“فلسطين أكشن”: حركة بريطانية رفعت كلفة التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي

شكّلت حرب الإبادة على قطاع غزة التي استمرت لأكثر من عامين منذ أكتوبر 2023، منعطفًا حاسمًا أعاد تحديد طبيعة التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية، إذ كشفت عن مفارقة جوهرية في النظام السياسي الغربي، حيث تُدار الحروب القائمة على العنف الاستعماري وتُغذّى ماليًا ولوجستيًا من عواصم تعلن في الوقت نفسه التزامها بحقوق الإنسان والقانون الدولي.
فلم يعد الفعل التضامني الرمزي، كالتظاهر أمام السفارات، كافيًا، وهو ما كشفت عنه الطريقة التي استجابت بها حركة “فلسطين أكشن” (Palestine Action) البريطانية، حيث واجهت هذا الواقع بنقل الفعل السياسي الراديكالي إلى أرض الواقع الاقتصادي؛ من التظاهر أمام السفارات إلى تعطيل المصانع التي تصنع أدوات القتل نفسها، مما فتح سؤالًا أعمق حول معنى المقاومة في عصر التمويل العابر للحدود.
يمر ملف #من_أجل_فلسطين على أبرز الحركات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين، ويتتبع الخط الزمني لعمل كل منظمة وأنشطتها، كما يستطلع أصدقاءها وأعداءها وأهم التحديات التي تواجهها، نستعرضها في التقارير التالية 👇https://t.co/iyweG6jlTg
✍️ @HibaBirat#غزة pic.twitter.com/1qcMtwFONo— نون بوست (@NoonPost) October 13, 2024
في هذا المقال، نحاول نقاش التغير النوعي الذي طرأ على الفعل التضامني من خلال ثلاثة محاور أساسية:
- تحليل كيفية تقديم حركة “فلسطين أكشن” نموذجًا جديدًا للفعل الراديكالي (بالمعنى الإيجابي للكلمة هذه المرة) يزاوج بين العصيان المدني والعمل المباشر ضد بنى العنف الاستعماري، مع تقييم مدى تأثيرها الاقتصادي الملموس.
- تشريح الاقتصاد السياسي للتواطؤ، وذلك بفضح الآليات المعقدة التي تستخدمها المملكة المتحدة لتسليح الاحتلال، خاصة من خلال ثغرة “تراخيص الطرف الثالث”.
- استكشاف كيف يمكن لهذه الحركات العابرة للحدود أن تُعيد بناء لغة سياسية جديدة للتحرر، تربط بين فلسطين وبقية قضايا العدالة الاجتماعية والفقر والكرامة، كما هو واضح في احتجاجات “GZ” الطلابية التي تبنّت مفهوم سحب الاستثمارات والإصلاح.
“فلسطين أكشن” كنموذج جديد للمواجهة
قدّمت حركة “بالستين أكشن” نموذجًا فريدًا يزاوج بين مبادئ العصيان المدني واستراتيجية العمل المباشر الموجّهة ضد البنى الرأسمالية التي تدعم العنف الاستعماري. فقد سعت الحركة، منذ تأسيسها عام 2022، إلى تفكيك النظام الاستيطاني عبر تعطيل سلاسل الإمداد المادية للشركات المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي.
وتميّزت منهجية وممارسة الحركة عن حركات المقاطعة التقليدية (BDS) بتركيزها على التكتيكات المباشرة، مثل احتلال المصانع، وإغلاق المواقع، وإلحاق الضرر المادي بالإنتاج، بهدف فرض تكلفة اقتصادية فورية ومستدامة على الشركات، حيث اتّبعت الحركة فكرة أن النطاق الحقيقي لنجاح الحراك لا يُقاس بعدد المشاركين في التظاهرات، بل بمدى التأثير المباشر على الميزانية العمومية للشركات المستهدفة (Balance Sheet).
وتُعدّ قضية شركة “إلبيت سيستمز” (Elbit Systems)، وهي ثاني أكبر شركة أسلحة في “إسرائيل” ومورّد رئيسي لأسطول الطائرات المسيّرة، المثال الأبرز على فعالية هذا النموذج. فبعد 18 شهرًا من الإجراءات المباشرة المستمرة التي شملت تعطيل المصنع واعتقال 36 ناشطًا، أُجبرت الشركة على الإغلاق النهائي وبيع مصنعها في أولدهام (مانشستر الكبرى) في يناير من عام 2022.
