الوجود العسكري التركي في الشرق الأوسط: ما حجمه ومهامه؟

أقرّ البرلمان التركي تمديد مشاركة وحدات من الجيش في قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) لمدة عامين إضافيين، إلى جانب تمديد التفويض الممنوح للقوات التركية بالعمل في كلٍّ من سوريا والعراق لثلاث سنوات أخرى، بحسب ما أفادت وسائل إعلام تركية.

جاء في نصّ المقترح المقدَّم من الرئاسة أن «عناصر من الجيش التركي، يحدّد الرئيس عددهم، سيشاركون في يونيفيل نظرًا إلى علاقاتنا الثنائية مع لبنان والظروف الأمنية في المنطقة». وكان البرلمان قد جدّد العام الماضي مشاركة 97 جنديًا تركيًا ضمن القوة الدولية لسنة واحدة.

أما فيما يتعلّق بسوريا والعراق، فقد صوّت البرلمان على تمديد انتشار وحدات الجيش في البلدين بهدف مواجهة الفصائل الكردية المناوئة لأنقرة، وسط انقسام داخلي عكَسَته معارضة «حزب الشعب الجمهوري» و«حزب المساواة والديموقراطية». يُمثّل هذا القرار محطة جديدة في مسار السياسة العسكرية التركية خارج الحدود، إذ لا يقتصر على الإطار الأمني فحسب، بل يتصل بمحددات جيوسياسية تسعى أنقرة من خلالها إلى تثبيت نفوذها الإقليمي.

في هذا المقال، نستعرض حجم الوجود العسكري التركي في سوريا والعراق ولبنان، ونرصد مهام هذه القوات وأولوياتها ومناطق انتشارها.

سوريا: أولوية الأمن الحدودي ومحاربة الفصائل الكردية

رغم غياب بيانات رسمية من وزارة الدفاع التركية حول عدد قواتها المنتشرة في سوريا، فإن تقديرات مراكز الأبحاث والتقارير الصحفية المتقاطعة تُقدّم صورة واضحة عن حجم هذا الوجود العسكري الذي بات أحد أضخم عمليات الانتشار الأجنبي المستمرة داخل الأراضي السورية.

ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط في يناير/ كانون الثاني 2024، تحتفظ تركيا بنحو 10 آلاف جندي وعشرات القواعد العسكرية في شمال سوريا. فيما أكّد مركز جسور للدراسات في منتصف العام نفسه أن أنقرة تُدير نحو 126 موقعًا عسكريًا في شمال غرب البلاد، تتوزّع بين 12 قاعدة رئيسية و114 نقطة مراقبة، وهو ما يعكس اتساع رقعة التمركز التركي من إدلب إلى ريف حلب الشمالي.

كما أوضح التقرير أن محافظة حلب تضم ما يقارب 58 موقعًا، تليها إدلب بـ51 موقعًا، في حين سُجِّل وجود محدود في الرقة والحسكة واللاذقية.

أما وزير الدفاع التركي يشار غولر، فقد تحدّث في مقابلة مع صحيفة ديلي صباح عن وجود “أكثر من 20 ألف جندي تركي” في سوريا، دون أن يُرفق تصريحه بأي بيانات رسمية. وتُشير تقديرات مفتوحة المصدر إلى أن أعداد القوات التركية بلغت ذروتها في عام 2020 حين تجاوزت 20 ألف جندي، قبل أن تستقر خلال السنوات الأخيرة بين 10 و15 ألفًا دون مؤشرات على انسحاب واسع.

أكشاكالي، تركيا – 12 أكتوبر/تشرين الأول: قوة عسكرية تركية في طريقها نحو الحدود السورية.

في المقابل، قدّرت تحليلات إعلامية تركية، مثل إذاعة Açık Radyo، أن أعداد القوات التركية بلغت في ذروتها أكثر من 30 ألف جندي خلال السنوات الماضية، قبل أن تستقر بين 10 و15 ألفًا في الوقت الحالي، تبعًا لطبيعة العمليات الميدانية وتطوّر المشهد الأمني.

يرتكز هذا الانتشار، في جوهره، على حماية الحدود الجنوبية لتركيا ومنع تمدد الفصائل الكردية التي تُصنّفها أنقرة “إرهابية”، إلى جانب ملاحقة خلايا وأفراد من تنظيم داعش ما زالوا ينشطون في بعض مناطق الشمال السوري. ويأتي ذلك في إطار تنسيق أمني متزايد مع الحكومة السورية الجديدة المؤقتة، التي أضحت شريكًا رسميًا في إدارة الشريط الحدودي ومكافحة التهديدات العابرة له.

العراق: عمليات مستمرة ضد حزب العمال الكردستاني

يُمثّل الوجود العسكري التركي في شمال العراق امتدادًا طبيعيًا لاستراتيجية أنقرة الأمنية القائمة على ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني (PKK) في معاقله الحدودية، وهو وجود تطوّر تدريجيًا منذ أواخر عام 2017 ليتحوّل إلى شبكة واسعة من القواعد والمواقع العسكرية الثابتة، فيما تُجمع التقديرات على أن هذا الانتشار يُعدّ من بين الأكبر في تاريخ التدخلات التركية داخل الأراضي العراقية.

