هيئة الإغاثة التركية تباشر إزالة الأنقاض في غزة.. ما خطتها لمرحلة ما بعد الحرب؟

بين أنقاض المنازل المدمّرة، وشوارع غطاها الركام لأشهر، بدأت ملامح الحياة تعود تدريجيًا إلى شمال قطاع غزة، مع إطلاق هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) حملة ميدانية واسعة لإزالة الأنقاض وتنظيف الأحياء المتضرّرة، إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من التعافي وإعادة الإعمار، بعد حرب إبادة جماعية استمرت لعامين.

ودفعت الهيئة بآلياتها الثقيلة إلى المناطق الأكثر تضررًا، لفتح الطرق الرئيسية وتيسير عودة السكان تدريجيًا إلى أحيائهم التي هجروها تحت وقع القصف والدمار.

وتأتي هذه الحملة ضمن خطة متكاملة وضعتها الهيئة للانتقال من الإغاثة العاجلة إلى إعادة التأهيل المجتمعي، بعد أشهر من العمل الإنساني المكثف خلال الحرب. إذ تؤكد الهيئة أنها تمكّنت منذ اندلاع العدوان من تنفيذ واحدة من أوسع عمليات الإغاثة في القطاع، شملت تقديم أكثر من 35 مليون وجبة ساخنة، و6.3 ملايين رغيف خبز، ونحو 4.6 ملايين مكمل غذائي للحوامل والأطفال، بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي.

وحدة توزيع الخبز الخاصة بالـ İHH في مدينة غزة

معلبات طعام مخصصة للأطفال

كما وزعت الهيئة أكثر من 206 آلاف طرد غذائي، و1.2 مليون عبوة غذائية متنوّعة، إلى جانب 130 ألف كيس دقيق، ومئات آلاف البطانيات، وطرود النظافة والملابس. أمّا على صعيد الإيواء، فقدّمت 79 ألف قطعة من مستلزمات المعيشة كالأسرّة والمفروشات، إلى جانب 3 آلاف خيمة، وشغّلت 7 مخيمات إيواء، و8 مساجد ميدانية في المناطق المنكوبة.

كما أشرفت الهيئة على 357 عملية جراحية، وقدّمت أكثر من 600 نوع من الأدوية والمستلزمات، فضلًا عن تسيير 12 سيارة إسعاف، ودعم مستشفى الشفاء بالوقود اللازم لتشغيله.

وحدة طبية مخصصة لعمليات المياه البيضاء في غزة

وفي سياق التحوّل من الاستجابة الطارئة إلى جهود إعادة الإعمار، تكشف هيئة الإغاثة الإنسانية التركية عن ملامح خطتها لما بعد الحرب، والمبنية على رؤية تنموية متعددة المراحل، تستهدف إعادة تأهيل المجتمع والبنية التحتية في قطاع غزة.

ولتسليط الضوء على تفاصيل هذه الخطة وأهدافها، تواصل “نون بوست” مع مسؤول في هيئة الإغاثة التركية، طلب عدم ذكر اسمه، للوقوف على آليات الانتقال من الإغاثة العاجلة إلى الإعمار المستدام.

خطة شاملة

وقال المسؤول في حديثه لـ”نون بوست”، إنّ تحرك هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، في غزة ما بعد الحرب لا يقتصر على تلبية الاحتياجات الطارئة، بل يستند إلى خطة طويلة الأمد تستهدف إعادة تأهيل المجتمع والبنية التحتية في آنٍ.

وتشمل الخطة، التي تُنفَّذ على ثلاث مراحل، بدءًا بإزالة الأنقاض وتقدير حجم الأضرار، وصولًا إلى تنفيذ مشاريع دائمة في مجالات الصحة والتعليم والإيواء، كجزء من تصوّر تنموي شامل لإعادة إعمار القطاع.

وأوضح أن الهيئة كثّفت وجودها الإنساني في غزة منذ 7 أكتوبر، بعد أن كشفت التقييمات الميدانية عن حجم الدمار الهائل، واتساع رقعة الاحتياجات الأساسية للسكان. وضمن الاستجابة الفورية، وفّرت الهيئة ملايين الوجبات الساخنة، ووزّعت الخبز والمياه، إلى جانب تقديم مساعدات في مجالات الإيواء، والنظافة، والعمليات الجراحية العاجلة، كما أطلقت مشاريع ميدانية لتأسيس مطابخ متنقلة، وأفران خبز، ومحطات تحلية مياه، ومراكز علاجية وتأهيلية، وملاجئ للأطفال الأيتام، وبدأت فعليًا في تنفيذها، بحسب المسؤول.

ولفت إلى أن جهود IHH لم تُصمَّم لتكون مؤقتة أو موسمية، بل تتطلّع إلى ترسيخ حلول دائمة من شأنها المساهمة في بناء قاعدة صلبة للتعافي المجتمعي في غزة، إذ ترى الهيئة أن تجاوز الكارثة لا يمكن أن يتحقّق دون الاستثمار في بنية تحتية دائمة، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية، وتمكين الفئات الأكثر تضررًا.