كما شملت استراتيجية الحركة تعطيل وإغلاق المقرات بشكل مؤقت ومستمر في مواقع أخرى، مثل المصانع في لندن وليستر وشينستون، ما أدى إلى تعطيل عمل الموظفين ومنع وصولهم لأماكن عملهم داخل المصنعين العسكريين.
هذا التحول في “المقاومة المدنية”، التي تبنّته الحركة، نجح في تحويل التضامن إلى قوة ضغط اقتصادي حقيقية قادرة على اختراق دفاعات الشركات الرأسمالية عبر ضرب نقاط ضعفها المتمثلة في الربحية واستدامة سلاسل الإمداد.
وزيرة الداخلية البريطانية، إيفيت كوبر، تعتزم استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لحظر مجموعة “فلسطين أكشن”.. تعرّف على الحركة أكثر وعلى أسباب تجريمها 👇 pic.twitter.com/ieWBl3rtPN
— نون بوست (@NoonPost) June 21, 2025
وقد تجسّدت التكلفة المادية لهذه الأفعال في إغلاق مصنع أولدهام، إذ يظهر التحليل المالي لعملية البيع أن الشركة تكبّدت خسارة رأسمالية كبيرة؛ فقد اشترت المصنع بـ 15 مليون جنيه إسترليني وباعته لاحقًا مقابل 9 ملايين جنيه إسترليني.
هذا التدهور في القيمة، الناتج عن استحالة استمرار العمليات في موقع يتعرض للاحتلال والتعطيل المستمر، يمثل خسارة رأسمالية بنحو 6 ملايين جنيه إسترليني.
أيضًا، عكست استجابة الحكومة البريطانية لهذا النمط من العمل المباشر إدراكًا لمدى التهديد الذي يمثله. فبدلًا من التعامل مع الحركة كإزعاج مدني عادي، تم تصنيفها كـ “منظمة محظورة” بموجب قانون الإرهاب لعام 2000. وقد جاء هذا القرار، الذي يجرّم الانضمام إلى الحركة أو دعمها ويعاقب بالسجن لمدة تصل إلى 14 عامًا، بعد فترة قصيرة من تخريب طائرتين في قاعدة بريز نورتون الجوية الملكية.
كذلك، يشير هذا الرد القمعي إلى أن الفعل المباشر ضد المجمع الصناعي-العسكري الإسرائيلي في بريطانيا لا يُنظر إليه على أنه مجرد اضطراب قانوني، بل تهديد استراتيجي مباشر لقدرة الدولة البريطانية على دعم حلفائها والحفاظ على أمن سلاسل إمدادها العسكرية، كما أن محاولات شركة إلبيت ممارسة الضغط على السلطات البريطانية لتشديد الملاحقات القضائية تعكس مدى الأهمية الاستراتيجية للفعل المباشر الذي نفذته الحركة.
وعلى النقيض من ذلك، قضت محكمة بريطانية ببراءة خمسة نشطاء من الحركة في واقعة عرقلة عمل مصنع أسلحة إسرائيلي في كينت عام 2024، مؤكدةً عدم وجود دليل لدعم التهم الموجّهة إليهم.
الاقتصاد السياسي للتواطؤ
تكشف نجاحات عمل الحركة النقاب عن البنية التحتية السرية للتواطؤ بين الحكومات الغربية والاحتلال، مؤكدة أن الحروب تُموّل عبر شبكات معقدة تتجاوز الإعلانات الرسمية، حيث أكدت التحقيقات الصحفية أن الحجم الحقيقي لتجارة السلاح البريطانية مع “إسرائيل” يتجاوز بكثير الأرقام الرسمية المعلنة.
ففي الوقت الذي قدّرت فيه وزارة الأعمال والتجارة المبيعات المباشرة (2022-2023) بـ 60.2 مليون جنيه إسترليني فقط، كشفت المعلومات عن صادرات عسكرية إضافية بقيمة 51.6 مليون جنيه إسترليني في الفترة نفسها، تم تمريرها عبر ما يُعرف بـ “تراخيص الطرف الثالث” أو “رخص الاندماج” من خلال الولايات المتحدة الأميركية.
