توم باراك يرسم ملامح شرق أوسط جديد.. لكن على المقاس الإسرائيلي

توم بارك

أطلق المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم باراك، رؤية سياسية جديدة وصفها بأنها إطار لإعادة هندسة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بعد حرب غزة، تقوم على توسيع دائرة التطبيع لتشمل لبنان وسوريا والسعودية، باعتبارها “الركائز الجوهرية لتثبيت السلام الشامل” في المنطقة.

وفي تغريدة مطوّلة نشرها عبر حسابه الرسمي على منصة “إكس” تحت عنوان “وجهة نظر شخصية” قدّم باراك ما يشبه خارطة طريق دبلوماسية تهدف – بحسب قوله – إلى تحويل الهدنة في غزة إلى نقطة انطلاق لمشروع أوسع من “السلام الاقتصادي” و”التكامل الإقليمي”.

وأشار إلى أن قمة شرم الشيخ التي عُقدت في 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعدد من القادة العرب والمسلمين، تمثّل في نظره “لحظة مفصلية” في مسار الشرق الأوسط، إذ تجاوزت حدود اتفاق وقف إطلاق النار لتتحوّل إلى “منصة شراكة لإعادة الإعمار والتنمية” و “جسرًا لتوحيد الشرق والغرب”.

اللافت في رؤية باراك أنها ليست جديدة تمامًا، بل امتداد لنهج قديم يسعى لإعادة إنتاج المنطقة وفق منظور أمريكي–إسرائيلي واضح، وتتقاطع بوضوح مع التوجهات الاستراتيجية لواشنطن وتل أبيب في مرحلة ما بعد غزة، حيث يجري استثمار المتغيرات الجيوسياسية الراهنة لإعادة ترتيب موازين القوى الإقليمية.

وبينما يقدّم باراك رؤيته بوصفها “مبادرة إنسانية للتكامل والازدهار”، يرى مراقبون أن مضمونها الحقيقي يعكس إصرارًا أمريكيًا على هندسة الشرق الأوسط سياسيًا واقتصاديًا بما يكرّس الهيمنة الغربية، ويحوّل مسار التطبيع إلى أداة لإعادة إنتاج النفوذ الإسرائيلي في المشرق العربي، تحت غطاء “الشراكة والسلام المستدام”.

قمة شرم الشيخ.. منعطف حاسم

من وجهة نظر باراك، سيُذكر يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025 كأحد المنعطفات الحاسمة في الدبلوماسية الشرق أوسطية الحديثة، معتبرًا أن ما حدث في شرم الشيخ، لم يكن فقط مجرد اجتماع قادة العالم على الاحتفال بإطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار وبدء مفاوضات السلام، بل هو تأييد لرؤية ترامب الجريئة ذات النقاط العشرين للتجديد وإعادة الإعمار والازدهار المشترك في المنطقة.

ويرى أنه تحت قيادة ترامب اجتمعت الدول العربية والإسلامية والغربية في مسعى واحد هو استبدال التأخر بالتقدم والعزلة بالاندماج، “ولأول مرة منذ قرن، تبلور توافق حقيقي — إدراكٌ بأنّ الشرق الأوسط، الذي أنهكته الانقسامات القبلية والدينية وجراح الإرث الاستعماري، قادر الآن على نسج نسيج جديد من التعاون، ما بدأ بهدنة في غزة تطوّر إلى ما هو أعمق: اللبنة الأولى في فسيفساء متجددة من الشراكة”.

وبتغريد خارج السرب وعكس عقارب الواقع تمامًا، يقول باراك إنه في ظل رعاية الرئيس الأمريكي، لم تعد الاستقرار يُفرض بالخوف بل يُبنى على الفرص المشتركة؛ ولم تعد السلام مجرّد توقف مؤقت للعنف، بل منصة لازدهار مستدام.

