بين الركام والخيام: مأساة كبار السن في غزة المنهكة

بينما تُركز العدسات على حجم الدمار والأطفال ونزوح النساء، يبقى كبار السن في قطاع غزة في قلب المأساة، هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في البناء والتربية، في لحظة وجدوا أنفسهم مُشردين، مُنهكين، بلا دواء ولا طعام، يسيرون على الأقدام تحت قصف الطائرات، دون أن يسمع أنينهم أحد، فيبدأ النزوح، سيرًا على الأقدام، تحت الشمس الحارقة أو المطر، وسط الأنقاض، وعلى طرق غير ممهّدة.
“مشيت 12 كيلومترًا على رجلي وأنا أتنقل من رفح إلى عدة مناطق في خانيونس ومواصيها”، يقول الحاج بشير فروانة 72 عامًا لـ”نون بوست”، وهو رجل نحيل يحمل بقايا حقيبة فيها بعض أدويته، يتابع بصوت مبحوح: “ركبتي تؤلمني، وعيني شبه عمياء، لكنني مُجبر، لا أحد يحملني، وأبنائي فقدتهم تحت الركام”.
كان يعيش الحاج فروانة في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، في بيته الذي بناه بيديه، بين أبنائه وبناته وأحفاده، يزرع فيهم حب الأرض والوطن، لكن الحرب حرمته من منزله ودفء تجمع عائلته، إذ بموجب أوامر الاحتلال الإسرائيلي أُجبروا على النزوح قسرًا من مدينة رفح إلى مواصي مدينة خانيونس.
يقول الحاج إنه نزح مراتٍ عديدة وعديدة مُجبرًا من مكان لآخر، بحثًا عن الأمان المزعوم، في وقتٍ لا مكان آمن في غزة، وأمنيته بأن يعود لرفح حيث مسقط رأسه، وبموجب اتفاق وقف إطلاق النار سينسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي من المناطق المُسيطر عليها، بما فيها مدينة رفح، ويعود أهل المدينة لمناطقهم.

فبين وجع الحرب ومرار النزوح، تبرز حكاية الحاجة سندس نصار 50 عامًا من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، كصورة تختزل معاناة آلاف النساء اللواتي ذُقن مرارة التشريد وفقدان المأوى. فمنذ بداية الحرب، اضطرت الحاجة سندس للنزوح أكثر من خمس وعشرين مرة، وفي كل مرة كانت تغادر بيتها تحت القصف والنيران، تسير مع أبنائها وأحفادها دون أن تحمل معها شيئًا سوى ما تبقّى من روحها. فبعد ستة أشهر من الصمود بشمال القطاع، وصلت إلى خانيونس عبر الحواجز الإسرائيلية، أو ما يُعرف بالحلابات، برفقة أحد عشر فردًا من أسرتها. تصف الرحلة بأنها كانت “طريقًا بين الموت والحياة”، إذ عبرت هي وأطفالها تحت تهديد الجنود والخطر الدائم.
تقول الحاجة سندس بوجعٍ يختلط بالفخر: “كُنت أعيش في بيتي ملكة مُكرّمة، كل شيء حولي جاهز، اليوم أنام على الأرض فوق حصيرة أنا وبناتي، بلا غطاء ولا وسادة”.

رغم تعب الجسد والمرض، لم تسمح لنفسها بالاستسلام، إذ خاضت عدة عمليات جراحية لكنها عادت لتقاوم الفقر بكرامة، حيث أنشأت فرنًا من الطين قرب خيمتها البسيطة لتخبز للناس مقابل عائد مادي بسيط، لعله يعيلها على إطعام أطفالها وأحفادها، وحتى ابنها المشلول الذي تعيله مع أسرته.
منذ الصباح وحتى المغيب، تعمل تحت حرارة النار ودخان البلاستيك، يتصبب العرق من وجهها، وتتألم عيناها من الدخان، لكنها تواصل العمل، وتُضيف وهي تمسح العرق بيدٍ متعبة، في أيام المجاعة، لم تكن تملك حتى ثمن كيلو طحين، وشاهدت أطفالها جياعًا دون أن تقدر على إطعامهم، في الوقت الذي هي فيه منهكة جسديًا ونفسيًا وماديًا، لكنها متشبثة بالأمل بأن تعود إلى بيتها في بيت حانون دون أن تتذوق حسرة فقد أيٍ من أحبابها.
أما الواقع الصحي في غزة فكارثي، فمع استهداف الاحتلال المنشآت الصحية وخروج عدد كبير من المستشفيات عن الخدمة، لا يجد كبار السن مكانًا لتلقي العلاج أو حتى المبيت الآمن، ومن بين أكثر الفئات تأثرًا بانهيار النظام الصحي، كبار السن المصابون بالأمراض المزمنة، مثل السكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والكلى.