كما تسمح هذه الآلية لشركات بريطانية بشحن المكونات العسكرية الحيوية (مثل مكونات محركات الطائرات، أنظمة الاستهداف والرادارات، وراجمات إطلاق الذخيرة) إلى مُصنّعي أسلحة أميركيين يقومون بتجميع الأجزاء في أنظمة أسلحة كاملة تُباع بعد ذلك لـ “إسرائيل“، فيما يقول مدير الأسلحة والأمن في منظمة أمنستي إنترناشونال هذا الترتيب بأنه “معادل دولي لطريقة الشراء عبر نظام (أنقر وخذ بضائعك)”، مشيرًا إلى أن هذا الترتيب القانوني يخفي القيمة الحقيقية للعقود العسكرية المبرمة مع “إسرائيل”.
أعلنت جامعة كامبريدج عزمها سحب استثماراتها من الشركات المنتجة للأسلحة المثيرة للجدل، مثل الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والقنابل العنقودية، وناقشت في تقرير موسّع إمكانية الانسحاب الكامل من جميع شركات السلاح.
القرار جاء بعد ضغط طلابي متواصل من حركة “كامبريدج من أجل فلسطين” التي… pic.twitter.com/h20aNJL9tD
— نون بوست (@NoonPost) October 23, 2025
هذه التراخيص ليست مجرد خطأ بيروقراطي، بل هي سياسة متعمّدة للإخفاء، إذ تتيح للمملكة المتحدة الحفاظ على التزامها الاقتصادي والعسكري الحيوي تجاه “إسرائيل”، مع تلبية الحد الأدنى من الضغط السياسي المحلي والدولي، وتجنّب المساءلة العامة عن التورط المباشر في الإبادة الجماعية. هذه السياسات، تبرهن على أن الحكومات الغربية تبني آليات هيكلية لضمان استمرار تدفّق الدعم العسكري بعيدًا عن أعين المدققين القانونيين والنشطاء الحقوقيين.
وعلى الرغم من هذا التواطؤ الهيكلي، فإن الضغط الشعبي، الذي غذّته حركات مثل “فلسطين أكشن”، بدأ يفرض نفسه على المستوى السياسي، فبعد أن كانت الحكومة المحافظة ترفض تعليق أي تراخيص، اضطرت الحكومة العمالية الجديدة في سبتمبر/أيلول 2024 إلى تعليق نحو 30 ترخيصًا (من أصل 350 ترخيصًا قائمًا).
وجاء قرار التعليق بعد أن استنتجت الحكومة وجود “خطر واضح” بأن هذه الصادرات “قد تُستخدم لارتكاب أو تسهيل انتهاك جسيم للقانون الإنساني الدولي”، إلا أن هذا التعليق الجزئي لا يطال رخص الطرف الثالث ولا يؤثر على برامج رئيسية مثل طائرات F-35، ما يؤكد أن الحكومات الغربية تسعى للموازنة بين الالتزام الظاهري بالقانون الدولي والحفاظ على جوهر علاقاتها العسكرية الاستراتيجية مع “إسرائيل”.
لا يقاس نجاح حركة مثل “فلسطين أكشن” الحقيقي س بإغلاق مصنع أو مصنعين، بل بقدرتها على فضح هذا النظام العسكري/الاقتصادي بأكمله للتواطؤ المالي والتنظيمي.
الحركات العابرة للحدود وإعادة بناء لغة جديدة للتحرر
لقد تجاوز نموذج “فلسطين أكشن” حدود المملكة المتحدة ليتحوّل إلى استراتيجية عالمية تستهدف الشركات المتواطئة في بلدان أخرى. ففي أستراليا، على سبيل المثال، قامت “مجموعة فلسطين أكشن” (The Palestine Action Group) بالتحذير من تنفيذ “حصار سلمي” لمعرض سيدني البحري الدولي (Indo Pacific International Maritime Exposition)، مستهدفة بذلك الأفرع المحلية لشركات الأسلحة “الإسرائيلية” مثل “إلبيت سيستمز” و”رافائيل لأنظمة الدفاع المتقدمة” المدرجة كجهات عارضة.
هذا التوسع الجغرافي يبرهن على أن استراتيجية العمل المباشر ضد البنية التحتية العسكرية بدأت تؤسّس لنموذج دولي يتكامل مع الحراك الطلابي الأوسع، عبر ربط فعل المقاومة المادي (تعطيل الإنتاج والتمويل) بالوعي السياسي العابر للحدود.