سوريا.. القطعة المفقودة من لوحة السلام

تبرز سوريا في رؤية باراك كأحد الاختبارات الجوهرية لمدى صلابة النظام الإقليمي الوليد، فالدولة التي أنهكتها الحرب والانقسامات تمثل الحلقة المفقودة في معادلة السلام، إذ لا يمكن لأي مشروع استقرار أن يكتمل بينما تظل إحدى أقدم حضارات الشرق في حالة دمار، ومن هنا تأتي الدعوات لامتداد “رياح المصالحة” شمالًا، لتشمل دمشق، وتعيد إدماجها في محيطها العربي والإقليمي.

ويرى المبعوث الأمريكي أن إلغاء قانون قيصر يمثل خطوة مفصلية نحو إعادة بناء سوريا، فمجلس الشيوخ الأمريكي صوّت لصالح رفع العقوبات التي تحولت من أداة ضغط أخلاقي ضد النظام السابق إلى عبء اقتصادي خانق على الشعب السوري، بينما ينتظر أن يصادق مجلس النواب على القرار ذاته، فالعقوبات التي كانت تستهدف الطغاة، باتت اليوم تعرقل حياة المعلمين والمزارعين والتجار الذين يسعون لنهضة بلادهم.

وانطلاقاً من هذه القاعدة ينظر باراك لسوريا كجزء من رؤية أوسع لإعادة هندسة الشرق الأوسط عبر “اتفاقات أبراهام الموسعة”، التي تربط بين السلام والتنمية والتكامل الاقتصادي، فكما وضعت قمة شرم الشيخ أسس هدنة في غزة، فإن المرحلة المقبلة تهدف إلى مدّ “إيقاع الحوار” نحو سوريا ولبنان، في محاولة لصوغ شرق أوسط جديد يقوم على التعاون الطاقوي والازدهار المشترك، مع تقليص نفوذ القوى المعرقلة وعلى رأسها الحرس الثوري الإيراني. وبهذا، يتحول رفع العقوبات من خطوة سياسية إلى علامة فارقة في مشروع إقليمي جديد يبدّل معادلة الصراع بالتنمية والمواجهة بالسلام.

لبنان.. الوجه الآخر

يرى المبعوث الأمريكي أن لبنان هي الوجه الأخر لأي سلام إقليمي، لافتًا أن الركيزة الثانية لأي تسوية إقليمية مستقرة تتمثل في نزع سلاح حزب الله وفتح قنوات حوار أمني وحدودي بين لبنان وإسرائيل، موضحًا أن اتفاق وقف الأعمال العدائية لعام 2024 فشل في تحقيق أهدافه، لأنه افتقر إلى آلية تنفيذ مباشرة بين الجانبين، مما جعل الهدوء القائم على الحدود “هشًّا ومؤقتًا” لا يرتقي إلى مستوى السلام الحقيقي.

وبيّن باراك أن استمرار تمويل إيران لحزب الله والانقسامات العميقة داخل الحكومة اللبنانية ساهما في ترسيخ هذا الجمود، مشددًا على أن نزع سلاح الحزب لا يجب أن يُنظر إليه كتنازل أمني لـ”إسرائيل”، بل كـ فرصة للبنان لاستعادة سيادته وجذب الاستثمارات الدولية التي يمكن أن تُنعش اقتصاده المنهك.

وأضاف أن الإدارة الأمريكية تعتمد نهج “الحوافز لا الإكراه” في تعاملها مع الملف اللبناني، إذ تربط المساعدات الخليجية بتقدّم ملموس في الإصلاحات السياسية والأمنية، مع تقديم دعم إضافي للجيش اللبناني وتطوير قدراته الدفاعية، كما كشف أن واشنطن كانت قد عرضت “غطاءً دبلوماسيًا” لتحوّل حزب الله إلى حزب سياسي مدني، غير أن المشروع تعثّر بسبب الانقسام الداخلي الحاد في بيروت.

وحذّرت الخطة من أن تأجيل الإصلاحات أو الانتخابات المقبلة قد يزج بلبنان في مواجهة جديدة مع “إسرائيل”، في وقت يشهد فيه الإقليم تراجعًا في النفوذ الإيراني، ما يجعل المواجهة محسومة مقدمًا لصالح تل أبيب.

