هيمنة ترامب المطلقة: أمريكا تحت سلطة الرئيس

ترجمة وتحرير: نون بوست

المعارضون في فوضى، والحلفاء مصطفون، والمتابعون مفتونون — الرئيس الأمريكي يمضي بخطى ثابتة نحو بناء نظام عالمي جديد.

في مراسم التأبين التي جرت في سبتمبر/أيلول لتكريم تشارلي كيرك على نطاق مشابه للتجمعات الحزبية، رفض دونالد ترامب روح التسامح التي كان يتحلّى بها القومي المسيحي الراحل قائلًا بصراحة: “هنا اختلفت مع تشارلي. أكره خصومي ولا أرغب في خيرهم. أنا آسف”. باستثناء هذا الاعتذار النادر، لم يشك أحد في صدق كلماته.

بعد ما يقارب سنةً على فوزه بالانتخابات وعقود إذا ما قيست بما جرى منذ ذلك الحين، يعيش الرئيس الأمريكي حالة يصفها أحد مساعديه السابقين بأنها جولته “الانتقامية”. يرسل ترامب للعالم رسائل متناقضة؛ ففي لحظة يحقق وقف إطلاق نار دراماتيكي في غزّة ويثير الحديث عن نوبل للسلام، وفي اللحظة التالية يدمر سفنًا مجهولة في الكاريبي ويتحدث عن ضم أراضٍ لدول مجاورة. أما داخليًا، فمساره حاسم وواضح.

بعد أيام من جنازة كيرك، أعلن أمام نحو 800 من كبار الجنرالات والأدميرالات وقادة الجيش في كوانتيكو، فيرجينيا، أن مهمتهم الأولى هي محاربة “العدو من الداخل”. وفي الأسابيع الأخيرة، وجّه الادعاء الفيدرالي تهمًا إلى المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، والمدعي العام لنيويورك ليتيسيا جيمس، والمستشار السابق للأمن القومي جون بولتون، وكلهم مهدّدون بعقوبات تصل إلى السجن، وقد تصل إلى 180 سنة في حالة بولتون. كما دعا ترامب إلى توقيف أو سجن اثنين من الحكام الديمقراطيين، وعمدة مدينة كبيرة، وعضو مجلس شيوخ حالي، وقادة عسكريين متقاعدين، ورئيس سابق لوكالة الاستخبارات المركزية، وغيرهم من المسؤولين.

أي شخص يظن أن الرئيس يمزح أو أن المدعي العام ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزير الأمن الداخلي وغيرهم من الموالين الأقوياء سيتباطؤون فهو غافل عمّا يجري. قال بولتون في وقت سابق من هذا الشهر، قبل أيام قليلة من توجيه الاتهام له: “ترامب لا يتظاهر بشيء. كل همّه هو الانتقام ممن تخطوه أو أساءوا إليه”.

دونالد ترامب يتحدّث للصحافة في البيت الأبيض قبل حضوره احتفالات البحرية الأمريكية بالذكرى 250 في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول.

أي محاولة لتوصيف نطاق المرحلة الافتتاحية للفترة الثانية من ولاية ترامب معرضة للضياع. فالفيض المعلوماتي متعمد. لم يتحدث أي رئيس أمريكي بقدر ما تحدث ترامب، بدءًا من مؤتمراته الصحفية المطوّلة التي صارت موجهة في الغالب إلى كتاب ملاحظات من وسائل “ماجا”، وصولًا إلى خطاباته المتكررة في القواعد العسكرية مع الجنود كديكور. ويصف ستيف بانون، المستشار الاستراتيجي السابق لترامب، ذلك بأنه “إغراق المنطقة بالهراء”. بعض ما يقوله ترامب جاد، مثل تهديداته بالانتقام، لكن الجزء الأكبر هو مجرد فائض كلامي: شكوته المتكررة من السباكة الحديثة، أو أعداد الطيور الميتة بسبب توربينات الرياح. ومع ذلك، كل تصريح لترامب، سواء كان صحيحًا أم خاطئًا، جادًا أم مازحًا، يذكّر دومًا بسيادته المطلقة.

