عقب سقوط نظام الأسد في سوريا، أعادت إيران ترتيب أولوياتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، لتتحول اليمن إلى نقطة ارتكاز جديدة في عقيدتها الأمنية، هذا التحول هو إعادة تموضع لمحور المقاومة الموالي لها، الذي فقد أحد أعمدته الأساسية في دمشق، ما دفع طهران للبحث عن بديل قادر على ملء الفراغ الجيوسياسي الذي خلفه انهيار حليفها في دمشق.
اليمن، بموقعها الجغرافي الحساس على مضيق باب المندب، تحولت إلى ساحة اختبار حقيقية لقدرة إيران على إعادة إنتاج نفوذها الإقليمي، فجماعة الحوثي المدعومة إيرانيًا باتت تمثل الذراع العملياتي الجديد لطهران، لا في الداخل اليمني وفقط، وإنما كأداة ضغط إقليمية يمكن توظيفها في ملفات متعددة، من أمن البحر الأحمر إلى التوازنات الخليجية.
هذا التمدد الإيراني لم يمر دون ردود فعل دولية، إذ احتجت اليمن لدى مجلس الأمن الدولي، على “استمرار التدخلات الإيرانية السافرة في شؤونها الداخلية”، والعمل على زعزعة أمنها واستقرارها، وانتهاك قرارات مجلس الأمن ذات الصلة وميثاق الأمم المتحدة، في إشارة إلى جماعة الحوثي المدعومة إيرانيًا، والتي باتت عنصرًا نشطًا في معادلة الاستقرار الإقليمي.
التحذيرات الدولية تدل على إدراك متزايد بأن طهران تسعى لتحويل اليمن إلى منصة نفوذ بديلة عن سوريا، خاصة مع تراجع قدرتها على التأثير في الجبهة الشمالية.
تصريحات حسين الله كرم، القائد السابق في الحرس الثوري الإيراني، جاءت لتؤكد هذا التحول، إذ أشار إلى أن اليمن باتت تحل محل سوريا في العقيدة الأمنية الإيرانية، خصوصًا في ما يتعلق بمواجهة “إسرائيل”.
بدوره، لم يعد “حزب الله”، الذي تلقى ضربات موجعة، قادرًا على لعب الدور الذي كان يؤديه سابقًا، ما دفع إيران إلى إعادة توزيع أوراقها في المنطقة. اليمن، بما تمتلكه من موقع استراتيجي، باتت مركز ثقل جديد في استراتيجية طهران، تتيح لها أدوات ضغط متنوعة تشمل الملاحة الدولية والجوار الخليجي.
الدعم الإيراني للحوثيين تجاوز البعد السياسي إلى الدعم العسكري المباشر، من تدريب وتمويل إلى تزويد بصواريخ وطائرات مسيّرة. ما رسّخ الجماعة كقوة تهديد حقيقية تمتد إلى الإقليم بأسره، ما يضع المجتمع الدولي أمام تحديات أمنية متزايدة.
يعيد محور إيران تشكيل نفسه وفق معطيات جديدة، متكيّفًا مع التحولات الإقليمية، وباحثًا عن أدوات ومواقع بديلة تعوض خسائره في سوريا. اليمن، في هذا المشهد، لا تظهر كحليف طارئ، وهي لاعب رئيسي قد يعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، ويؤسس لمرحلة جديدة من التنافس الجيوسياسي في المنطقة.
المخدرات أداة تمويل الحرب
تحولت تجارة المخدرات في اليمن من نشاط متفرق إلى أداة إقليمية استراتيجية تموّل أنشطة مليشيا الحوثي العسكرية وتوسّع نفوذها السياسي. ومع تضييق الخناق الدولي على موارد الجماعة التقليدية وتراجع الدعم الخارجي، اتجه الحوثيون إلى نموذج التمويل الإيراني القائم على الاتجار بالمخدرات، حيث تُستخدم عوائد تجارة المخدرات كرافد اقتصادي لتمويل الحرب وإدامتها.
وزير الإعلام والثقافة والسياحة اليمني معمر الإرياني قال في تصريح صحفي: إن الحرب لم تعد تُخاض بالسلاح وحده، وأصبحت المخدرات محرّكًا رئيسيًا لها، مشيرًا إلى أن محافظة صعدة ومناطق شمال البلاد تحولت إلى بؤر رئيسية لترويج الكبتاغون.
وأوضح أن هذه التجارة باتت وسيلة مزدوجة للتمويل والتدمير، تستهدف الشباب بالإدمان والتجنيد، وتخلق اقتصادًا خفيًا يُعيد إنتاج الحرب ويُطيل عمرها.