رسمية النجار 75 عامًا، تقول: “نزحتُ أكثر من عشرين مرة، وكلها على الأقدام، ما زاد من سوء وضعي الصحي، ووضع زوجي المُسن الذي توفي بسبب اشتداد المرض عليه خلال الحرب، حيث لا دواء ولا غذاء”. وتُضيف المُسنة النجار: “وضعي المادي تحت الصفر، لا أستطيع شراء الدواء حتى أُخفف الوجع والالتهابات”، حيث أُصيبت الحاجة رسمية بشظية في البطن وهي في ساحة مجمع ناصر الطبي التي كانت ذاهبة إليها للفحص الطبي، نتيجة استهداف الاحتلال للمشفى. وأُجريت لها عدة عمليات لكنها لم تتلق العلاج بسبب عدم توفره، في ظل ظروفٍ صعبة تعيشها في مركز الإيواء.
تتفاقم معاناة كبار السن مع غياب الغذاء والعلاج المناسبين في مراكز الإيواء والمخيمات، حيث يعتمد الجميع على المساعدات من المؤسسات والجمعيات الخيرية، وهي غالبًا لا تكفي، ولا تراعي الاحتياجات الخاصة للمسنين، فهناك أعداد كبيرة من كبار السن يعانون من سوء التغذية، مما يجعلهم أكثر عرضة للعدوى، ومضاعفات الأمراض، والوفاة السريعة.

منذ اندلاع الحرب، سقط الآلاف من المدنيين الفلسطينيين بين شهيد وجريح، من بينهم كبار السن، فبعضهم قُتل أثناء محاولته النزوح، وآخرون ماتوا تحت الأنقاض، أو بسبب تأخر العلاج، أو من شدة البرد والجوع في مراكز الإيواء.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، في آخر إحصائية له في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بمناسبة اليوم العالمي لكبار السن، راح ضحية الحرب على غزة أكثر من 65,000 شهيد، ما يشكل ما نسبته 2.9% من إجمالي سكان القطاع الذين كانوا يقيمون فيه عشية الحرب على غزة، منهم حوالي 7% من كبار السن، كما نزح نحو 2,000,000 فلسطيني من بيوتهم، من أصل نحو 2,200,000 فلسطيني كانوا يقيمون في القطاع عشية الحرب على غزة.
فيما اضطر الطاقم الطبي والإداري في مشفى الوفاء للمسنين “دار المُسنين” إلى إجلاء العشرات من المسنين من مدينة غزة إلى منطقة الزهرة، ومن ثم إلى مدينة دير البلح، بعد اشتداد القصف المباشر، في رحلات نزوح وُصفت بأنها “الأكثر قسوة وخطورة” منذ اندلاع الحرب.

وقال مدير مشفى الوفاء للمسنين، الدكتور أشرف حمادة، إن عملية الإخلاء جرت تحت نيران القصف المستمر، وانعدام وسائل النقل، وصعوبة الوصول إلى الطرق الآمنة، مُشيرًا إلى أن الطاقم الطبي نقل المسنين يدويًا أو على عربات بدائية، وسط نقص حاد في الوقود والإمدادات.
وأوضح حمادة أن المسنين عانوا من الخوف والهلع الشديدين بسبب القصف المتكرر، وتفجير الطائرات المسيّرة و(الروبوتات)، لافتًا إلى أن بعض الحالات دخلت في غيبوبة نتيجة سوء التغذية والإجهاد النفسي، بينما أُصيب آخرون بحالات اكتئاب وصدمات نفسية نتيجة فقدانهم المأوى، والشعور الدائم بعدم الأمان.
وبيّن مدير المشفى لـ”نون بوست” أن الوضع الإنساني للمسنين “كارثي بكل المقاييس”، إذ تعاني دار المسنين من انعدام الغذاء والدواء، وضعف الإمكانيات الطبية، ما أدى إلى وفاة قرابة 20 مسنًا ومسنة من أصل 40 كانوا يتلقون الرعاية داخل الدار، بسبب الجوع، وسوء التغذية، وتوقف الأجهزة الطبية عن العمل لغياب الكهرباء والمولدات.

وأشار حمادة إلى أن المسنين المتبقين يعانون من تدهور حاد في البنية الجسدية، وضمور عضلي، وضعف في المناعة، في ظل غياب كامل للرعاية الصحية والنفسية، وانقطاع الإمدادات الطبية الأساسية، مثل الأنسولين، وأدوية القلب، وضغط الدم.
وأكد حمادة أن جيش الاحتلال وجّه عدة اتصالات تهديد للطواقم العاملة في المشفى، مهددًا باستهداف المبنى والعاملين داخله، ما اضطر بعض الأطباء والممرضين إلى مغادرة المكان مؤقتًا حفاظًا على حياتهم، الأمر الذي فاقم أزمة الرعاية داخل الدار.

وخلال الحرب، استهدف الاحتلال المشفى في منطقة الزهرة دون سابق إنذار، ما أسفر عن سقوط عدد من الشهداء، بينهم مدير المستشفى الدكتور مدحت محيسن، وإصابة آخرين من المسنين الذين كانوا يقطنون المستشفى لتلقي الرعاية اللازمة. وقالت وزارة الصحة في غزة في ذلك الوقت إن قصف مركز الوفاء للمسنين كان متعمدًا، وهو عملية استهداف واضحة ومقصودة لكبار السن.
في ختام حديثه، وجّه الأستاذ أشرف حمادة نداءً إنسانيًا عاجلًا إلى المؤسسات الدولية والحقوقية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر، بضرورة توفير مكان آمن وملائم للمسنين في غزة، مجهز بأجهزة ومعدات طبية أساسية، وإنشاء صالات ترفيهية وتأهيلية تساعد المسنين على تجاوز الصدمات النفسية، وإرسال مساعدات غذائية ودوائية عاجلة لإنقاذ ما تبقى من المسنين الذين عانوا ويلات أصعب حرب في التاريخ البشري.
يُشار إلى أن مركز الوفاء لرعاية المسنين يُعتبر مركز التأهيل الطبي الأول والوحيد في قطاع غزة الخاص بكبار السن.