التعليم في الحسكة ضحية الصراعات السياسية 

توصل ”مجلس الكنائس في الجزيرة والفرات“ إلى اتفاق مع ما يُسمى بــ «الإدارة الذاتية» التابعة لحزب الإتحاد الديمقراطي «PYD» وهي ذراع الحوكمة لـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، من أجل إعادة افتتاح المدارس المسيحية «الخاصة» في الحسكة، على أن تستمر بالتدريس وفق منهاج وزارة التربية السورية. وبهذا، بدأ دوام المدارس اعتباراً من يوم الاثنين 03 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، بعد توقفها منذ أكثر من 45 يوماً، بسبب إغلاق “قسد” لها، حيث قررت “الإدارة الذاتية” فرض منهاجها الخاص «غير المُعترف به»، عوضاً عن منهاج وزارة التربية والتعليم الحكومية.

وأكد مجلس الكنائس في بيان له أن الاتفاق جاء بعد عدة لقاءات ومشاورات مع هيئة التربية في الإدارة الذاتية، معربًا عن شكره للجهود المبذولة من جميع الأطراف، لا سيما مظلوم عبدي قائد ميليشيا “قسد”.

وبحسب مصادر خاصة لــ «نون بوست» فقد اشترطت “قسد” عدم قبول الطلاب العرب في هذه المدارس، وستبقى حكراً للطلاب المسيحيين فقط، بينما سيتواصل منع المناهج الحكومية في جميع مدارس الجزيرة بمحافظاتها الثلاثة (الحسكة، الرقة، دير الزور) والتي يُفرض فيها منهاج الإدارة الذاتية غير المُعترف به.

وكانت مديرية التربية التابعة لـــ «الإدارة الذاتية» قد حَظرت في أواخر سبتمبر الماضي تدريس المناهج التعليمية الصادرة عن وزارة التربية والتعليم السورية في المدارس الموجودة ضمن المربعات الأمنية للنظام المخلوع في مدينتي الحسكة والقامشلي، تلاها استيلاء “قسد” على مباني كليات “جامعة الفرات” في الحسكة، وعلى مبنى مديرية التربية الحكومية.

وفي تاريخ 30 سبتمبر الماضي، أغلقت “قسد” جميع المدارس الخاصة بالمسيحيين (سريان وأرمن وأشوريين وكلدان) في مدن الحسكة والقامشلي والمالكية، واقتحمتها عنوةً، بعد إصرار رؤساء الكنائس المسيحية على تدريس المنهاج الحكومي السوري، ورفضهم لمنهاج «الإدارة الذاتية» والذي يُوصف بالمؤدلج بأفكار حزب العمال الكردستاني «PKK» وغير المُعترف به. قرار أحدث ضجة كبيرة في الحسكة وكان له تداعيات كبيرة.

قرارات الإغلاق طالت عددًا من المدارس والمعاهد الخاصة في الحسكة، منها مدارس تعود للطوائف المسيحية مثل مدرسة مار قرياقس (السريان الأرثوذكس)، والسلام (الأرمن الكاثوليك)، وميسلون (البروتستانت)، وفارس الخوري (الآشوريين)، والاتحاد (الأرمن الأرثوذكس)، بالإضافة إلى (مدرسة الأمل) التابعة للكنيسة السريانية الأرثوذكسية.

عمليات إغلاق المعاهد الخاصة شملت كذلك عدداً منها في مدينة الرقة، وقامت “قسد” بإعتقال عشرات الطلاب من داخلها في سبتمبر المنصرم، وتحويل أعداد من الطلاب لمقرات الشرطة العسكرية التابعة لها لاقتيادهم للتجنيد الإجباري.

