كعكة إعمار غزة.. من يبني؟ ومن يمول؟ وبأي ثمن؟

بعد وقف إطلاق النار في غزة، عاد القطاع إلى واجهة المشهد، لكن بصورة مختلفة هذه المرة، فغزة التي كانت تُوصَف طويلًا بأنها أكبر سجن مفتوح في العالم، تُقدَّم اليوم كأكبر ورشة إعمار محتملة في الشرق الأوسط.

وبينما تتصاعد الوعود بالمشاركة في الإعمار، وتتسابق الدول والشركات لعرض خططها ومشاريعها، تبقى الأرقام متضاربة، والتمويل غامضًا، والجدول الزمني مفتوحًا على المجهول، وتتقاطع الرؤى بين مَنْ يرى في الإعمار فرصةً اقتصاديةً واستثمارية، ومَنْ يراه ورقةً سياسيةً مشروطةً بنزع سلاح حماس وتغيير موازين القوى.

وبين طموحات الإعمار وحسابات النفوذ، يبقى المشهد على الأرض أكثر تعقيدًا ومفتوحًا على كل الاحتمالات، مع استمرار “إسرائيل” في إغلاق المعابر، ومنع دخول مواد البناء، والحد من كميات المساعدات، فيما تتراكم فوق الركام أسئلةٌ أكثر من الإجابات حول: مَنْ يملك حق الإعمار؟ ومَنْ سيدفع كلفته؟ ومَنْ سيضمن ألا يتحول إلى أداة ابتزاز سياسي جديدة؟

تكلفة ضخمة ومسار طويل

ليست غزة في أفضل حالٍ لاستقبال آلاف العائدين من رحلات النزول إلى مدنهم في القطاع، فقد أتت على بنيانها عمليات التدمير الممنهج التي نفَّذتها قوات الاحتلال على مدى عامين، وهو حال لا يختلف عن حال سائر القطاع، فوفقًا لأحدث الإحصاءات، هدم الاحتلال 90% من البنية التحتية في عموم غزة التي بات وضعها أسوأ بكثير من مدن دمّرتها الحرب العالمية الثانية.

لم يجد كثير من العائدين حجرًا على حجر في بيوتهم التي نزحوا منها، فقد دمَّر الاحتلال نحو 300 ألف وحدة سكنية تدميرًا كليًا، بينما دُمِّرت 200 ألف وحدة أخرى بشكل بالغ أو جزئي، وخرجت 25 مستشفى عن الخدمة من أصل 38، مع تدمير أكثر من 100 مركز للرعاية الصحية الأولية.

وفي قطاع التعليم، تضرر أكثر من 95% من مدارس القطاع، حيث دمَّر الاحتلال 165 مدرسة وجامعة تدميرًا كليًا، بينما تضررت 392 مدرسة وجامعة بشكل جزئي، كما أخرجت حرب الإبادة الإسرائيلية 85% من مرافق المياه والصرف الصحي عن الخدمة، إلى جانب المرافق الأخرى والمصانع والورش والشركات، وهي جميعها منشآت كانت بالأصل مستنزَفة قبل الحرب بفعل الحصار الإسرائيلي.

ومع تحوُّل كل ما في القطاع تقريبًا إلى ركام، تتحدث التقديرات الأولية للأمم المتحدة عن 55 مليون طن من الركام، وهذا الرقم الضخم يُمثّل واحدةً من أكبر كميات الأنقاض المسجلة في النزاعات الحديثة، ويكشف جزءًا بسيطًا فقط من تداعيات الحرب التي ألقت فيها “إسرائيل” نحو 200 ألف طن من المتفجرات على القطاع الصغير مساحةً والكثيف سكانيًا.

يصعب تخيّل حجم هذا الدمار، لكن لتقريب الصورة، يحتاج الركام المتراكم إلى أكثر من 2.7 مليون شاحنة بسعة 20 طنًا لكل منها، أي موكب يمتد نحو 30 ألف كيلومتر، ما يعادل 3 مرات المسافة بين غزة وواشنطن.

وللمقارنة، فإن ركام القطاع يعادل وزن 5 آلاف برج إيفل، أو يمكن أن يُشيَّد به سور بطول سور الصين العظيم، والذي يمتد على مسافة 21 ألف كيلومتر، بل يوازي الركام 8 أهرامات بحجم الهرم الأكبر في الجيزة، ما يجعل إزالته مرحلةً مكلِّفةً وطويلةً قبل البدء بالبناء الفعلي.