من منظور اليوم، تبدو فترة ترامب الأولى نموذجًا للضبط الدستوري، أما الآن فهو يُهيمن على الكونغرس، ويحرص الوزراء وكبار المسؤولين على مدحه في اجتماعاته التي تشبه أسلوب كوريا الشمالية، وحتى الآن ظل القضاء الأعلى عاجزًا عن فرض أي قيود فعلية على أفعاله. على الأقل في الوقت الحالي، فصل السلطات في أمريكا أصبح شكليًا. وأفاد ترامب لمستشاريه هذا الصيف: “الجميع الآن في جانبي، كانوا يقاتلوني في المرة السابقة”.

التغيّر واضح: الخوف يسيطر على خصومه. أثناء إعداد هذا التقرير، قابلت عشرات الشخصيات من مشرّعين ومسؤولين تنفيذيين وقادة عسكريين متقاعدين ورؤساء أجهزة استخبارات ومسؤولين حاليين وسابقين في إدارة ترامب ومحامين ومسؤولين حكوميين أجانب. خوفهم من السجن أو الإفلاس أو الانتقام المهني أجبر معظمهم على طلب عدم الكشف عن هويتهم. مع ذلك، أصرّ كثيرون على التأكيد أن ترامب لن يُكبح إلا بوجود أصوات قوية تعارضه علنًا. بدا المشهد أحيانًا أقرب لتغطية السياسة في تركيا أو المجر.

قال أندرو فايسمان، أستاذ القانون في جامعة نيويورك، الذي شارك في تحقيقات روبرت مولر حول تدخل روسيا المزعوم في انتخابات 2016 وتنسيقه مع حملة ترامب: “واحدة من الأسباب التي تجعل ترامب يضعني في مرماه هو انتقادي له علنًا. أفهم تمامًا لماذا يخفّض كثير من الناس رؤوسهم”. غالبًا ما يذكر ترامب فايسمان كأحد “الأشرار” الذين يجب أن يكونوا في السجن.

يعد الانتقام أحد الدوافع الثلاثة المتكررة لترامب، إلى جانب المال والسيطرة على الإعلام. لكن المعارضون حجر عثرة أمام هذه الأهداف. يشعر رؤساء الجامعات، الرؤساء التنفيذيون لشركات فورتشن 500، شركاء مكاتب المحاماة، وكبار العسكريين باليأس سرًا، لكن لكل منهم أسباب وجيهة للحفاظ على سريّة مخاوفه: قد تفقد الجامعات مليارات الدولارات من تمويل البحث الفيدرالي، والمديرون التنفيذيون وعمالهم يواجهون انتقامًا تنظيميًا، وقد تُدرج المكاتب القانونية على القوائم السوداء، والجنود مدرّبون على الالتزام بسلسلة القيادة.

تتجاوز اختبارات الولاء الشهيرة لترامب إدارته الحالية. وكثير من المسؤولين السابقين في إدارة بايدن لم يجدوا وظائف على الرغم من أن خبرتهم الحكومية تجعلهم في مقدمة قائمة التوظيف. وحسب موظف سابق في البيت الأبيض فإن “كل صاحب عمل يقول شيئًا على غرار: ‘نود توظيفك لكن المخاطرة ليست مجدية’. وأضاف: “كل ما يقدمونه لي هو الاعتذار”.

في الشهر الماضي، دعا ترامب شركة مايكروسوفت إلى فصل ليزا موناكو، نائبة المدعي العام في إدارة بايدن، التي تم تعيينها لرئاسة مكتب الشؤون العالمية بالشركة، وكتب على منصة “تروث سوشيال” أنها “تهديد للأمن القومي الأمريكي ولا يمكن السماح ببقائها في منصبها”. موناكو ما زالت في وظيفتها، لكن تأثير كلام ترامب على أصحاب العمل الآخرين مثير للرعب. قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي السابق لبايدن والأستاذ في هارفارد: “هذا أمر فظيع تمامًا. أقضي وقتًا طويلًا أحاول مساعدة زملائي السابقين في العثور على وظائف”.

كقاعدة عامة، كلما زاد ما تخسره المؤسسة، زاد خضوعها لمطالب ترامب. وتحت تهديد الحرمان من العقود الفيدرالية، وبالتالي فقدان العملاء، رفضت مكاتب محاماة كبرى توظيف أو تمثيل أشخاص على قائمة أعدائه. وقال ترامب بعد توجيه الاتهام لكومي: “ليست قائمة نهائية، لكن أعتقد أن هناك آخرين”. وقد تقلصت دائرة المحامين المستعدّين لتمثيل أهدافه بشكل كبير. لم يجد أي عضو من فريق جاك سميث، المستشار الخاص لبايدن، وظيفة منذ ذلك الحين وحتى أفراد العائلة لم يُعفوا. وقد أُقيلت مورين كومي، ابنة المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، من منصبها كمحققة فيدرالية في يوليو/ تموز.

