كيف تنظر “إسرائيل” للدور التركي المتنامي في غزة؟

ترافق إعلان الحكومة التركية قبل يومين عن استعدادها لإرسال فرق من هيئة إدارة الكوارث والطوارئ “آفاد” إلى قطاع غزة، مع تصاعد ملموس في الهواجس الإسرائيلية بشأن تنامي الدور التركي في مسار مفاوضات وقف إطلاق النار.

يأتي هذا التوجس في ضوء الدور المباشر الذي بات يلعبه جهاز الاستخبارات التركي، الذي دخل على خط المفاوضات بفعالية أثارت تساؤلات في تل أبيب حول حدود النفوذ التركي الجديد.

وفيما تلقت أنقرة إشادات دولية، كان أبرزها من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بشأن “الدور البنّاء” في التعامل مع الأزمة، قرأت “إسرائيل” هذه التصريحات كمؤشر على نية تركية للانخراط العميق في ملفات الأمن وإعادة الإعمار داخل القطاع، وربما التمركز الدائم في منظومة ما بعد الحرب. 

يضاعف من هذه المخاوف مطلب حركة حماس إدراج تركيا ضمن الدول الضامنة لأي اتفاق مستقبلي، إلى جانب مصر وقطر، بما يعكس تحوّلًا في معادلات التأثير الإقليمي.

فهل باتت أنقرة رقمًا صعبًا في المعادلة الفلسطينية؟ ولماذا ترى تل أبيب في هذا التمدد تهديدًا استراتيجيًا يتجاوز حدود القطاع؟

ملامح تزايد النفوذ التركي في غزة

شهد الدور التركي في غزة خلال الحرب الأخيرة تحوّلًا جذريًا من الدعم الخطابي والمواقف السياسية، إلى تدخل مباشر متعدد المستويات، فمنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2025، انتقلت أنقرة من موقع المتابع إلى موقع الطرف المشارك فعليًا في إدارة الأزمة، مع انضمام رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن إلى غرفة العمليات السياسية في القاهرة، حيث كان له دور في نقل الرسائل الحساسة بين حركة حماس وعدة أطراف دولية.

زاد من تعزيز موقع تركيا كوسيط فعال، اقتران مساعيها بخطاب سياسي واضح؛ حيث أعلن وزير الخارجية هاكان فيدان أن بلاده مستعدة للعب دور “الضامن” إذا ما نُفذ اتفاق على أساس حل الدولتين، في خطوة تعكس نية أنقرة تجاوز الأدوار التكتيكية نحو تموضع طويل الأمد في البنية السياسية لما بعد الحرب.

بالتوازي مع التحرك الاستخباراتي، فعّلت أنقرة في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري واحدة من أكبر عمليات الدعم الإنساني لغزة منذ سنوات. فقد أقامت إدارة الكوارث والطوارئ (آفاد) ممرًا بحريًا وبريًا متصلًا عبر ميناء مرسين، مرورًا بالعريش، وصولًا إلى قطاع غزة، حيث وصلت حوالي 17 سفينة باسم “أسطول الخير” تحمل أكثر من 900 طن من المساعدات، تزامنًا مع إعلان أنقرة جاهزيتها لإرسال فرق بحث وإنقاذ تعمل على الأرض في غزة.

شاحنات هيئة إدارة الكوارث والطوارئ (AFAD) قبل التوجه إلى معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة، رفح، شمال سيناء، مصر، 12 أكتوبر 2025.

كما أوكلت مهمة التنسيق الميداني، لمحمد غول أوغلو، الرئيس السابق لـ”آفاد” والسفير السابق لتركيا، مما يشير إلى أن هذه المهمة تحظى بدعم سياسي مباشر من أعلى مستويات الدولة. كما تعمل تركيا على إرسال مقاولين وهيئات تنفيذية لتوفير مساكن مؤقتة، وإزالة الأنقاض، والمساهمة في إعادة البناء، ما يملأ فراغًا تتركه تباطؤ المسارات السياسية التقليدية في ملف الإعمار.

في موازاة ذلك، تعمل تركيا بهدوء على إعادة تأطير حركة حماس سياسيًا وإعلاميًا، كجزء من رؤيتها الأوسع لتغيير قواعد اللعبة في غزة. ففي مواجهة الرواية الإسرائيلية والأميركية التي تُصنف حماس كمنظمة إرهابية، تقدّم أنقرة الحركة على أنها فاعل سياسي فلسطيني مشروع، منتخب وله قاعدة شعبية، ويمثل جزءًا من التوازن الداخلي الفلسطيني، وليس مجرد تنظيم مسلح.

وقد جاء هذا النهج متسقًا مع طبيعة اللقاءات رفيعة المستوى التي استضافت فيها أنقرة مؤخرًا قيادات من الصف الأول في الحركة، بما يعكس تطبيعًا سياسيًا مقصودًا لدور حماس في المشهد الفلسطيني.

وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع قادة حماس السياسيين، في إسطنبول في 18 أكتوبر 2024.

التحليل الإسرائيلي لهذا المسار عبّر عنه محرر الشؤون العسكرية في صحيفة يديعوت أحرونوت، يوسي يهوشاع حيث قال إن تركيا لها مصلحة واضحة ببقاء حماس، لأنها باتت ترى غزة مركز نفوذ استراتيجي وأيديولوجي، ورغم المعارضة الإسرائيلية العلنية لتدخلها بإعادة إعمار غزة، لكن فرق هيئة إدارة الكوارث والطوارئ التركية على وشك الوصول للقطاع. 

ما الذي تخشاه “إسرائيل” في النفوذ التركي؟

في تل أبيب، لا يُنظر إلى الدور التركي المتنامي في غزة بوصفه مجرد امتداد لحملة إغاثة إنسانية أو موقف سياسي موسمي، بل يُقرأ كمحاولة تركية مدروسة وطويلة المدى لإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي من بوابة حركة حماس، وبأدوات تجمع بين الاستخبارات، والإغاثة. 

نوعا لازيمي، الباحثة في معهد “مسغاف” الصهيوني، عبّرت عن خيبة أملها من أن وقف إطلاق النار مع حماس قد أعاد تركيا إلى واجهة المشهد، معتبرة أن أنقرة استفادت من الاتفاق لترسيخ موقعها كوسيط دولي، وأنها ستستغل هذا الموقع لتثبيت وجود حماس، وتوسيع نفوذها الإقليمي، في تحدٍّ مبكر وواضح لـ”إسرائيل”.

الكاتب إليتسور غلوك في موقع “العين السابعة” رأى أن القلق من تركيا “ليس هستيريا”، بل قائم على أساس واقعي، خاصة مع إصرار أردوغان على تصوير حماس كحركة تحرر وطني، ودعمه العلني لـ”الأشقاء الفلسطينيين”، بل وإشارته إلى احتمال تدخل عسكري تركي في سياقات إقليمية، كما فعلت أنقرة سابقًا في سوريا وليبيا.

المستشرق الإسرائيلي بنحاس عنبري أشار في مقال إلى أن تركيا قد تستخدم نفوذها في غزة لفرض واقع استراتيجي في المنطقة البحرية، عبر المطالبة بإنشاء ميناء على ساحل القطاع، بما يخدم تطلعاتها الجيوسياسية في مواجهة اليونان وقبرص، وحتى الضغط على “إسرائيل” من خاصرتها البحرية.

 وأضاف أن أردوغان ألمح بنفسه إلى زيارة مرتقبة لغزة، في خطوة وصفها عنبري بأنها بالغة الخطورة، لما تحمله من دلالة سيادية ورمزية قد تترجم إلى حضور سياسي تركي دائم.

حضور متنامي للاستخبارات التركية

لم يغب اسم إبراهيم قالن، رئيس جهاز الاستخبارات التركية، عن تحليلات الصحف الإسرائيلية، بل تصدّرها، فقد بات واضحًا أن أنقرة لا تتحرك في ملف غزة بعقلية الوزارات التقليدية، بل توكّل أهم رجل في منظومتها الأمنية لتمثيلها في أكثر الملفات حساسية. 

باروخ ياديد، مراسل قناة “I24 NEWS” للشؤون الفلسطينية، لم يتردد في القول إن الضغط التركي هو ما مكّن حماس من القبول باتفاق التهدئة، مشيرًا إلى أن الحركة استجابت للضمانات التركية “بسرعة مذهلة”، وهو ما يعكس وزن أنقرة الحقيقي في التأثير على قرارات حماس. وقال إن قيادة الحركة كانت في ضيافة تركيا مرات عدة خلال الأسابيع الأخيرة، ما يعزز فرضية أن أنقرة طرفًا ضامنًا بعمق ارتباطاتها السياسية مع حماس.

كما  سلطت تقارير إسرائيلية الضوء على مكانة غولن الخاصة داخل دائرة القرار في أنقرة، ففي تقرير مشترك لمجلة “غلوبس”، أشار دين شموئيل إلماس وستيف ليفني إلى أن قالن لم يُرسل إلى المفاوضات في شرم الشيخ كدبلوماسي عابر، بل باعتباره أحد أقرب الشخصيات إلى أردوغان، ومبعوثًا خاصًا بمهام تتجاوز حدود جهاز الاستخبارات التقليدي.

وأكد التقرير أن أنقرة دفعت به إلى واجهة الملف في اليوم التالي لاندلاع الحرب، بهدف حماية مصالحها الاستراتيجية في غزة، مشيرة إلى تصريحه اللافت: “نحن، تركيا، سنشارك في فرق العمل التي ستراقب تنفيذ الاتفاق ميدانيًا”.