وفي ظلّ هذا الدمار الهائل الذي طال معظم أرجاء غزة، تتحول معركة إعادة الإعمار إلى معركة وجود وبقاء لأكثر من مليوني إنسان يعيشون واقعًا وصفه خبراء الحروب بأنه غير مسبوق، حتى في أكثر النزاعات العالمية تدميرًا، فالمشهد لا يتعلق فقط بإعادة بناء منازل مهدَّمة، بل بمحاولة إعادة إحياء مدينة بكاملها انهار فيها العمران والاقتصاد والنظام الاجتماعي معًا.

وتكشف التقديرات الدولية حجم الكارثة، فبحسب الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، بلغت الخسائر المباشرة في البنية التحتية نحو 18.5 مليار دولار حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2024، قبل أن تُحدَّث الأرقام في فبراير/ شباط الماضي لتصل إلى 53.2 مليار دولار خلال 10 سنوات.

أمَّا إذا أُضيفت التكاليف غير المباشرة – من إعادة تأهيل الطاقة والمياه والموانئ والبنية المؤسسية إلى الخسائر في رأس المال البشري والإنتاج الاقتصادي – فإن الكلفة الإجمالية قد تتجاوز 80 مليار دولار، وفق دراسة مؤسسة “راند” الأمريكية، التي نُشرت في سبتمبر/ أيلول 2024، دراسة أوضحت فيها أن هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن مشروع بناء، بل عن خطة إنقاذ تاريخية تتطلب تمويلًا متعدد الأطراف والتزامًا طويل الأمد يمتد لعقدين على الأقل.

وفي أحدث تقييم لحجم الدمار الذي لحق بقطاع غزة بعد عامين من الحرب، أفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بأن خسائر قطاع الإسكان، الأكثر تضررًا، تُقدَّر وحدها بـ28 مليار دولار، وهذا يعني أن هذا القطاع وحده يستنزف أكثر من 30% من إجمالي احتياجات الإعمار.

الخسائر الأولية المباشرة التي طالت 15 قطاعًا حيويًا في غزة (المكتب الإعلامي الحكومي في غزة)

ومع تعمُّد الاحتلال تدمير المصانع، تُقدَّر خسائر قطاع الصناعة بـ4 مليارات دولار، وتتجاوز الخسائر في القطاع التجاري 4.5 مليار دولار. ومع التدمير الممنهج للمزارع والمنشآت الزراعية، تُقدَّر خسائر القطاع بأكثر من 2.8 مليار دولار، يليه قطاعات الحماية الاجتماعية والتعليم والنقل والمياه والصرف الصحي، وتُقدَّر احتياجاتها مجتمعةً بنحو 16.3 مليار دولار.

وقبل البدء في عمليات الإعمار، هناك أولوية عاجلة لإحياء الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وطرق وصحة وتعليم، وهو ما يتطلب نحو 20 مليار دولار على المدى القصير للسنوات الثلاث الأولى، بهدف توفير الإيواء المؤقت واستعادة الخدمات الأساسية واستئناف النشاط الاقتصادي المحدود.

وتُعتبر عملية إزالة الركام والأنقاض الخطوة الأكثر إلحاحًا وتعقيدًا اليوم في خطة التعافي وإعادة الإعمار، فوفقًا للأمم المتحدة، فإن إزالة هذا الركام ستستغرق 21 عامًا في حال توفرت الآليات الكافية والوسائل المناسبة، وقدرت التكلفة الأولية لهذه العملية بـ1.2 مليار، وهي نقطة انطلاق حتمية لإعادة بناء غزة واختبار لمدى جدية المجتمع الدولي في تهيئة الظروف لعودة الحياة للغزيين.

السباق على إعادة الإعمار

وسط تباين واضح في الأرقام، وتضارب التقديرات حول حجم الدمار وكلفة إعادة إعمار غزة، والجهات المموِّلة، والمدة الزمنية اللازمة لعودة الحياة إلى طبيعتها في القطاع المنكوب، عاد الحديث عن مرحلة جديدة يُفترض أن يكون عنوانها إعادة البناء، لكنها تُخبّئ خلفها معادلات سياسية معقَّدة وصراعات نفوذ إقليمية ودولية، تجعل من الإعمار ساحةً جديدةً للمساومة أكثر منه مشروعًا إنسانيًا خالصًا.