واختتم باراك رؤيته بالتأكيد على أن الطريق نحو توسيع اتفاقات أبراهام أصبح أكثر وضوحًا بعد قمة شرم الشيخ، حيث تقترب السعودية من الانضمام الرسمي، ما سيشجع دول المشرق الأخرى على اللحاق بهذا المسار، “مدفوعة لا بالضغوط، بل بوعود الازدهار والشراكة الإقليمية الجديدة”.

سايكس بيكو والشرق الأوسط الجديد

لم تكن هذه هي الرؤية الوحيدة التي طرحها باراك لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق أبجديات ومعادلات مختلفة، فقبل أربعة أشهر تقريبًا، طرح تصورًا مختلفًا يتعلق بإعادة النظر في اتفاقية سايكس بيكو لتقسم المنطقة جغرافيًا، معتبرًا أنها فقدت تأثيرها وحضورها ولا بد من تغييرها.

ويعتبر المبعوث الأمريكي أن الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو لم تعد ذات معنى بالنسبة لإسرائيل، مؤكدًا أن تل أبيب ستتخذ أي خطوات تراها ضرورية لضمان أمنها “في أي مكان وزمان”، حتى وإن تجاوزت حدودها الجغرافية.

بطبيعة الحال، تصريحات باراك لا يمكن التعاطي معها باعتبارها مجرد رأي شخصي، بل تعكس وبشكل واضح ملامح رؤية أمريكية – إسرائيلية مشتركة تسعى لتفكيك النظام الإقليمي القائم وتتجاوز مفهوم الدولة الوطنية، ما يثير تساؤلات حول جوهر مشروع “الشرق الأوسط الجديد” في مرحلة ما بعد غزة.

وتستند تلك الرؤية على مرتكزين أساسيين، الأول: “انتهاء مرحلة سايكس بيكو” وهدم الحدود القومية، فباراك يرى أن الخرائط التي وُضعت قبل قرن من الزمن كانت نتاجًا استعماريًا لا يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي للمنطقة، وأن إعادة النظر فيها أمر حتمي.

غير أن مثل هذا الطرح في جوهره، وبعيدًا عن شعاراته الوردية المرفوعة، يُشرعن التوسع الإسرائيلي خارج حدوده المعترف بها دوليًا بذريعة “الأمن القومي”، وهو ما يُهدد سيادة دول المشرق، لا سيما سوريا ولبنان، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من السياسات العدوانية المغلفة بخطاب “السلام والازدهار”

أما المرتكز الثاني فيتمثل في ترسيخ مبدأ تفوق أمن إسرائيل على مبدأ السيادة الإقليمية، فوفقًا للمبعوث الأمريكي، فإن أمن تل أبيب هو البوصلة التي يجب أن تُوجّه كل الترتيبات السياسية والعسكرية في المنطقة، وأنها لن تتردد في التحرك عسكريًا متى شعرت بتهديد.

وتمثل هذه المقاربة امتدادًا لعقيدة “الهيمنة الإسرائيلية” التي تسعى إلى فرض نفوذ أمني واقتصادي شامل، مستفيدة من الدعم الأمريكي ومن حالة الانقسام العربي، بما يجعل الردع بديلًا عن التوازن، والسيطرة بديلًا عن الشراكة.

إلى جانب هذين المرتكزين العنصريين، تعكس رؤية باراك نظرة استعلائية تنزع الشرعية عن الكيانات الوطنية العربية، وذلك حين استندت خطته إلى إعادة تعريف الشرق الأوسط بوصفه فضاءً من “القبائل والدول المصطنعة” لا من الأمم المتجذرة، وهو ما يحوّل مقترح المبعوث الأمريكي إلى مشروع لإعادة هندسة المنطقة يقوم على تفكيك مفهوم الدولة الوطنية لصالح منظومة تقودها إسرائيل، تحت شعار “الأمن مقابل الازدهار”.