ما يُعرف بـ “البالغين” الذين كبحوا جماح ترامب أو حدّوا من اندفاعه أحيانًا خلال ولايته الأولى، هم اليوم الأكثر عرضة للخطر. يتصدّر قائمة انتقامه الجنرال المتقاعد مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، الذي واجه محاولة الانقلاب على نتائج انتخابات 2020. فقد ميلي حمايته الحكومية فور عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وكذلك بولتون. وقال بولتون من مكتبه في وسط واشنطن: “فقدتُ حمايتي من جهاز الخدمة السرية في يوم تنصيب ترامب نفسه”. ولم تمر سوى 45 دقيقة حتى أُزيلت صورة ميلي من جدران البنتاغون. ذلك الفراغ الصامت كان أبلغ من مئة صورة. واليوم يتلقى ميلي تهديدات متكررة بالقتل، ويحمل سلاحًا شخصيًا للدفاع عن نفسه.

الرسالة الموجَّهة إلى أفراد الجيش، الذين وصلت معنوياتهم “الحضيض – على حد تعبير أحد الأدميرالات المتقاعدين – لا تحتاج إلى الكثير من التأويل. فمن جهة، يواصل بيت هيغسِث، وزير دفاع ترامب الذي أعاد تقديم نفسه تحت لقب “وزير الحرب” إلقاء الخطب النارية على قدامى المحاربين، داعيًا إياهم إلى بعث “روح المقاتل” من جديد. وتشمل دعواته تعليماتٍ دقيقة حول اللحية والهيئة والوزن والمظهر “الرجولي” الصارم. كما تعهّد هيغسِث بحماية الجنود مما يصفه بالقواعد “اليقِظة” في قواعد الاشتباك وهو تعبير ملطّف يراد به السماح بمزيد من الخسائر الجانبية بين المدنيين.

ومن بين أكثر ما يثير حنقه الجنرال المتقاعد بيتر تشياريلّي، الذي كان قد تولّى التحقيق في قضية قائد “كتيبة القتل” سيئة الصيت في حرب العراق وهي الكتيبة ذاتها التي خدم فيها هيغسِث في وقت سابق قبل أن يُصدر قرارًا بإقالة قائدها. وكان هيغسِث قد خدم حينها ضابطَ مشاة في الحرس الوطني، دون أن يحمل شارات “الرينجر” المميّزة لقوات النخبة. وقال أحد المستشارين المخضرمين في البنتاغون بمرارة: “إنه حتى لا يملك رموز الشجاعة التي يتباهى بها، ولا يمكن وصف حجم الإهانة التي يشعر بها الجنود المحترفون وهم يرون هذا المشهد”.

في المقابل، لا يكفّ ترامب وهيغسِث عن ترديد الرسالة ذاتها إلى القوات المسلحة الأمريكية: وهي أن العدو الحقيقي ليس في الخارج بل في الداخل بين “الحُثالة” و”الحيوانات” و”الإرهابيين” من ملايين المهاجرين غير الشرعيين ومن يوفّر لهم الحماية. أما الخصوم التقليديون، فيُنظر إليهم بإعجاب بل بشيء من الغيرة. فهيغسِث، الذي كان مذيعًا في قناة “فوكس نيوز” خلال سنوات بايدن، دأب على مقارنة “الفضائل العسكرية” للجيش الروسي بما وصفه بـ “البنتاغون المثقوب بسياسات التنوع والمساواة والإدماج”. ويعلن صراحةً أن هدفه هو “استعادة روح الجندي الأمريكية الأصيلة” وتوجيه السلاح نحو ما يسميه “عصابات الإرهاب المخدراتي” التي تنخر جسد الأمة وفي مقدمتها فنزويلا، التي يتهمها بأنها الراعي الأكبر لتلك العصابات.

تشير تقارير إلى أن مراجعة الدفاع الاستراتيجي التي يعتزم البنتاغون نشرها قريبًا تعطي أولوية لتهديدات نصف الكرة الغربي على حساب الصراع بين القوى العظمى مع الصين وروسيا. وأصبحت شوارع أمريكا نفسها بؤرة عقيدة مونرو المعاد صياغتها على يد ترامب، المسماة على اسم الرئيس المبكر جيمس مونرو. وقال ترامب لكبار القادة في كوانتيكو: “نحن تحت غزو من الداخل؛ لا يختلف عن العدو الأجنبي إلا أنه أكثر صعوبة في نواحٍ عدة لأنهم لا يرتدون زِيًّا رسميًا”. وأضاف: “يجب أن نحوّل بعض هذه المدن الأمريكية الخطرة إلى ميادين تدريب لجيشنا”.