وفي واقع الأمر، تُعتبر هذه المرحلة من أصعب قضايا المرحلة المقبلة وأكثرها تعقيدًا، وذلك بالنظر إلى عوامل عدة، أبرزها عدم وجود خطوات وآليات محددة متفق عليها بين “إسرائيل” وحماس وحتى الوسطاء، بل إن هناك تصورات ورؤى مختلفة حيال الملف عمومًا، وسط مخاوف من إقدام “إسرائيل” على عرقلة العملية كما فعلت عقب حروب سابقة في القطاع.

وتناولت طروحات عامة كثيرة مسألة إعادة إعمار غزة، أحدها الخطة العربية التي اعتمدتها الأمم المتحدة وشركاء دوليون، والتي قُدِّمت في القمة العربية الطارئة في مارس/ آذار الماضي بالقاهرة، حيث توافق القادة على إنشاء صندوق ائتماني يتلقى التعهدات المالية من كافة الدول ومؤسسات التمويل المانحة بغرض تنفيذ مشروعات التعافي وإعادة الإعمار.

وبدورها، وعقب اتفاق الهدنة، صرَّحت مصر باستعدادها لاستضافة مؤتمر دولي حول إعادة إعمار غزة، وتحدث وزير الخارجية بدر عبد العاطي عن ضرورة الوصول إلى اتفاق شامل، وأكد استضافة القاهرة مؤتمرًا دوليًا دُعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دعمه ورعايته، إلى جانب قادة عرب وأوروبيين، لوضع خطة إعادة الإعمار وتأمين التمويل، في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، في دلالة على رغبتها في الحفاظ على هذا الزخم في إظهار وزنها الدبلوماسي في المنطقة.

ويرى مراقبون أن ملف إعمار غزة يُمثّل فرصةً اقتصاديةً وسياسيةً مزدوجةً لمصر، إذ يسعى السيسي إلى تعزيز نفوذ بلاده الإقليمي واستثمار دوره في وقف الحرب لتحقيق مكاسب للمؤسسة العسكرية، وفي ظل الأزمة المالية الخانقة، تبدو شركات المقاولات المصرية أكبر المستفيدين المحتملين من وراء ترتيب التمويل الخارجي لإعمار غزة، ما قد يتيح تدفقاتٍ من العملات الأجنبية، ويمنح الاقتصاد المحلي جرعة إنعاش ضرورية بعد سنوات من الركود.

ورغم امتلاك مصر مقومات جغرافية وخبرة فنية تؤهلها لدور محوري، فإن نجاحها في تحويل هذه الفرصة إلى واقع مرتبط بعوامل تتجاوز قدراتها التقنية، أبرزها مدى التوافق السياسي بين الأطراف الدولية، وآلية تمويل الإعمار، واستعداد الفاعلين الإقليميين والدوليين لمنح القاهرة دور القيادة في المشهد الجديد، وهو ما يجعل مستقبل مشاركتها رهين موازين القوى أكثر من كفاءة الشركات.

ولكن مصر بالتأكيد ليست الدولة الوحيدة التي ستشارك في إعادة الإعمار، فكما تعددت التقديرات، تعددت أيضًا الجهات التي أعلنت استعدادها للمشاركة في إعادة الإعمار، فالسعودية والإمارات تقفان على الخط أيضًا، لكن بشروط في دعم خطة ما بعد الحرب، كما يبرز الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والأمم المتحدة كشركاء، سواء من حيث التمويل أو الإشراف، إضافةً إلى بنوك التنمية الإقليمية.

وأكد الاتحاد الأوروبي استعداده للمساهمة في إعادة الإعمار للقطاع، مع وجود شركاء إقليميين ودول مختلفة، من بينها تركيا، التي دعا رئيسها رجب طيب أردوغان في وقت سابق إلى إعادة إعمار غزة، حتى لو احتلّته “إسرائيل” في بداية غزة، ويُتوقَّع أن يدفع باتجاه إشراك شركات المقاولات التركية في مشاريع الإعمار، مستحضِرًا تجربة بلاده السابقة في إعادة إعمار سراييفو.

أما قطر، التي تمتلك سجلًا طويلًا في تمويل مشاريع إعادة إعمار غزة، فقد أسست عام 2012 لجنة لإعادة إعمار القطاع، نفَّذت نحو 115 مشروعًا بتكلفة وصلت إلى 407 ملايين دولار، وربما تُفعَّل هذه اللجنة في إعادة الإعمار في هذه المرة أيضًا، ويُتوقَّع أن تضخّ الدوحة استثمارات ضخمة تُموَّل من مؤسسات الدولة وصناديقها الاستثمارية، مع احتمال أن تعتمد على شركات قطرية محلية أو شراكات مع مقاولين أتراك.