غاليا ليندستراوس، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي، أيضًا اعتبرت أن قالن ليس فقط رجل استخبارات، بل مبعوث شخصي دائم للرئيس التركي في المحطات الإقليمية الحرجة. واستشهدت بسوابق عدة، منها إرساله إلى موسكو بعد أزمة الطائرة الروسية في 2015، وإلى العواصم الخليجية أثناء أزمة حصار قطر، ما يعزز فرضية أن تركيا لا تفصل بين السياسة والأمن، وأن جهاز الاستخبارات فيها يُستخدم كذراع سياسي مرن وفعّال.

أكثر من ذلك، تشير مصادر إعلامية إلى أن قالن لم يكتفِ بإجراء المباحثات، بل أبلغ مسؤولين إسرائيليين ـ بصورة غير مباشرة ـ أن بلاده ستكون حاضرة في غزة بعد الاتفاق، ليس فقط بالمساعدات، بل عبر إرسال مئات الخبراء والمستشارين للمشاركة في إعادة الإعمار. 

مراسلة “إسرائيل اليوم” نيتاع بار، كشفت أيضًا عن طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصيًا من أردوغان استخدام نفوذ قالن لإقناع حماس بقبول العرض الأميركي للتهدئة، ما يُضفي على دوره بعدًا دوليًا يتجاوز الوساطة الثنائية.

الربح التركي في مرآة “إسرائيل”

لا يُخفي الإعلام الإسرائيلي أن تركيا خرجت من الحرب على غزة بوصفها أحد أبرز الرابحين سياسيًا، إن لم تكن الرابح الأكبر على الإطلاق. في قراءة سريعة للمشهد، تبدو “إسرائيل”، التي كانت تأمل بإعادة هندسة الواقع داخل القطاع بما يخدم أمنها، مضطرة الآن إلى التعامل مع واقع جديد تشكلت معالمه بسرعة، تتوسطه أنقرة بثقة وحضور لم يكن مطروحًا بهذا الزخم قبل اندلاع الحرب.

موقع “والا” العبري عبّر عن هذه المفارقة بشكل مباشر، واصفًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ”الرابح الأكبر” من اتفاق وقف الحرب، وذلك في تحليل للكاتب غالي إليستر، الذي اعتبر أن تركيا نجحت في التسلل إلى عمق المشهد السياسي الغزي من خلال محادثات شرم الشيخ، ووقفت جنبًا إلى جنب مع مصر وقطر كلاعب محوري في هندسة التهدئة. كما أقرّ أن “حكومة إسرائيل ليس لديها خيار سوى قبول الوضع الجديد، حتى وإن كانت لا ترتاح إليه.”

القراءة ذاتها تتكرر داخل مراكز الفكر المرتبطة بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، نوعا لازيمي، الباحثة في معهد “مسغاف” للصهيونية والأمن القومي، قالت صراحة إن تركيا حصلت على “فوائد كبيرة” في المقابل، وأشارت إلى أن مشاركة أردوغان في المحادثات لم تكن تقنية أو شكلية، بل منحته مكانة رمزية باعتباره زعيمًا يفاوض باسم الفلسطينيين، ويدافع عنهم بخطاب علني يتناغم مع رؤيته الأوسع لنفسه كقائد للعالم الإسلامي.


هذا البعد الرمزي يشكل جوهر القلق الإسرائيلي؛ في هذا السياق أشار عوديد عيلام، الرئيس السابق لقسم مكافحة الإرهاب في الموساد، إلى ما اعتبره “الدور التركي الهدّام”، مشيرًا إلى أن ما يثير القلق ليس حجم الدور بحد ذاته، بل طبيعة الطموحات التي يحملها أردوغان، وسعيه المعلن لإعادة إحياء مشروع عثماني بلباس حديث، يتقاطع مع تصعيد خطابه الإسلامي، وتفاخره المتكرر بما يعتبره “دفاعًا أخلاقيًا عن فلسطين”.

في المحصلة، لا تنظر “إسرائيل” إلى تنامي النفوذ التركي في غزة كحالة ظرفية أو انخراط إنساني عابر، بل كمؤشر على تحوّل أوسع في موازين التأثير الإقليمي. فبينما تتآكل هيمنتها التقليدية على الملف الفلسطيني، تصعد تركيا بثقة، حاملة خطابًا سياسيًا يتحول تدريجيًا إلى أوراق قوة ملموسة. وتكشف قراءات الإعلام العبري ومراكز الفكر الإسرائيلية عن قلق يتجاوز التحفّظ، ليعكس إدراكًا لتراجع فعلي أمام خصم لا يطرح نفسه كوسيط، بل كمنافس إستراتيجي قديم وجديد في آن واحد.