ترامب في اجتماع حديث بالمكتب البيضاوي. وقال للمستشارين هذا الصيف: “الجميع الآن في جانبي، كانوا يقاتلونني في المرة السابقة”.

 عبّر كلّ جنرال وأدميرال متقاعد تحدّثتُ إليه عن قلق بالغ من أن ترامب تجاوز الخطوط الحمراء المقدّسة التي طالما حفظت التوازن بين السلطة المدنية والعسكرية. ففي أواخر عام 2020 ومطلع 2021، حاول ترامب دفع الجيش الأمريكي للتدخل في العملية الانتخابية عبر إعادة فرز الأصوات في الولايات المتأرجحة التي صوّتت لبايدن لكنه جوبه برفض قاطع. وقف في وجهه وزير العدل بيل بار، المعروف بصرامته، إلى جانب قادة الأركان الأربعة الجيش والبحرية والقوات الجوية والمارينز ورئيس هيئة الأركان المشتركة ونائبه، مذكّرين إياه بأن قسم الولاء الذي أدّوه كان للدستور الأمريكي، لا لشخص الرئيس.

أما اليوم، فيسود شعور متزايد بالريبة من قدرة القيادات العسكرية الحالية، وفي مقدمتهم دان كاين، المعيَّن من قبل ترامب رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة، على التجرؤ على رفض أوامره إن تجاوزت القانون رغم أن العقيدة العسكرية نفسها تفرض على الضباط عصيان الأوامر غير المشروعة. وكان كاين، حين اختياره، جنرالًا برتبة ثلاث نجوم فقط، ليُصبح بذلك أقل رؤساء الأركان خبرة في التاريخ الحديث.

قال أحد القادة المتقاعدين من ذوي الأربع نجوم: “كاين يملك أضعف سجلّ لقيادة الجيش في أكثر مراحله توترًا وتعقيدًا منذ تأسيسه”. ومثل اثنين من رؤساء الأركان الأربعة، كان سلفه، سي. كيو. براون، قد أُقيل على يد هيغسِث. وأضاف جنرال متقاعد آخر بنبرة لا تخلو من القلق: “الظروف التي صعد فيها كاين إلى هذا المنصب لا تبعث على الثقة، بل تثير المخاوف”.

مع ذلك، يبقى السؤال الجوهري: من يملك حقّ تحديد ما هو قانوني أصلًا؟ من بين أوائل قرارات هيغسِث المثيرة للجدل كان إقالة كبار المستشارين القانونيين الثلاثة في فروع الجيش، المعروفين باسم “جاغز”، وهم من يقدّمون المشورة القانونية لرؤساء الأركان. لكن كثيرين يرون أن البنتاغون في عهد ترامب قد تجاوز بالفعل نقطة اللاعودة، بعد أن أرسل الحرس الوطني إلى مدينة تلو الأخرى بدءًا من لوس أنجلوس، مرورًا بواشنطن العاصمة، ثم ممفيس وشيكاغو.

يتكرر اسم جون يو كثيرًا في الأحاديث التي أجريتها. كان يو مستشارًا قانونيًا في إدارة جورج بوش الابن خلال مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول وغزو العراق سنة 2003، وهو من صاغ الأساس القانوني لما عُرف لاحقًا بـ “مذكرات التعذيب” التي شرّعت أساليب الاستجواب القاسية والمواقع السوداء خارج الولايات المتحدة حيث نُفذت تلك الممارسات. يؤمن يو، شأنه شأن العقول القانونية المحيطة بترامب اليوم، بنظرية “الرئيس الأوحد” التي تمنح الرئيس سلطة شبه مطلقة. وقالت روزا بروكس، أستاذة القانون الدستوري في جامعة جورجتاون: “مهما اعتقدت أن القانون يمنع شيئًا، يمكنك دائمًا أن تجد ‘يو’ يضع عليه توقيعًا قانونيًا”. وتابعت: “نحن نسمي هذا النوع من القرارات فئة ‘القانوني لكنه فظيع'”.