وبعيدًا عن الأضواء، وخلف أبواب مغلقة، استضافت الحكومة البريطانية مؤتمرًا لتبادل الأفكار وحشد التمويل اللازم لإعادة إعمار غزة، بمشاركة دول عدة ومستثمرين دوليين، وأسفر – وفق الحكومة – عن تحقيق تقدم كبير على صعيد إيجاد السبل الكفيلة بتوفير تمويل خاص مستدام لعملية إعادة الإعمار، لكنه لم يخرج عن استغلال الزخم السياسي المتحقق باتفاق وقف إطلاق النار، ورغبة البريطانيين في لعب دور محوري في خطة السلام التي ترعاها إدارة ترامب.

وتزامن ذلك مع إعلان رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى عن خطة شاملة للتعافي المبكر وإعادة الإعمار، تمتد لـ5 سنوات، وبتكلفة تُقدَّر بـ67 مليار دولار، ما يعكس مسعى السلطة الفلسطينية لاستعادة دورها في إدارة القطاع، وإثبات أنها الجهة الشرعية لقيادة مرحلة ما بعد الحرب، في مواجهة محاولات تهميشها من قبل أطراف إقليمية ودولية.

الخطة، التي تتوزع على 3 مراحل تشمل التعافي والإعمار والتنمية المستدامة، تحمل أبعادًا سياسية بقدر ما هي اقتصادية، إذ تهدف إلى استقطاب المانحين ووضع عملية الإعمار تحت إشراف السلطة، في مواجهة محاولات تقاسم النفوذ الإقليمي والدولي على مستقبل غزة.
وعلى صعيد القطاع الخاص والشراكات بين الحكومات والمستثمرين، تبدو شهية الشركات العالمية مفتوحةً لدخول سباق إعادة الإعمار، لكن غياب إطار قانوني ومالي واضح يجعل الاستثمار في غزة أقرب إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، فبدون منظومة تضمن تقاسم المخاطر والشفافية والاستقرار التشغيلي، سيظل دخول مطوري البنية التحتية ومشغلي الطاقة والاتصالات رهينًا بالهشاشة السياسية والأمنية التي تُخيّم على المشهد.

وفي الوقت الذي تتحول فيه المدينة المُدمَّرة إلى ساحة تنافس اقتصادي ودبلوماسي محتدم، تبدو واشنطن أكثر اهتمامًا بتحويل المأساة إلى فرصة استثمارية مغلّفة بالحسابات السياسية، فترامب تخيّل القطاع يومًا كـ”موناكو الشرق الأوسط”، ثم كمشروع سياحي فخم على طراز “الريفيرا“،يمنح سكانه تعويضات لمغادرته، في ما يشبه تهجيرًا اقتصاديًا مقنّعًا.

ورغم كل التعديلات في الخطاب الأمريكي، تبقى نوايا واشنطن محاطةً بالضباب، فترامب أعلن في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” الأمريكية أنه سيترأس مجلس إعادة إعمار غزة، وأن دول الشرق الأوسط هي التي ستتحمّل العبء المالي لإعادة الإعمار، دون أن يحدد أسماء، مكتفيًا بالإشارة إلى أن واشنطن ستشارك بالإشراف والتنسيق، لا بالتمويل المباشر.

وكرّر المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف الرسالة ذاتها، مؤكدًا أن الكلفة “ليست ضخمة” مقارنةً بما وصفه بـ”الفرص الاستثمارية الهائلة”، ومشيرًا إلى أن “مجلس السلام” الذي أسسه ترامب سيتولى منح عقود الإعمار والتعاقد مع شركات من المنطقة.

لكن خلف هذه اللغة الدبلوماسية، تكمن حقيقة أكثر صراحة: فواشنطن، التي تدّعي الحياد في دعم الإعمار، تستعد لحصد نصيبها الاقتصادي عبر شركاتها العملاقة، إذ تُعد شركتا “كيه بي آر” (KBR) و”بيتشتيل” (Bechtel) – اللتان راكمتا أرباحًا هائلة من عقود إعادة الإعمار في العراق – من أبرز المرشحين لاقتناص مشاريع كبرى في غزة، إلى جانب شركتين بريطانيتين هما “بلفور بيتي” (Balfour Beatty) و”لينغ أوريكي” (Laing O’Rourke)، كما يُتوقَّع أن تدخل شركات التصميم البريطانية مثل “آروب” (Arup) على خط المشروعات، بعد تجربتها الناجحة في السعودية ومشاريع البنية التحتية الخليجية.