تشير تحليلات مركز شؤون شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط (EMPA) لعام 2024 إلى أن حجم القوات التركية في العراق يتراوح بين خمسة وعشرة آلاف جندي، بينما ذكرت مصادر عراقية في وقت سابق أن العدد يُقدّر بأكثر من أربعة آلاف جندي مدعومين بمعدات ثقيلة. أما من حيث البنية العسكرية، فتفيد تقارير بأن أنقرة أنشأت ما بين 64 و100 قاعدة وموقع عسكري تمتد على عمق يتراوح بين 5 و40 كيلومترًا داخل الأراضي العراقية، لتُشكّل ما يشبه “حزامًا أمنيًا” موازيًا للحدود الجنوبية لتركيا.

ويتركز هذا الانتشار في إقليم كردستان العراق، ولا سيما في محافظتي دهوك وأربيل، حيث تُعدّ قاعدة بامارني الجوية في قضاء العمادية أبرز مواقع التمركز التركي. كما أن بعض الوحدات تنتشر في المناطق الجبلية القريبة من الحدود لتأمين نقاط المراقبة والممرات اللوجستية التي تربط بين القواعد.

جنود أتراك في إقليم كردستان العراق. [غيتي]
أما المهام الموكلة إلى هذه القوات فكانت تتمحور بشكل رئيسي حول مكافحة حزب العمال الكردستاني قبل حلّه في مايو/ أيار 2025، عبر تنفيذ عمليات جوية وبرية متواصلة داخل العمق العراقي. ووفق تقارير حقوقية ودولية، نفّذت تركيا خلال عام 2024 أكثر من ألف هجوم في إقليم كردستان استهدفت مواقع الحزب في جبال قنديل وسيدكان وزاب ومتينه. كما تعمل هذه القواعد كمنصّات متقدّمة تسمح بإطلاق الغارات الجوية، وتوفير المراقبة والاستطلاع، وتعزيز سرعة الانتشار والردع.

بهذا، لم يعد الوجود العسكري التركي في العراق مجرد عمليات عابرة للحدود، بل بات تموضعًا شبه دائم تبرّره أنقرة اليوم بـ«مواصلة ملاحقة العناصر السابقة في حزب العمال الكردستاني»، بعد الإعلان عن حلّ الحزب رسميًا. عدا عن أن هذا الوجود وسيلة لضمان منع إعادة تنظيم تلك الشبكات المسلحة أو حصولها على ملاذات آمنة داخل الأراضي العراقية.

لبنان: حضور رمزي لتعزيز الدور التركي في الشرق الأوسط

يُمثّل الوجود العسكري التركي في لبنان أصغر حلقات الانتشار الخارجي لأنقرة، لكنه يحمل في الوقت ذاته رمزية سياسية ودبلوماسية تتجاوز حجمه المحدود. فبموجب تفويض من البرلمان التركي، تشارك تركيا منذ عام 2006 في قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، لتُجدد مهامها بانتظام في إطار الحفاظ على استقرار جنوب لبنان ودعم سلطة الدولة اللبنانية.

يبلغ عدد أفراد القوة التركية المنتشرة ضمن بعثة حفظ السلام نحو 90 إلى 110 جنديًا، يتمركز معظمهم ضمن الفرقة البحرية التابعة لليونيفيل التي تراقب السواحل اللبنانية على البحر المتوسط. كما تساهم البحرية التركية، من خلال فرقاطتها TCG Beykoz (F-503)، بدوريات منتظمة على طول الساحل اللبناني لمنع تهريب الأسلحة والحفاظ على الأمن. 

وتشير البيانات إلى أن هذه القوات تؤدي مهامها في نطاق المياه الإقليمية والساحل الجنوبي، وتعمل على منع ضمان الأمن البحري، إضافةً إلى المشاركة في مهام الاتصال والتنسيق داخل قيادة البعثة الدولية.

ولا يتجاوز الوجود التركي هذا الإطار، إذ لا توجد أي قواعد أو قوات مستقلة تركية تعمل خارج ولاية الأمم المتحدة. فمشاركة أنقرة في لبنان تتم حصريًا عبر القنوات الأممية الرسمية، وتُعدّ بمثابة مساهمة رمزية تهدف إلى تأكيد حضورها الدبلوماسي في الساحة الشرق أوسطية، في وقت تسعى فيه إلى الحفاظ على توازن دقيق بين مشاركتها في مهام حفظ السلام وتوسيع نفوذها الإقليمي بوسائل ناعمة.

وبذلك، يُمكن القول إن الدور التركي في لبنان ليس عسكريًا بقدر ما هو سياسي وتمثيلي، يعكس رغبة أنقرة في البقاء فاعلًا حاضرًا في معادلات الأمن والاستقرار في المشرق، ولو من بوابةٍ رمزيةٍ محدودة الحجم، لكنها ذات دلالة استراتيجية في سياق سعي تركيا لتأكيد موقعها ضمن خرائط النفوذ الجديدة في الشرق الأوسط.

يُظهر التمديد الذي أقرّه البرلمان التركي أخيرًا أنّ أنقرة تتعامل مع وجودها العسكري في سوريا والعراق ولبنان بوصفه عنصرًا ثابتًا في سياستها الإقليمية، لا مجرد إجراءات أمنية ظرفية. كما يعكس تعدد أدوات السياسة التركية بين الردع العسكري المباشر والدبلوماسية الأمنية الناعمة. إذ يبدو أن أنقرة تسعى من خلال هذه الأدوار المتباينة إلى تثبيت موقعها كقوة إقليمية مركزية، تُوازن بين مصالحها الأمنية ومتطلبات حضورها السياسي في الشرق الأوسط الجديد.