ما الذي تمثله صفقة “يوروفايتر تايفون” لتركيا وأوروبا؟

شهدت العاصمة أنقرة مؤخرًا حدثًا لافتًا في مسار العلاقات الدفاعية بين تركيا وأوروبا، تمثّل في الزيارة الرسمية التي أجراها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر برفقة وزير الدفاع جون هيلي وقائد سلاح الجو الملكي، حيث عقد مباحثات موسعة مع الرئيس رجب طيب أردوغان وكبار مسؤولي الدفاع والاستخبارات والخارجية.
وتُوّجت الزيارة بتوقيع اتفاقية تعاون دفاعي تتضمن توريد عشرين مقاتلة “يوروفايتر تايفون” إلى تركيا، مع خيار رفع العدد مستقبلًا، في صفقةٍ وُصفت بأنها الأكبر في تاريخ التعاون العسكري التركي–البريطاني الحديث. وصرّح ستارمر عقب التوقيع بأن الصفقة “ستعزز أمن حلف الناتو، وتؤمن نحو 20 ألف وظيفة بريطانية في قطاع الصناعات الجوية”.
لاحقًا، كشف وزير الدفاع التركي يشار غولر عن خطةٍ لتوسيع الصفقة إلى 44 طائرة، تشمل شراء 20 من بريطانيا، و12 من قطر، و12 من سلطنة عُمان، مع بدء تسلّم الدفعة القطرية مطلع العام المقبل.
تزامن الإعلان مع زيارة ميدانية أجراها ستارمر إلى مقر شركة “توساش” (TUSAŞ)، حيث تُطوَّر المقاتلة التركية من الجيل الخامس “قآن” (KAAN)، في إشارة رمزية إلى أن الصفقة البريطانية–التركية لا تقتصر على بيع طائرات، بل تمهّد لشراكة أوسع في مجال التصنيع والتطوير الدفاعي.
ما هي مقاتلة “يوروفايتر تايفون”؟
لم يكن اختيار تركيا لمقاتلة “يوروفايتر تايفون” صدفة عسكرية أو صفقة عابرة، بل قرارًا مدروسًا يجمع بين الاعتبارات التقنية والسياسية في آنٍ واحد. فالطائرة، التي طوّرها تحالف أوروبي يضم بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، تُعد واحدة من أكثر المقاتلات متعددة المهام تطورًا في العالم، إذ تجمع بين السرعة الفائقة والمناورة العالية وقدرة متقدّمة على تنفيذ مهام القتال الجوي والهجمات الأرضية في آنٍ واحد.
مزودة بمحركين من طراز EJ200 يمنحانها سرعة تتجاوز ماخ 2 ومدى عملياتيًا يتخطى 3000 كيلومتر، إضافةً إلى نظام رادار Captor-E AESA الذي يمكّنها من تتبّع أهداف متعددة بدقة عالية، تعتبر “تايفون” ذروة ما أنتجته الصناعة الجوية الأوروبية من مقاتلات الجيل الرابع المتقدّم.
من الناحية العملياتية، تمثّل “تايفون” حلقة انتقالية مثالية لسلاح الجو التركي بين أسطوله الحالي من F-16 والمقاتلة الوطنية قيد التطوير “قآن” (KAAN). فهي تمنح أنقرة قدرة فورية على سدّ فجوة التفوق الجوي إلى حين دخول “قآن” الخدمة الكاملة منتصف العقد المقبل. كما أنها تتيح نقل خبرات تقنية غربية مباشرة إلى الصناعات التركية، خصوصًا في أنظمة الرادار والتسليح والاتصال.
لكن ما يجعلها الخيار الأنسب لأنقرة ليس الجانب التقني فقط، بل موقعها السياسي داخل منظومة حلف الناتو. فبعد تجميد مشاركة تركيا في برنامج المقاتلة الأميركية F-35 عام 2019، وتعثر صفقة F-16 الجديدة بسبب اعتراضات داخل الكونغرس الأميركي، كانت أنقرة بحاجة إلى بديلٍ يضمن استمرار تفوّق سلاحها الجوي، دون أن يربطها بالقيود الأميركية.
جسر أنقرة نحو جيل خامس من القوة الجوية
تُشكِّل صفقة “يوروفايتر تايفون” خطوة محورية في مسار تطور سلاح الجو التركي، إذ تمثّل من الناحية العملية الجسر الانتقالي نحو الجيل الخامس من القوة الجوية، وتسدّ الفجوة التي تفصل بين الأسطول التركي الحالي ومشروع المقاتلة الوطنية “قآن” (KAAN).
فمنذ انسحاب تركيا من برنامج F-35 عام 2019، وجدت نفسها أمام تحدٍّ مزدوج؛ الحاجة إلى الحفاظ على توازن الردع الجوي في محيطٍ إقليمي متوتر، والاستعداد تقنيًا وزمنيًا لمرحلة ما بعد المقاتلات الأميركية، فجاءت “تايفون” لتوفّر حلاً فوريًا يجمع بين الجاهزية التشغيلية الغربية والاستقلال الصناعي التركي.
فعلى الصعيد التقني، تتيح الطائرة لتركيا تطوير منظومة تشغيلية هجينة تُزاوج بين مقاتلات الجيل الرابع المتقدّم والمشاريع المحلية. فهي مزودة بمحركين من طراز EJ200 يمنحانها قدرة فائقة على المناورة، وتكاملها مع أنظمة الرادار والاتصالات الغربية سيُسهم في رفع معايير التدريب والخبرة لدى الطيارين والمهندسين الأتراك، وهي خطوة ضرورية قبل الانتقال الكامل إلى بيئة “قآن” الرقمية.