إن النموذج الراديكالي الذي قدّمته الحركة، والمتمثل في مهاجمة الرأسمالية العسكرية في عواصمها، ارتبط بشكل وثيق ببروز حركات تضامنية عابرة للحدود، وخاصة احتجاجات “GZ” الطلابية، والتي أعادت صياغة لغة التحرر عبر مفهوم التقاطعية (Intersectionality)، فقد تجاوزت الحركات الطلابية والشبابية، التي انتشرت في أكثر من 25 دولة حول العالم، مجرد المطالبة التقليدية بوقف إطلاق النار، لتستخدم قضية فلسطين كعدسة تحليلية لتفكيك أنظمة القمع المعولمة، حيث جمع هذا الحراك بين جيل فلسطيني شاب يؤمن بالتحرر الوطني، وجيل أميركي وأوروبي واعٍ لديه قدرات تنظيمية جيدة.
هذا الوعي الجديد يربط النضال الفلسطيني بقضايا العدالة الاجتماعية والفقر والكرامة في الدول الغربية نفسها. على سبيل المثال، في الجامعات الأميركية، دمج النشطاء مطالب سحب الاستثمارات من شركات الأسلحة المتورطة في غزة، بحملات نزع عسكرة الشرطة الجامعية والمحلية، فيما يفسر هذا التوجه بأن العنف العسكري الخارجي، الذي تساهم فيه الشركات الرأسمالية، هو امتداد لنفس الاقتصاد الداخلي الذي يغذّي “الموت والدمار البيئي” وعدم المساواة المحلية.
تعمل بكل طاقتها لدعم القضية الفلسطينية عند الجمهور الغربي، مواجهة تحديات اللوبي الإسرائيلي ومناصريه.. إليك أبرز الحركات العالمية المدافعة عن حقوق الفلسطينيين 👇#فلسطين #غزة pic.twitter.com/Nc7JEn8GXU
— نون بوست (@NoonPost) August 7, 2024
أيضًا، تبنّي العديد من هذه المخيمات الطلابية لغة سياسية جديدة أكثر عمقًا، تجاوزت شعار “سحب الاستثمارات” التقليدي إلى شعار “سحب الاستثمارات والإصلاح”.
وهكذا، فإنّ دمج مفهوم “الإصلاح” في خطاب سحب الاستثمارات يضيف بعدًا تعويضيًا للنضال السياسي، هذا المفهوم لا يطالب المؤسسات التعليمية بالاكتفاء بالعقاب الاقتصادي (سحب الأموال) فحسب، بل يُلزمها بالاعتراف بمسؤوليتها تجاه “الإبادة التعليمية” (Scholasticide) في غزة، والمساهمة في إصلاحها، غالبًا من خلال دعم مبادرات لجامعاتٍ فلسطينية مثل جامعة بيرزيت.
من هذا المنظور، فإن الفعل الراديكالي الذي حققته “فلسطين أكشن” في إغلاق المصانع، قد وفّر الأساس المادي الذي بُنيت عليه هذه اللغة السياسية الجديدة.
لقد نجحت الحركات العابرة للحدود في توحيد قاعدة متنوعة من النشطاء تحت مظلة مقاومة النظام الرأسمالي العسكري. بالتالي، فإن الهجوم على مصنع “إلبيت” في بريطانيا أصبح جزءًا لا يتجزأ من نضال أوسع ضد العسكرة والظلم الاجتماعي في لندن ونيويورك وشيكاغو. ويؤكد هذا الربط أن الوعي الفلسطيني، المتأصل في سياق النكبة، والتحدي، يقدّم ريادة في صياغة مفاهيم عالمية للتحرر في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الجديد.
بالمحصلة، فإن هذه الحركات الراديكالية والعابرة للحدود، التي صاغت لغة تحرر جديدة قائمة على التقاطعية وشعار “سحب الاستثمارات والإصلاح”، تدرك أن التهدئة العسكرية المؤقتة في غزة لا تعني نهاية النضال.
فما دامت الآليات الهيكلية للتواطؤ المالي، ممثلة في “رخص الطرف الثالث” وفي استثمارات الجامعات والمؤسسات، قائمة، فإن العنف الاستعماري يظل تهديدًا كامنًا.
لذلك، يبرز التحرر الفلسطيني الآن كنقطة ارتكاز عالمية لنقد الرأسمالية العسكرية، ويجب أن يبقى العمل المباشر، من تعطيل المصانع إلى الضغط على الحكومات لإغلاق ثغرات التمويل، مستمرًا كضرورة أخلاقية واستراتيجية حتى تفكيك البنية التحتية الكاملة التي تدعم الاحتلال “الإسرائيلي” في عواصم الغرب التي تزداد يمينية عامًا تلو الآخر.