بهذا، يبدو أن مشهد إعادة الإعمار يتجه نحو نموذج تمويلي مختلط، يجمع بين المنح والقروض وضمانات استثمارية للقطاع الخاص، تحت إدارة أممية تهدف إلى تقليل الكلفة وتسريع التنفيذ، غير أن ما بين لغة الخطط على الورق وواقع الركام على الأرض، تبقى المعضلة الكبرى أن إعادة إعمار غزة ليست مشروعًا هندسيًا بقدر ما هي اختبار للإرادة الدولية، لتحديد ما إذا كان العالم يريد بناء مدينةٍ للحياة أم إدارة جديدةٍ لأنقاض الحرب.

عقبات تتجاوز حدود التمويل

لا يتمثل التعقيد في أرقام التكلفة الضخمة أو تأمين التمويل أو تجهيز شركات البناء فحسب، بل إن عملية إزالة الأنقاض وحدها قد تكون أكثر تعقيدًا، فوجود القنابل والألغام والصواريخ الإسرائيلية غير المتفجرة، والمواد الملوثة الخطيرة، والجثث التي لا تزال تحت الأنقاض، يجعل أية عملية إنشائية مستحيلة قبل أن تبدأ فرق الإزالة عملها، ثم بعد ذلك مصاعب العثور على مواقع للتخلص من كل تلك الأنقاض الملوثة.

وحتى لو أُنجز ذلك، تبقى معضلة مواد البناء حجر العثرة الأبرز أمام انطلاق عملية الإعمار، فبرغم امتلاك مصر فائضًا من الحديد والأسمنت واستعدادها لتوريدهما، إلا أن دخول هذه المواد إلى غزة يخضع لترتيبات سياسية وأمنية معقّدة، إذ لا يملك المموِّلون القرار النهائي، بل تبقى الكلمة الفصل بيد “إسرائيل” التي تتحكم بالمعابر، وتضع قيودًا صارمة على ما تعتبره مواد “ذات استخدام مزدوج”.

وفي هذا السياق، كشف مستشار كبير في البيت الأبيض أن واشنطن لن تسمح بإدخال مواد البناء إلى المناطق الخاضعة لسيطرة حماس، وزاد هذا التهديد وضوحًا حين هدَّد جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي، بعدم السماح بوصول أموال الإعمار إلى مناطق نفوذ حماس، فيما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية أن حكومة نتنياهو رفضت رسميًا إدخال الأسمنت والحديد خلال المرحلة الأولى من الاتفاق، ليتضح أن إعمار غزة تجاوز كونه تحديًا هندسيًا أو ماليًا، ليغدو ساحة صراع سياسي على مَن يملك حق بناء ما دمَّرته الحرب.

وحتى في حال إطلاق مشاريع الإعمار، فإن الأراضي المخصصة لها يجب أن تكون خالية من السكان الذين يعيشون وسط الأنقاض، ما يعني موجةً جديدةً من النزوح في قطاع أنهكته الحرب، فالدمار الاجتماعي الكبير الذي سبَّبه الاحتلال كانت محصلته تمزيق الأسر، وتيتُّم أكثر من 17 ألف طفل، ناهيك عن فقدان عشرات آلاف الأسر عائليهم، حيث تُظهر تقديرات منظمة العمل الدولية أن ربع الذين اُستُشهدوا في غزة كانوا من الرجال في سنّ العمل.

ومع تجاوز تلك العقبات، يبقى الهاجس الأكبر قبل إعادة الإعمار هو البحث عن سبيل لعلاج حالة عدم الثقة التي تسببت فيها سياسات وممارسات الاحتلال المستمرة، فالمانحون الرئيسيون باتوا مترددين في المساهمة في تمويل إعادة إعمار غزة دون وجود حل نهائي يضمن ألا تُدمّر “إسرائيل” كل شيء مرةً أخرى، ما يجعل إعادة الإعمار مشروعًا محفوفًا بالمخاطر السياسية قبل أن يكون تحديًا هندسيًا.
بمعنى آخر، لا يريد المستثمرون والمموِّلون رؤية مدينة حديثة تُبنى بمليارات الدولارات فقط ليجدوا أنها تحت القصف بعد أشهر، وهذا سيناريو متكرر، فما يموله المانحون ويبنيه الفلسطينيون في سنوات، سرعان ما يُدمّره الإسرائيليون، الذين من ناحيتهم لا يريدون حلولًا نهائية إلا تلك التي تدور في مخيلتهم، وهم لا يريدون الاقتناع أنهم لن ينالوها.