تاريخيًا، استخدمت إيران شبكات تهريب المخدرات في لبنان وسوريا والعراق لتمويل حلفائها، واليوم، اصبح اليمن أصبح الأحدث من هذا النموذج الذي يقوم على نقل الخبرة، وبناء شبكات توزيع، وربطها بجماعات محلية قادرة على حمايتها بالسلاح.
في نهاية يونيو/حزيران 2025 أعلن مدير أمن عدن، اللواء مطهر الشعيبي، أن الحوثيين قد أنشأوا منشأة/مصنعًا لإنتاج الكبتاغون في مناطق نفوذهم، وأن خطوة الإنتاج المحلي جاءت بالتوازي مع محاولات نقل خبرات ومعدات من مناطق أخرى.
وفي مدينة شحن في محافظة المهرة شرقي البلاد، حين ضبطت الأجهزة الأمنية مصنعًا لتصنيع الكبتاغون، كشف وزير الداخلية اللواء إبراهيم حيدان أن مصدر المواد والمعدات هو النظام الإيراني، واصفًا العملية بأنها من أخطر شبكات التهريب التي واجهتها البلاد.

وبعد أسابيع، أوقفت السلطات في عدن خبراء لبنانيين وسوريين كانوا يحاولون إنشاء مصنع بديل بعد فشل إيصال المعدات إلى صنعاء، في مؤشر على تورط خبرات إقليمية مباشرة.
وأكدت وزارة الداخلية اليمنية أن هذه التحركات جزء من استراتيجية إيرانية أوسع بدأت تتبلور بعد الحرب السورية، حيث نُقل جزء من الأنشطة غير المشروعة إلى اليمن، استغلالًا لهشاشة الدولة وتعدد المنافذ. وتشير التحقيقات إلى أن شبكات الكبتاغون ترتبط بقيادات حوثية وتعمل عبر خطوط إمداد تمتد من إيران، مرورًا بعُمان، وصولًا إلى الحدود الشرقية لليمن.
ويرى الصحفي الاقتصادي وفيق صالح في حديثه لـ”نون بوست” أن شبكات التهريب الحوثية كانت دائمًا من أبرز مصادر التمويل المادي للجماعة، حيث اعتمدت عليها لتغذية أنشطتها وتوسيع قدراتها العسكرية، حتى قبل السيطرة على صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014.
ويقول صالح: “بعد استحواذ الحوثيين على صنعاء، توسعت أنشطة التهريب لتشمل مجالات متعددة، وإن كان التركيز الأساسي يظل على الممنوعات وتهريب شحنات الأسلحة”. وهذا ما يبرز استراتيجية الجماعة في تأمين موارد إضافية تمكّنها من الاستمرار في عملياتها العسكرية دون الاعتماد الكلي على الدعم الخارجي.
التهريب أداة إقليمية
وهكذا، أصبح البحر الأحمر ومضيق باب المندب محورًا حيويًا لشبكات تهريب عابرة للحدود، مستفيدة من موقع اليمن الجغرافي لتأمين مرور الشحنات وخلق مسارات تهريب جديدة ذات أبعاد سياسية واقتصادية.
ومع تراجع الدور السوري في سوق الكبتاغون، انتقلت بؤرة الإنتاج والتهريب إلى الأراضي اليمنية، حيث باتت الشحنات تتجه بكثافة نحو دول الخليج. فقد أعلنت السلطات اليمنية في صيف 2025 عن ضبط 1.5 مليون حبة كبتاغون كانت في طريقها إلى السعودية، وهو مؤشر على تحول اليمن إلى محور تمويل إقليمي يرتبط بشبكات تمتد من إيران إلى البحر الأحمر.

كما كشفت الحملة الأمنية في محافظة لحج عن استخدام البحر الأحمر كممر استراتيجي للتهريب، من خلال اعتراض شاحنات وقوارب قرب المضيق، وضبط شحنات مخدرات متكررة على السواحل والمياه الإقليمية، قبل تهريبها إلى مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين، ما يؤكد الطابع المنظَّم والعابر للحدود لهذه العمليات.
وفي السياق ذاته، تؤكد الولايات المتحدة وبريطانيا أن اليمن أصبح نقطة محورية في شبكات التهريب الإقليمية، وأن هذه الأنشطة غير المشروعة تغذي النزاعات وتموّل الجريمة المنظمة في المنطقة. وقد أعلنت القوات البحرية الأميركية عن ضبط مخدرات بقيمة مليارات الدولارات في البحر العربي وخليج عدن، ما يعكس اتساع البعد الإقليمي لهذه التجارة وتحولها إلى أداة نفوذ جيوسياسي تستخدمها أطراف إقليمية لتحقيق مصالحها.