يشكّل الفارق بين ما هو “قانوني” وما هو “فظيع” محورًا بالغ الأهمية. يشعر كثيرون بشيء من الارتياح لأن ترامب لم يقرّ علنًا حتى الآن بعصيان أمر قضائي، إذ أن مثل هذا الاعتراف سيكون استبداديًا بوضوح. وتكمن أهمية ذلك في أن المحاكم الدنيا والاستئنافية أصدرت أكثر من 300 أمر قضائي بتعليق أو تجميد لإجراءاته. وقد أعاقت هذه القرارات حملاته لترحيل المهاجرين المزعومين غير الشرعيين ومن بينهم مقيمون قانونيون بل ومواطنون أمريكيون إلى مراكز احتجاز ضخمة، لا سيما في السلفادور.

وعلى الرغم من أن القضاء حافظ عمومًا على مبدأ الإجراءات القانونية الواجبة، فقد أوقف القضاة أو ألغوا محاولات ترامب لإبطال إنفاق أقرّه الكونغرس أو الاستيلاء على سجلات الضرائب والضمان الاجتماعي للمواطنين، أو إرسال الحرس الوطني إلى ولايات ترفض وجوده فيها. لكن كثيرًا من الأوامر القضائية تم تجاهلها، ما يجعل خطر التمرّد عليها قاب قوسين أو أدنى. فعناصر وكالة الهجرة والجمارك ما زالوا يخفون هويتهم بالأقنعة، وينفّذون عمليات تفتيش عشوائية، شملت اعتقال أمهات أثناء توصيل أطفالهن إلى المدارس، واستعراضات للقوة في ساحات اللعب.

لا تزال المحكمة العليا الأمريكية، التي أعلنت العام الماضي حصانة رئاسية شاملة ل “«الأعمال الرسمية” التي تحمي ترامب من معظم المسؤوليات، صامتة بشأن غالبية القضايا الكبرى. فقد عيّن ترامب ثلاثة من بين تسعة من أعضائها، بينما يوافق ستة منهم بانتظام على أفعاله. ومن بين الملفات المعلقة أمام المحكمة قضايا استخدام ترامب للجيش في فرض الأمن في الشوارع، ورفضه للتعديل الرابع عشر المتعلق بحق المواطنة عند الولادة، وقدرته على تحديد ما يشكل حالة طوارئ وفق إرادته. ومن بين الطوارئ التي أعلنها سابقًا ما يمنحه سلطة فرض الرسوم الجمركية كيفما شاء. ونظرًا لأن الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون أصبح أشبه بختم مطاطي أو “دوما” على طريقة القيصر، وفق تشبيه بانون فإن المحاكم تتحمل عبئًا ثقيلًا. وقال المحامي موس: “السلطة القضائية صامدة، لكنها بالكاد تعمل. ويبقى أن نرى ما إذا كانت المحكمة العليا ستواصل تقويض عمل المحاكم الدنيا لإيقاف المزيد من الإجراءات غير الدستورية وغير القانونية التي تنفذها هذه الإدارة”.

هل سيهدأ النقاد إذا صادقت المحكمة العليا على سلسلة تحديات ترامب للنظام الدستوري؟ يشير المحامون إلى أن فلاديمير بوتين حريص على العمل ضمن القانون، وكذلك فيكتور أوربان في المجر. وحتى هتلر كان دقيقًا في توفير مبررات قانونية لأفعاله. لا يدعي أحد بجدية أن ترامب نازي، لكن الكثيرين مقتنعون بأن الديمقراطية الأمريكية مستهدفة. قال وايسمان، أستاذ القانون: “أكرر القول، حتى لو كان ‘قانونيًا’، فإنه فظيع. يجب أن نركز على ذلك”. ويصف السيناتور الديمقراطي المعتدل مارك وارنر من فرجينيا الأمر بطريقة أخرى: “في وقت سابق من هذا العام، عندما حذر بعض الناس من أننا لا يمكن أن نعتمد على انتخابات حرة ونزيهة في 2026 أو 2028، كنت مشككًا في البداية، لكن لم أعد أستبعد هذا الاحتمال بسهولة”.