الثمن السياسي.. إعمار يبدأ بنهاية حماس

بالنسبة لبعض الجهات المموِّلة، فإن بقاء حماس في قطاع غزة يعني احتمال اندلاع جولة تصعيد جديدة مع “إسرائيل”، وانهيار أي مشروع لإعادة الإعمار قبل أن يرى النور، غير أن هناك سيناريو يُتداول همسًا في الكواليس السياسية، يقوم على تخلي حركة حماس عن سلاحها مقابل إقامة دولة فلسطينية مسالمة ضعيفة لا حول لها ضمن حدود عام 1967، مع إنشاء منطقة عازلة تُقدَّم باعتبارها ضمانةً لأمن “إسرائيل” ومخرجًا لتسوية مؤقتة تُعيد ترتيب المشهد في القطاع.

وفي هذا السياق، برزت “عُقدة حماس” بالتحديد كأحد أبرز محاور الانقسام العربي بشأن مستقبل إعادة إعمار غزة، إذ ذكرت صحيفة “إسرائيل اليوم” أن السعودية والإمارات والبحرين أبلغت البيت الأبيض بأنها لن تواصل دعم العملية ما دامت حماس تحتفظ بسلاحها، ما يعكس تباينًا واضحًا في الرؤى حول كيفية إدارة مرحلة ما بعد الحرب.

كما كشفت هيئة البث الإسرائيلية “كان” أن السعودية والإمارات امتنعتا عن إرسال ممثلين رفيعي المستوى إلى قمة شرم الشيخ، في إشارة إلى تحفظهما على مسار الإعمار، وربط مشاركتهما فيه بنزع سلاح الحركة بشكل كامل، وهو ما يُعمِّق الفجوة بين الاعتبارات السياسية العربية ومتطلبات الإعمار الميدانية في غزة.

وتتبنّى الرياض وأبوظبي موقفًا براغماتيًا صارمًا ينطلق من حسابات اقتصادية وأمنية دقيقة، فهما تُدرِكان أن التمويل الأساسي لإعادة الإعمار سيأتي من خزائنهما، وترغبان في ضمان ألا تتحول استثماراتهما إلى ضحية لجولة قتال جديدة، لذا تريان أن نزع السلاح شرطٌ أساسيّ لضمان الاستقرار، وهو الموقف ذاته الذي تتخذانه في الساحة اللبنانية تجاه حزب الله.

ووفقًا لمحللين، فإن تشدد الموقف السعودي والإماراتي يرتبط أيضًا ببُعدهما الجغرافي عن غزة، ورغبتهما في رسم توازن جديد في المنطقة يحدّ من نفوذ التنظيمات الإسلامية، على عكس مصر والأردن اللتين تتأثران مباشرةً بأحداث القطاع، ما يدفعهما إلى مواقف أكثر مرونة.

كما لا يخلو المشهد من تنافس إقليمي مكتوم، فانعقاد القمة في مصر يُعزّز مكانة القاهرة الإقليمية، وهو ما لا يلقى ترحيبًا كبيرًا في الرياض وأبوظبي، فيما يثير الدور المتنامي لكلٍّ من تركيا وقطر – المُقرّبتَين من جماعة الإخوان المسلمين – تحفظًا واضحًا لدى العاصمتَين الخليجيتَين.
وتتلاقى هذه الرؤية مع موقف واشنطن، إذ أكّد ترامب خلال القمة أن إعادة إعمار غزة مرهونةٌ بنزع السلاح وتهيئة بيئة آمنة لسكانها بإشراف قوة شرطة مدنية جديدة، في إشارة إلى أن ما يجري ليس مجرد مشروع إعمار، بل إعادة تشكيل كاملة لمعادلة النفوذ في غزة والمنطقة.

في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأعمق معلّقًا فوق أنقاض غزة: هل ما يُطرَح حقًا هو مشروع لإعمار غزة، أم ورقة سياسية جديدة تُستخدم لإعادة ترتيب موازين القوى؟ فالأموال يسهل توفيرها كما يقول ويتكوف، والشركات على أهبة الاستعداد، والخطط الهندسية جاهزة، غير أن الإرادة الدولية هي التي تملك مفتاح التنفيذ أو التعطيل، وحتى لو تحركت الجرافات وارتفعت الأبنية، سيظل الهاجس قائمًا: من يضمن أن ما يُبنى اليوم لن يتحول غدًا إلى أنقاض جديدة؟