“حزب الله” واليد الخفية
من الضاحية الجنوبية لبيروت بدأ الطريق الطويل الذي امتد حتى جبال صعدة اليمنية، عبر خطوط خفية من الخبرة والتقنية واللغة العسكرية. هناك، في أقصى الجنوب العربي، كان الحوثيون يتلقون شيئًا التدريب على يد خبراء الحزب اللبناني.
تقول رويترز في تقرير صدر أواخر سبتمبر/أيلول 2024 إن تحوّل الحوثيين من قوة محلية إلى فاعل عسكري إقليمي لم يكن ليتحقق دون التدريب والمساعدة التقنية التي قدّمها الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله“. كلمات بسيطة لكنها تحمل خلفها خريطة كاملة من العلاقات الخفية والأنفاق السياسية التي تربط بيروت بصنعاء، وطهران بالبحر الأحمر.
وتشير تقارير رويترز والأمم المتحدة إلى وجود مستشارين من “حزب الله” يعملون إلى جانب خبراء إيرانيين في صنعاء، يديرون غرف عمليات صغيرة، يتابعون صور الأقمار الصناعية وحركة السفن في البحر الأحمر، ويشاركون في اختيار الأهداف.

التحالف العربي في اليمن عرض في مؤتمراته مقاطع فيديو قال إنها تُظهر مدربين من الحزب، لم تكن تلك المشاهد أكثر من ومضات عابرة، لكنها أيقظت السؤال الأهم: هل صار اليمن ساحة جديدة لامتداد الظل اللبناني الذي خبر حروب الجنوب وسوريا؟
ويقول أحد مقاتلي الجيش الوطني في جبهات شمال غرب البلاد (رفض ذكر اسمه) لـ”نون بوست”: نحن في المنطقة الخامسة، لم نرَ مقاتلين يرفعون رايات صفراء، لكن أسلوب القتال تغيّر، ونرى تطورًا في الصواريخ، والطائرات المسيّرة أكثر جرأة على الاقتراب من الممرات الدولية، هناك من يقول إن تلك البصمات لا تخطئها العين، وإنها تحمل نفس المدرسة التي صاغت تكتيكات “حزب الله”.
وتتحدث التقارير صراحة عن نقل خبرة وتدريب جرى داخل وخارج اليمن، وهي صيغة دبلوماسية لتسمية ما لا يُقال مباشرة، أن هناك من يُدرّب ومن يتلقّى، وأن تلك الدروس لا تنتهي عند حدود العقيدة، وتتجاوزها إلى علوم الحرب.
وقد لا يظهر “حزب الله” في اليمن بصورته الكاملة، لكنه هناك في تفاصيل المعركة، في الدقة التي لم تكن موجودة، وفي الخطاب الذي يشبه صدى الجنوب اللبناني، فهو حضور يشبه الظل، صحيح أنه لا يُرى لكنه يغيّر شكل الأشياء، وبما أن الحروب مؤخرًا باتت تُخاض بالمستشارين والطائرات الصغيرة والرسائل الرمزية، يبدو أن الحزب اختار أن يكون في قلب المعركة دون أن يكون فيها.
في مطار عدن الدولي، أوقفت قوات الأمن اليمنية عناصر من “حزب الله” اللبناني وسوريين وإيرانيين، تورّطوا في شبكات تهريب المخدرات ودعم ميليشيات الحوثي. وأوضح اللواء إبراهيم حيدان أن هذه الشبكات انتقلت إلى اليمن بعد انهيار نظام الأسد، مستفيدة من الفوضى الأمنية، حيث حاول بعض المتهمين دخول البلاد كسائحين قبل أن يتم ضبطهم.
كما أصدرت محكمة يمنية، شهر أكتوبر/اشرين الأول 2025، حكمًا بالإعدام على ستة إيرانيين أُدينوا بتهريب أطنان من المخدرات لتمويل الحوثيين.
وتحت جنح الظلام، تواصل ميليشيا الحوثي، بإشراف من عناصر “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني، حفر أنفاق تمتد كالسرطان تحت تراب الحديدة الساحلية، تمتد من بيت الفقيه إلى ساحل الحالي. أنفاق متشابكة تُخبّئ السلاح وتربط المواقع ببعضها كمدينةٍ خفية تحت المدينة، وتمُر هذه الأنفاق تحت البيوت والمزارع، وعلى مقربة من الطرق، فيما يواصل الحوثيون بناء التحصينات ونصب الصواريخ داخل الأحياء المزدحمة، كل ذلك استعدادًا لمعركةٍ محتملة قادمة قد تجعل من المدنيين جدرانًا بشرية في حربٍ تُدار من تحت الأرض، بحسب مكتب إعلام محافظة الحديدة، غربي البلاد.