على عكس الرؤساء التنفيذيين، لا يتردد المليارديرات الأمريكيون في التعبير عن آرائهم، وإن كانت معظمها مديحًا للرئيس. فقد انضم مؤسس غوغل سيرجي برين بعد أيام من تولي ترامب منصبه عام 2017 إلى احتجاج ضد سياسات الهجرة التي اعتبرها تهديدًا للقيم الأساسية لأمريكا. وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، حضر برين حفل تنصيب ترامب، إلى جانب عدد من أغنى رجال العالم، بينهم إيلون ماسك، جيف بيزوس من أمازون، مارك زوكربيرغ من ميتا، وبرنار أرنو من “أل في أم أش” (مويت هنسي لوي فيتون)، وموكيش أمباني من “ريلاينس للصناعات المحدودة”، كما حضر تيم كوك من أبل. وقد أثمر هذا الدعم لصالحهم.

عملت الفترة الثانية أيضًا لمصلحة أعمال عائلة ترامب. فعلى الرغم من أن ترامب سبق ووصف البيتكوين بـ “الخدعة”، إلا أنه تبنى العملات المشفرة خلال الحملة الانتخابية. وقبل أيام من التنصيب، أطلق عملةً رقمية باسم “ترامب”، بينما أطلقت ميلانيا زوجته عملتها الخاصة. وأسفرت مشاركة ترامب وعائلته في ازدهار العملات الرقمية عن أكثر من مليار دولار أرباح قبل الضرائب خلال السنة الماضية، وذلك وفق تحقيق لصحيفة فايننشال تايمز.

عشقُ ترامب للعملات الرقمية يقف أيضًا في صلب سياسته الخارجية. فقد وجدت الحكومات التي تسعى لكسب رضاه الوسيلة المثالية في وورلد ليبرتي فاينانشال، المتخصصة في الرموز والعملات المستقرة، والتي أسسها نجلاه دون جونيور وإريك، إلى جانب أبناء المبعوث الرئيسي للسياسة الخارجية لترامب، ستيفن ويتكوف. في وقت سابق من هذا العام، اشترى صندوق أبوظبي شركة “إم جي إكس” ما قيمته ملياري دولار من عملة مستقرة لشركة وورلد ليبرتي فاينانشال، أُطلق عليها اسم USD1، للاستثمار في منصة باينانس. وقد مكّنت هذه الاستثمارات الحكومة الباكستانية المدعومة عسكريًا من تحقيق أفضلية على منافستها الهند.

لا يفرّق ترامب بين العام والخاص، ما يجعل الدول التي تحكمها العائلات الحاكمة تجد أسهل السبل للتعامل معه. أما حلفاء أمريكا الديمقراطيون فيبقون عالقين في غرفة انتظار دائمة. وقال وزير خارجية أحد حلفاء الناتو المهمين: “حتى لو أردنا الاستثمار في مشاريع ترامب الرقمية، فلن نتمكن قانونيًا من القيام بذلك”.

اعترف وزير خارجية من دول البلطيق بأنه زار الولايات المتحدة سبع مرات هذا العام، بينما عادةً قد تكون هناك رحلتان فقط عبر الأطلسي، حسب قوله. ويزداد القلق بشكل خاص على الحدود الروسية، في أطراف الإمبراطورية الغربية المتداعية. وسأل الوزير: “هل سيحترم ترامب المادة الخامسة في الناتو، التي تنص على اعتبار أي هجوم على عضو هجومًا على الجميع؟ لا نعرف”. في الوقت نفسه، تبرعت قطر بطائرة فاخرة قيمتها 400 مليون دولار لترامب، ويتم بناء فندق ومنتجع غولف يحملان علامته خارج الدوحة. وفي وقت سابق من هذا الشهر، وقّع ترامب مع قطر معاهدة دفاع متبادل على طريقة الناتو.

ترامب يتحدث لأعضاء الحرس الوطني في ميشيغان في أبريل / نيسان؛ الرسالة المستمرة للرئيس للقوات المسلحة هي أن العدو الرئيسي لهم موجود في الداخل.

يشعر الرؤساء التنفيذيون بنفس القيود التي يعانيها الحلفاء الأجانب. وقال مسؤول كبير في واشنطن: “لم نشهد قط هذا الكم من زيارات رجال الأعمال إلى العاصمة، لا شيء يقترب من ذلك”، مشيرًا إلى الاتفاق الأخير الذي أبرمه جينسين هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة نفيديا، مع ترامب، الذي منح بموجبه الحكومة الأمريكية حصة 15 بالمئة من عائدات تصدير شرائح إتش 20 إلى الصين، وأضاف المسؤول: “ترامب يبيع إذن التنظيم بالمزاد العلني، وهذا يزرع شعورًا عميقًا بعدم الأمان لدى الرؤساء التنفيذيين”.

