحتى “الاستخفاف” في تعامله مع قضايا جادّة، لا سيما تلك المتعلقة برئاسة الجمهورية.
هذه السخرية ليست مجرد طابعٍ شخصيٍّ، بل أسلوبٌ للمناورة السياسية، حيث تسمح له بجسّ النبض دون التزامٍ فعليٍّ، وتقليل تكلفة التراجع عن المواقف. فعندما اضطر إلى تصحيح تغريدته حول “السلال الفارغة” بعد إثارة حفيظة الرئيس نبيه بري، أمكنه تبرير التراجع على أنه مجرد “سوء فهم” أو “مزحة”، وليس تغييرًا في الموقف الجدي. وأيضًا، لغةُ الغموض التي استخدمها (مثل “كلمة السر مشفّرة وحلّوها يا شباب”) تهدف إلى إرباك الخصوم والحلفاء على حدٍّ سواء، ما يعزّز دوره كـ”بيضةِ قبانٍ” يعتمد على عدم الاستقرار المؤقت للمواقف.
سؤال الزعامة الأخيرة والانتقال إلى تيمور
واجه وليد جنبلاط اختبارًا صعبًا خلال الثورة السورية عام 2011، ومن ثم، حيث اختار الاصطفاف إلى جانب النظام في مواجهة دروز سوريا، مقدّمًا بذلك “حساباته السياسية على التضامن المذهبي”، فيما كانت نتيجة هذا الخيار “كارثية”، إذ أدت إلى خسارته “ثقةً وإسنادًا” للدروز هناك الذين يمثّلون العمقَ الاستراتيجي والجغرافي للطائفة.
نتيجةً لهذا التراجع، تقلّص نفوذ وليد جنبلاط ليصبح داخل الحدود اللبنانية فقط، بعد أن كان يُعتبر “المرجعيةَ العليا للدروز في المنطقة”. وقد أدّى هذا الانحسار الإقليمي إلى صعود بدائلَ عابرةٍ للحدود، مثل الشيخ حكمت الهجري والشيخ موفق طريف (الزعيم الروحي لدروز “إسرائيل”)، ما يشير إلى تآكلٍ خطيرٍ في الزعامة المطلقة. داخليًا، بدأت “أصوات التغيير” تعلو، ووصل التململ إلى مشايخ الدروز، الذين كانوا يشكّلون “شبكة الأمان” التقليدية له.
في خطوته السياسية الأخيرة، نفّذ وليد جنبلاط ما يمكن وصفه بأنه عملٌ براغماتيٌّ نهائيٌّ؛ التسليمُ المنظّم للسلطة لنجله تيمور. لم يكن قرارُ استقالته مفاجئًا، بل جاء بعد تسليمٍ تدريجيٍّ بدأ في 2017، إذ كان جنبلاط أولَ زعيمٍ في تاريخ عائلته يُسلّم الزعامة وهو على قيد الحياة، مكسرًا بذلك دورةَ العنف والاغتيالات التي لازمت العائلة. وقد تميزت عمليةُ التوريث بالرمزية والاحتواء المؤسّساتي. ففي عام 2017، وضع “كوفية الزعامة” على كتفي تيمور، مطالبًا إياه بحمل “تراث جدك الكبير كمال جنبلاط”، ومن ثم تنحّى عن العمل النيابي في 2018 ورشّح تيمور للانتخابات. وفي 2023، أعلن استقالته من رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي، داعيًا إلى مؤتمرٍ عامٍّ انتخابيٍّ.
كان الهدف من هذه العملية هو تجميلُ الزعامة التقليدية بغطاءٍ حزبيٍّ “ديمقراطيٍّ شكليٍّ”، ما يضمن انتقالًا سلسًا وغير دمويٍّ، ويضفي شرعيةً مؤسّساتيةً على التوريث. فلم ينسحب جنبلاط كليًّا، بل أعلن أنه سيبقى “مرشدًا لابنه”، مؤكدًا أن “المستقبل له وليس لي”، فيما مثّل هذا التحوّل اعترافًا بأن العصر لم يعد عصرَ الزعيم الأبويّ الكاريزميّ المطلق.
نهاية، مثّل وليد جنبلاط، الذي أدار القيادة لأكثر من أربعة عقود، الفصلَ الختامي لنمط الزعامة اللبنانية التقليدية، الذي يجمع بين السلطة الإقطاعية، والكاريزما الشخصية، والنفوذ الإقليمي المطلق. وقد نجح في البقاء عبر إتقانه فنَّ “الواقعية السياسية”، أو ما أسماه “الثابت والمتحوِّل”، حيث كان أمنُ الجبل واستقرارُ الطائفة هما الثابتَ الوحيدَ في معادلاته.
إن عملية التسليم المنظَّمة لنجله تيمور، تتشابك مع تحولاتٍ جيوسياسيةٍ عميقةٍ تؤكد نهايةَ حقبةِ جنبلاط الأب. فمن جهة، تزامن هذا الانتقال مع انحسارِ قوةِ “حزب الله” بفعل الضغوط الإقليمية والدولية، وحربِ “إسرائيل” على لبنان، ما وفّر مساحةً للمناورة السياسية التي يتقنها جنبلاط. ومن جهةٍ أخرى، يُمثّل المسارُ الجديد محاولةً لإعادة صياغة العلاقة بين الزعامة الدرزية اللبنانية والعمق الاستراتيجي للطائفة في سوريا، خاصةً بعد أن كلّفه الاصطفافُ السابق في الحرب السورية خسارةَ ثقةِ دروز المنطقة.
ولعل المؤشرَ الأبرزَ لهذا التكيّف هو التقاربُ الأخيرُ الذي يسعى إليه جنبلاط مع معسكرٍ جديدٍ، مُمثَّلٍ بالرئيس السوري أحمد الشرع. هذه الاستدارة هي المحاولةُ الأخيرة لوصل الزعامة الدرزية في المختارة بـ”سلطةٍ جديدةٍ” صاعدةٍ في سوريا، في مسعى لتعويضِ النفوذ الإقليمي الذي تآكل وتقلّص إلى داخل الحدود اللبنانية فقط، وهو بمثابة تحصينٍ للكيان السياسي في مرحلةِ ما بعد الزعيم المطلق، واعترافٍ بأن القيادة المقبلة لن تكون مرجعيةً إقليميةً عُليا، بل زعامةً محليةً مدنيةً، مهمتُها الأولى هي إدارةُ التوازناتِ الهشّةِ في بلدٍ لم يعُد فيه للزعماء التقليديين، كان آخرهم حسن نصر الله، سوى لعبةِ البقاءِ الضيّقة.