وقد وجهت الكنيسة السريانية الأرثوذكسية اتهامًا صريحًا لـ “قسد” بإغلاق هذه المؤسسات عقب رفضها اعتماد المناهج الدراسية التي تفرضها الإدارة الذاتية في منطقة الجزيرة. وفي سياق تلك الحادثة، صرّح المطران مار موريس عمسيح، مطران أبرشية الجزيرة والفرات للسريان الأرثوذكس، بتاريخ 7 من أكتوبر المنصرم لوكالة (سانا): ”إن الأبرشية ترفض بشكل قاطع فرض مناهج “قسد” أو أي مناهج غير معترف بها رسميًا، مؤكدًا أن نحو 35 مدرسة تابعة للطوائف المسيحية لن تعتمد سوى المنهاج الصادر عن وزارة التربية السورية والمعترف به دوليًا”.

وأوضح المطران أن الحوار مع “قسد” استمر لأكثر من شهر، حيث تم طرح خياريْن فقط على المدارس، هما اعتماد منهاج “الإدارة الذاتية” أو منهاج “اليونيسف”، دون الحصول على ترخيص رسمي من دمشق، وهو ما اعتُبر أمرًا مرفوضًا تمامًا لكونه يهدد مستقبل الطلاب ويعرض تراخيص المدارس للفقدان“. يُذكر أن بعض مدارس الأبرشية لها تاريخ يتجاوز 100 عام، وتعتمد الشهادات السورية الرسمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وتستقبل طلابًا من مختلف المكونات السورية.

على إثر هذه القرارات انعقدت عدة اجتماعات بين رجال الدين المسيحي وبين مسؤوليين عسكريين من“ قسد” ومن مسؤولي «الإدارة الذاتية» في الحسكة، وكانت فاشلة بجميعها وأفضت عن رفض “قسد” بشكل نهائي بتدريس المناهج الحكومية، وهددت بالاستيلاء على المدارس المسيحية بالقوة، حيث انسحب الوفد المسيحي احتجاجًا على طريقة التعامل “المسيئة” التي تعرضوا لها من قبل ممثلي “قسد”.

حيث أبدى الأهالي من الطوائف المسيحية رفضهم القاطع لمناهج الإدارة الذاتية المفروضة لافتقارها إلى الدقة والمعايير العلمية وعدم اعتراف أي جهة رسمية أو دولية بها، معتبرين إغلاق مدارس الكنائس محاولة لقمع نشر ثقافتهم وتهجيرهم. وتصاعدت حدة الاحتجاجات، حيث أصدرت جهات مسيحية، منها “الحزب الآشوري الديمقراطي”، بيانات استنكار شديدة اللهجة، طالبت بوقف فوري لقرارات الإغلاق، وإعادة فتح المدارس الخاصة، واحترام حق المكونات في تقرير سياستها التعليمية والثقافية بما يضمن استمرارية التعليم بمناهج معترف بها لحين التوصل إلى منهاج وطني موحد.

ومع تلويح ”مجلس الكنائس في الجزيرة والفرات“ بالتصعيد حيال هذا الموضوع، رضخت “قسد ” في بداية نوفمبر بعد أجتماع عُقد في الثاني من الشهر جمع بين قيادات من الميليشيا على رأسهم «مظلوم عبدي» مع وفد من رجال الدين المسيحيين بالقامشلي، انتهى بالتوافق على إعادة فتح المدارس المسيحية (الخاصة).

بداية الأزمة 

قرارات مَنع التعليم بالمنهاج السوري ليست بجديدة في مناطق «الجزيرة» التي تسيطر عليها “قسد”، وتكاد تكون هذه الأزمة متجددة بشكل دوري وحديث الشارع، وتُلقي بظلالها على حياة السكان هناك. بدأت «الإدارة الذاتية» بمنع وحظر التدريس بالمناهج الحكومية في ”الجزيرة وريف حلب“ في العام 2020، وفرضت منهاجاً خاصاً بها أثار الجدل واللغط حول ماهيته، إذا يراه متخصصون بأنه لايرقى بأن يكون منهاجاً تعليمياً كون المحتوى عبارة عن تجسيد لأفكار ماركسية وشيوعية تحاكي منطلقات حزب العمال الكردستاني «PKK» وتُمجد عبد اللّه أوجلان متزعم التنظيم والمعتقل في السجون التركية.