أولويات وتحديات

وعلى صعيد التنسيق المؤسسي، بيّن المسؤول أن هيئة الإغاثة تعمل بشكل مباشر ومنسّق مع إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، فيما يخص تنظيم شحنات الإغاثة والمساعدات الموجّهة لغزة، لكنها لا تُنفِّذ حاليًا أعمالًا ميدانية مشتركة داخل القطاع مع مؤسسات تركية أخرى مثل الهلال الأحمر أو وكالة “تيكا”.

وفيما يخص التعاون الدولي، أوضح أن الهيئة تعمل بالتنسيق مع عدد من وكالات الأمم المتحدة في غزة، من خلال تقاسم المهام وتوزيع الأدوار، لتجنّب ازدواجية الجهود وضمان أكبر قدر من الكفاءة في الاستجابة.

لكنه، في الوقت ذاته، اعتبر أن المواقف الرسمية للمجتمع الدولي ما تزال دون المستوى المطلوب، مقارنة بحجم الكارثة، وعلى النقيض من هذا التردد الرسمي، -يقول المسؤول- رصدت الهيئة تصاعدًا ملحوظًا في التضامن الشعبي العالمي مع الفلسطينيين، وهو ما اعتبره مؤشرًا مهمًا على أن قضية غزة لا تزال تحظى باهتمام شعوب العالم، رغم خفوت المواقف السياسية.

أمّا عن أولويات المرحلة الحالية، فأكد المسؤول أن الهيئة لا تفصل بين دعم البنية التحتية ومساندة المتضرّرين، إذ ترى أن كلا المسارين مترابطان، ولا غنى عن أحدهما، وانطلاقًا من هذا الفهم، تسعى IHH لتنفيذ استجابة إنسانية شاملة، تشمل توفير المسكن، والرعاية الصحية، والتعليم، والغذاء، وكل ما من شأنه التخفيف من معاناة السكان، وتمكينهم من الصمود.

وشدّد على أن العائق الأكبر حاليًا يتمثل في نقص المعدات والآليات الثقيلة اللازمة لرفع الأنقاض، وهو ما يَعرقِل تسريع وتيرة العمل في المناطق الأكثر تضررًا، مشيرًا إلى أن الدمار الذي خلّفته الحرب أشبه ما يكون بـ”إزالة مدينة بأكملها”، ما يفرض تحديات لوجستية وإنسانية هائلة.

تحرك رسمي

كثّفت تركيا جهودها الإنسانية في أعقاب وقف إطلاق النار الأخير في قطاع غزة، عبر تعبئة منسّقة لمؤسساتها الرسمية ومنظماتها المدنية، لتلبية الاحتياجات العاجلة للسكان المتضرّرين.

وأكّد الرئيس رجب طيب أردوغان، في تصريحات أدلى بها خلال عودته من قمة شرم الشيخ في مصر لتوقيع اتفاق السلام بشأن غزة، على ضرورة البدء الفوري في إعادة إعمار غزة، خصوصًا مع اقتراب فصل الشتاء، مشدّدًا على أن دور بلاده لن يقتصر على تضميد الجراح، بل سيمتد إلى “بناء المستقبل”.

وثمّن أردوغان جهود المؤسسات التركية، وعلى رأسها الهلال الأحمر، وإدارة الكوارث والطوارئ (آفاد)، ووكالة التعاون والتنسيق (تيكا)، ووزارة الصحة، لما تبذله من تنسيق فعّال مع منظمات المجتمع المدني، في إطار حملة إغاثية موسّعة. وأعلنت تركيا، منتصف الشهر الجاري، عن إرسال السفينة السابعة عشرة ضمن قافلة “سفن الخير”، محمّلة بنحو 900 طن من المواد الإغاثية، لتلبية الحاجات الأساسية في القطاع.

وقال أردوغان للصحفيين: “غزة الآن عبارة عن ركام هائل. الناس يعودون إلى أماكن هُجِّروا منها قسرًا، لكن لا منازل، ولا مستشفيات، ولا مدارس بقيت. بالكاد ترى مبنًى قائمًا”. وأشار إلى أن تركيا تتصدّر قائمة الدول المانحة لغزة، حيث بلغ إجمالي ما أرسلته من مساعدات إنسانية نحو 102 ألف طن، في رسالة دعم متواصلة تحمل أبعادًا إنسانية وتنموية على حدّ سواء.

وتعكس هذه التحركات الشاملة – الرسمية منها والمدنية – التزام أنقرة بدعم غزة إنسانيًا، حيث عيّنت الحكومة التركية السفير محمد غلّو أوغلو منسقًا عامًا للمساعدات الإنسانية إلى فلسطين، لضمان التنسيق الميداني الفعّال بين الجهات التركية العاملة في القطاع.