ليس من المستغرب إذًا أن لا أحد يجرؤ على مواجهة ترامب علنًا. ففي واشنطن اليوم، حتى التلميحات أو الإشارات الضمنية قد تؤدي إلى العقاب. ويجد الحلفاء الذين يحاولون التنبؤ بما سيفعله ترامب لاحقًا في أوكرانيا أنفسهم بلا أي مرجع يعتمدون عليه. وقال السفير لدى أحد حلفاء الناتو في واشنطن: “نحن شبه متأكدين من أن [وزير الخارجية] ماركو روبيو وحتى ويتكوف ليسا في الغرفة عند اتخاذ القرارات. ترامب هو صانع القرار الوحيد”.

من يستطيع كبح ترامب؟ على عكس معظم المسؤولين في واشنطن، تفضل نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب السابقة عن الديمقراطيين، التحدث بصراحة وجرأة. وبينما تنهار دعائم مؤسسية واحدة تلو الأخرى، ترى بيلوسي أن الشعب الأمريكي هو آخر ضابط رقابة على الرئيس، الرجل الذي تصفه بأنه “أسوأ شخصية خرجت من مستنقع التطور”.

عندما زرته منتصف أكتوبر/ تشرين الأول، التقطت بيلوسي، البالغة من العمر 85 عامًا، حفنة من قطع الشوكولاتة الصغيرة الحمراء والزرقاء من وعاء على مكتبها لتوضيح ضرورة استهداف الحزب الديمقراطي للدوائر الجمهورية بشكل أكثر حزمًا. والمراهنة التي يخوضها الديمقراطيون في ظل الإغلاق الفيدرالي المستمر منذ ثلاثة أسابيع تهدف لتنبيه الناخبين إلى التخفيضات الوشيكة التي يخطط لها ترامب في قطاع الرعاية الصحية.

قالت بيلوسي: “قال أبراهام لينكولن: ‘الرأي العام هو كل شيء. معه، لا شيء يفشل؛ ضده، لا شيء ينجح’. أحب هذا الاقتباس”. وأظهرت انتخابات 2024 أن الناخبين الأمريكيين لا يتأثرون بالتهديدات للنظام الدستوري. وتهدف معركة الرعاية الصحية إلى إعادة التركيز على ما يحرّك الناس بشكل مباشر. وأكدت: “الديمقراطية تُحفظ على طاولة المطبخ، ويجب أن نبدأ من هناك”.

كانت حصة بيلوسي من الرأي العام واضحة في مسيرات الاحتجاج ضد ترامب تحت شعار “لا للملوك” يوم السبت الماضي في أنحاء أمريكا. وفي حدث منافس خارج لوس أنجلوس، خاطب نائب الرئيس جي. دي. فانس المارينز، وشاهد تمرينًا عسكريًا يضم آلاف الجنود على شاطئ المحيط الهادئ، مؤكدًا أن أيام النفوذ الحزبي اليساري على الجيش الأمريكي قد ولّت، وأنه وترامب وهيغسِث يقفون “بحزم ضد هذا الهراء”.

حتى لو خسر الجمهوريون السيطرة على مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي المقبلة وفشلوا في الاحتفاظ بالرئاسة في عام 2028، سيرث الديمقراطيون جمهورية تختلف اختلافًا مذهلًا عن تلك التي تركوها. لا يمكنك أن تخطو في نفس النهر مرتين. الإغراء بالاحتفاظ بأساليب ترامب وتحويل حملاته القانونية ضد الجمهوريين وأعدائه المحليين سيكون قويًا للغاية. وأكد عدة من أصحاب المقابلات أن هذه الأساليب تمثل واحدة من القضايا القليلة التي تلفت انتباه كبار الجمهوريين.