هندسة على المقاس الإسرائيلي

كما أكدنا، فإن ما يطرحه توم باراك لا يمكن النظر إليه كـ “رأي شخصي” أو اجتهاد دبلوماسي مستقل، كما يقدّمه هو، بل يمثل في جوهره ترجمة عملية للرؤية الأمريكية الرسمية تجاه الشرق الأوسط في مرحلته الجديدة، فتصريحاته المتكررة ليست سوى أداة لجسّ نبض الموقف العربي واختبار مدى قابلية العواصم الإقليمية للتعاطي مع مخطط شامل لإعادة تشكيل المنطقة على المقاس الإسرائيلي ووفق المصالح الأمريكية، في سياق ما يمكن تسميته بـ “الشرق الأوسط بعد غزة”.

تستند هذه الرؤية إلى خمسة محاور استراتيجية مترابطة، تمثل مجتمعة الأساس الفكري للمشروع الأمريكي–الإسرائيلي الجديد.

يتمثل المحور الأول في القضاء النهائي على المقاومة، ليس فقط كممارسة عسكرية، بل كفكرة ووعي جمعي، عبر تفكيك بيئتها الفكرية وتجريمها سياسيًا وأمنيًا، وصولًا إلى نزع سلاح المحور المقاوم بالكامل وإخضاعه للمنظومة الأمنية الأمريكية – الإسرائيلية.

أما المحور الثاني،  فهو ضمان الأمن الإسرائيلي بوصفه الغاية المركزية للمشروع. فالقضاء على المقاومة يُفضي بطبيعته إلى تحييد مصادر التهديد، بما يسمح لتل أبيب بفرض “سلام القوة” دون الحاجة إلى تسويات متوازنة أو تنازلات متبادلة.

ويرتبط بذلك المحور الثالث الذي يسعى إلى ترسيخ التفوق الإسرائيلي الشامل – أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا – عبر تعميق الفجوة مع الدول العربية، بحيث يتحول الكيان الصهيوني إلى القوة المهيمنة في الإقليم، القادرة على توجيه سياساته واستثمار ثرواته من موقع التفوق لا الندية.

فيما يركز المحور الرابع على إقامة منظومة إقليمية عربية – إسرائيلية تحت شعار “السلام والاستقرار”، لكنها في جوهرها تهدف إلى تحجيم نفوذ المعسكر الشرقي، أي إيران وروسيا والصين، وحماية المصالح الأمريكية في المنطقة ضمن إطار من “الاصطفاف الاستراتيجي” الجديد.

ثم يأتي المحور الخامس، والأخير والذي يُعد النتيجة المنطقية لما سبق؛ إذ إن اتساع الفجوة بين إسرائيل وجيرانها العرب، وتحوّل التفوق الإسرائيلي إلى واقع بنيوي، يجعل من التطبيع أمرًا تحصيليًا لا خيارًا سياديًا، بحيث تصبح اتفاقات أبراهام قاعدة جديدة للعلاقات الإقليمية، لا استثناءً.

وبذلك تتحول “إسرائيل” من كيان طارئ إلى فاعل مركزي في المنظومة العربية، بينما تنزاح أولويات الأمن والسيادة في العالم العربي لصالح معادلة “السلام مقابل الاصطفاف”، لا “السلام مقابل الأرض” كما كانت في تسعينات القرن الماضي.

في ضوء ما تقدّم، تمثّل رؤية توم باراك إعادة إنتاجٍ ممنهجة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طالما سعت واشنطن وتل أبيب إلى تكريسه منذ مطلع الألفية، لكن بثوبٍ أكثر نعومة وواقعية سياسية،  فهي تسعى إلى تحويل مسار الصراع إلى عملية اندماج قسري تُفرغ المنطقة من مبررات مقاومتها التاريخية، وتُعيد تعريف مفاهيم الأمن والسيادة والتنمية وفق معايير “الإسرائيلي المتفوّق” و”العربي التابع”.

وفق هذا المعنى البرغماتي، لم تعد خطة المبعوث الأمريكي مجرّد مبادرة دبلوماسية عابرة، بل ترتيب جديد لموازين القوى يعيد إنتاج الهيمنة الغربية بوسائل أكثر دهاءً، وخارطة طريق استراتيجية تُرسم بعناية لتأسيس شرق أوسط جديد تتحكم فيه واشنطن بالقرار، وتحتكر فيه إسرائيل مفاتيح القوة والتقدّم.