كما تشكل الصفقة منصة تعليم صناعية تتيح للصناعات التركية الاطلاع على تقنيات المواد المركّبة وأنظمة التسليح الأوروبية، ما يعزز خبرات الشركات الوطنية العاملة في مشروع المقاتلة المحلية ومسيّرات الجيل الجديد مثل “قزل إلما”.
لكن الأهمية الأكبر تكمن في التحوّل العقائدي الذي تشهده عقيدة الدفاع الجوي التركي بعد سلسلة الحروب الإقليمية الأخيرة. فالدروس المستخلصة من حرب أوكرانيا، وهجمات البحر الأسود، والمواجهة القصيرة بين “إسرائيل” وإيران عام 2024، دفعت أنقرة إلى إعادة بناء تصوّرها حول “المرونة الجوية”، أي القدرة على إدارة الصراع من خلال مزيج من المقاتلات المأهولة والطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الذكية.
وبناءً على ذلك، تتجه تركيا إلى بناء قوة جوية هجينة تعتمد على ثلاثة مستويات متكاملة:
– المقاتلات الغربية الحديثة (يوروفايتر) لتأمين الردع السريع ضمن منظومة الناتو.
– المنصات الوطنية مثل “قآن” التي تمثل ركيزة الاستقلال الصناعي والسيادة التكنولوجية.
– المنظومات المسيّرة الهجومية التي تمنح أنقرة تفوقًا عملياتيًا منخفض التكلفة في النزاعات الإقليمية.
في هذا الإطار، يُبرز شراء تركيا لطائرات “يوروفايتر” من قطر وسلطنة عُمان تنسيقًا ثلاثيًا متقدّمًا هدفه تسريع عملية إدماج الطائرة الأوروبية في الاستراتيجية الدفاعية التركية، دون انتظار جداول التسليم الطويلة من التكتل الأوروبي.
فزيارة الرئيس أردوغان إلى الدوحة ومسقط، قبل أيام من زيارة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى أنقرة، كانت جزءًا من خطة ميدانية مدروسة لتأمين الدفعات الأولى من المقاتلات عبر حلفاءٍ إقليميين، ما يضمن تغطية الفجوة الزمنية بين الأسطول الحالي ومشروع “قآن” الذي يُتوقع دخوله مرحلة الإنتاج التسلسلي بعد عام 2030.
من صفقة مقاتلات إلى شراكة دفاعية أوروبية
تشكل هذه الصفقة منعطفًا دبلوماسيًا في علاقة أنقرة بالغرب، إذ تنهي عمليًا سنوات التجميد التي بدأت مع أزمة “إس-400” الروسية وخروج تركيا من برنامج “إف-35”. فبعد أعوامٍ من التوجّس المتبادل، تبدو أوروبا اليوم أكثر استعدادًا لدمج تركيا في هندسة دفاعها الجماعي بدل الإبقاء عليها في موقع المراقب.
ويقوم هذا التحول على منطق الضرورة الاستراتيجية، فأنقرة تمسك بجبهةٍ تمتد من البحر الأسود إلى الشرق الأوسط، وهي بذلك أقرب إلى خطوط التماس مع روسيا وإيران من أي دولة أوروبية أخرى.
وقد لعبت بريطانيا الدور الأبرز في هذا الانعطاف، إذ قدّمت نفسها وسيطًا بين أنقرة وبقية دول الكونسورتيوم الأوروبي، ومهّدت الطريق لتجاوز التحفّظ الألماني الذي حال دون الصفقة لسنوات. فبالنسبة للندن، التي تبحث عن موقع جديد في منظومة الأمن الأوروبي بعد “بريكست”، يشكّل التعاون الدفاعي مع تركيا وسيلة لإعادة فرض حضورها الصناعي والاستراتيجي داخل القارة.
في المقابل، ترى بروكسل أن تعزيز التعاون الدفاعي مع تركيا يخدم رؤية الاتحاد الأوروبي لبناء قاعدة صناعية عسكرية مستقلة. إذ يسعى الاتحاد، منذ إطلاق “الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية المشتركة”، إلى إنشاء بنية تصنيع متكاملة تُغنيه تدريجيًا عن الواردات الأميركية. وهنا تبرز تركيا بقدراتها الإنتاجية وسوقها الكبيرة وخبرتها في صناعة المسيّرات والطيران العسكري كعنصرٍ تكميلي في هذا المشروع الأوروبي الطموح.
في هذا المنحى، تتيح صفقة “يوروفايتر” لتركيا موقعًا داخل سلاسل الإمداد الدفاعية الأوروبية، من خلال شراكات في مجال الرادارات والأنظمة الإلكترونية وأعمال الصيانة الدورية، بما يعيد أنقرة تدريجيًا إلى قلب الصناعة الدفاعية الغربية بعد عقدٍ من العزلة. كما تعزز هذه العودة مكانتها التفاوضية داخل الناتو، وتمنحها هامش حركة أوسع في علاقاتها مع واشنطن وموسكو على حدٍّ سواء.
وهكذا، تحوّلت صفقة الطائرات إلى منصة سياسية لإعادة بناء الثقة بين الطرفين، ورسالة أوروبية مفادها أن الشراكة مع تركيا لم تعد خيارًا بل ضرورة. فالقارة التي تعيد تسليح نفسها في مواجهة تهديدات الشرق تدرك أن استقرارها الجنوبي يبدأ من أنقرة، وأنّ احتواء تركيا بالتعاون الصناعي والتكامل الدفاعي أكثر فاعلية من عزلها بالتحفظات الدبلوماسية.