كما سيرث الديمقراطيون تداعيات كارثية في مجالات الحكم الاعتيادية. خذ على سبيل المثال مايك أبراموفيتز، مدير إذاعة “صوت أمريكا” المدعومة فدراليًا، والتي كاد ترامب أن يغلقها بالكامل. يقول رئيسها، كاري ليك، الموالٍ لترامب إن المنظمة تعرضت لتغلغل الحزب الشيوعي الصيني. ومن المفارقات أن أبراموفيتز، الذي اضطر لتقليص البث ليوم أو يومين فقط بأربع لغات من أصل 49 لغة، قد تعرض لعقوبات من الصين. وأضاف أبراموفيتز أن المنظمة كانت تحظى بمئة مليون مشاهد ومستمع في أفريقيا، فيما كان ثلث الإيرانيين يتابعونها بانتظام. وتعد الصين، حيث تم حجب “صوت أمريكا”، سوقًا ضخمة رغم صعوبة قياسها إذ يستخدم المستهلكون الصينيون شبكات “في بي إن” غير قانونية لتجاوز جدار الحماية الكبير. وقال أبراموفيتز: “تخيلوا الفرصة الهائلة التي تمتلكها وسائل الإعلام الصينية والروسية لسد الفراغ على مستوى العالم”.

قد يكون الجنوب العالمي مسرحًا لـ “اللعبة الكبرى”، كما يسميها بعض المحللين، بين روسيا والصين وأمريكا وأوروبا جزئيًا، لكسب النفوذ وكسب الحلفاء لكن ترامب يمارس لعبة مختلفة عن الجميع. كانت فنزويلا من بين أكثر جمهور “صوت أمريكا” ولاءً خلال الانتخابات المثيرة للجدل العام الماضي، بينما تسد روسيا عبر قناة “روسيا اليوم” والصين عبر “تلفزيون الصين المركزي” الفراغ الإعلامي.

في عالم واشنطن القانوني المروي والمُسيطر عليه إلى حد كبير، تبرز بعض مكاتب المحاماة الصغيرة القليلة. فقد ترك المحامي آبي لويل مكتبه في مايو/ أيار لتأسيس ممارسة متخصصة تقاضي إدارة ترامب وتدافع عن أهدافها، من بينهم جيمس وبولتون. وكان لويل، البالغ من العمر 73 عامًا، يشارك في دعوى حكومية أو اثنتين سنويًا منذ عهد رونالد ريغان في الثمانينيات، أما الآن، فيتعامل مع واحدة أو اثنتين أسبوعيًا، مشغولًا على الدوام. وقال لويل: «”جب أن نؤمن بأن القضاة في النهاية سيرفضون ختم مذكرات التفتيش، وأن الجنود سيرفضون توجيه أسلحتهم ضد الأمريكيين، وأن الكونغرس سيتذكر دوره الدستوري. علينا أن نعيش على الأمل”.

عندما سُئل وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، عن المستشارين الذين يؤثرون في بوتين، أجاب ساخرًا أن بوتين يستمع إلى إيفان الرهيب وبيتر العظيم وكاثرين العظيمة. أما عميل لويل، بولتون، فأوضح أن ترامب يستشير مستشارًا واحدًا فقط للراحل روي كوهين، المحامي سيء السمعة والبارز في حملة مكارثي في خمسينيات القرن الماضي، والذي علّمه أن الرد يجب أن يكون مضاعفًا. وقال بولتون: “كوهين هو مفتاح ترامب”.

انتهت حقبة جو مكارثي، التي قلبت المجتمع الأمريكي ودمرت العديد من المسيرات المهنية. في عام 1954، سأل محامٍ السيناتور الجمهوري: “ألا يوجد لديك أي شعور باللياقة؟”، لا يمكن تصور أن مثل هذا السؤال سيؤثر على ترامب؛ فالتكرارات المماثلة تُقال ملايين المرات يوميًا قبل الإفطار. في غياب اللياقة، أصبح للسلطة حكم مطلق. أمريكا اليوم في لعبة “الفائز يأخذ كل شيء”، حيث ترامب هو المضيف والمشارك الرئيس، ولن يكون هناك سوى فائز واحد. وقال بانون: “القطار قد غادر المحطة ولن يبطئ”، متوقعًا وقوع المزيد من الاغتيالات على غرار اغتيالات كيرك.

بضع شخصيات فقط، مثل لويل وأبراموفيتز وموس وعدد قليل من قضاة المحاكم الدنيا وبعض رؤساء الجامعات، يقفون في وجه ترامب. لكن معاركهم محدودة وسرية. ومعظم “البالغين” في أمريكا لا يزالون يحافظون على رؤوسهم منخفضة. وقال السيناتور وارنر: “علينا إيجاد طريقة لجمع الناس عبر جميع المجالات للوقوف معًا دفاعًا عن حكم القانون من رجال الأعمال والجيش والمجتمع المدني والإعلام. لم أعد أعتقد أن مؤسساتنا السياسية ستفعل ذلك”.

المصدر: فاينانشال تايمز