واقتصر آنذاك عمل المدارس التي تُدرس المنهاج الحكومي على “المربعات الأمنية” التي كان يسيطر عليها النظام المخلوع في الحسكة والقامشلي ونحو 60 قرية وبلدة محيطة بهما، حيث شهدت تلك المدارس أزمة غير مسبوقة من حيث استيعابها لما يقارب الربع مليون طالب من مختلف المكونات، وبحسب تصريح سابق لمديرة التربية سابقاً في محافظة الحسكة، إلهام صورخان، فإن أكثر من 95% من مدارس الحسكة غير تابعة للمديرية، وهيمنت عليها “قسد” وفرضت فيها مناهجها الخاصة، ويبلغ عدد الطلاب في الحسكة من الحلقة الأولى والثانية والمرحلة الثانوية بأنواعها 167 ألفًا و460 طالبًا، وفق تصريح صاروخان في العام 2024 لصحيفة “ الوطن”.

بالعودة لقرار “قسد” بإغلاق ماتبقى من المدارس في الحسكة، فقد دفع هذا القرار العشرات من العوائل في المحافظة لتركها، والانتقال إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية كدمشق وحلب، بهدف الحفاظ على مستقبل أطفالهم التعليمي عبر تأمين مقعد دراسي لهم في مدرسة تعتمد المنهج الحكومي، ومن بين هؤلاء كذلك عوائل كردية إيضاً، وسيشكل قرار عودة فتح المدارس المسيحية مجدداً صعوبة لبعضهم بالعودة للحسكة بعد استقرارهم بمناطق جديدة. مما يعكس كارثية الوضع في الجزيرة التي وقع سكانها ضحية الحسابات السياسية.

وكانت الإدارة الذاتية قد فرضت بحدود العام 2020 مناهجها الخاصة في المناطق التي تسيطر عليها بدير الزور والحسكة والرقة وريف حلب، إلا أن المنهاج قوبل بالرفض من قبل بعض السكان، وشهدت المنطقة طوال السنوات الماضية احتجاجات ضد هذا المنهاج، على غرار دير الزور ومنبج آنذاك، على إثرها تم تدريس منهاج ثالث وهو منهاج اليونيسيف في بعض تلك المناطق، في دلالة على الفوضى التعليمية الحاصلة في الجزيرة، والتي يُدرس فيها اليوم (4) مناهج، هي منهاج “الحكومة السورية” ومنهاج “قسد” ومنهاج منهاج الحكومة السورية المؤقتة في منطقتي تل أبيض ورأس العين، ومنهاج اليونيسيف في دير الزور ومخيم «الهول» شرقي الحسكة.

يقول صالح الحمد وهو مُدرس من دير الزور: “هناك رفض شامل من قبل المعلمين والأهالي في مناطق الجزيرة لمناهج الإدارة الذاتية، حيث يرون أن هذه المناهج لا تمثلهم ولا تعكس هويتهم العربية والإسلامية، خاصة وأنها تضمنت مواد تتحدث عن فلسفة متزعم حزب العمال الكردستاني «PKK» عبد الله أوجلان وتقارن مؤسس الديانة البوذية بالرسول محمد ﷺ، وتتناول كذلك مفاهيماً لا تتوافق مع القيم العربية. يضاف لهذا قناعة الأهالي بأن هذه المناهج بلا مستقبل للطلاب أكاديمياً في ظل عدم وجود اعتراف رسمي محلي أو دولي بالشهادات التي تمنحها “الإدارة الذاتية”، مما يهدد فرص الأبناء في إكمال تحصيلهم الجامعي”.

يوصف هذا التصعيد الأخير من قبل “قسد” أنه نوع من الضغط على الحكومة السورية، من أجل دفعها للاعتراف بمناهج «الإدارة الذاتية» وبالشهادات الصادرة عنها خلال السنوات الماضية.

ومع توقيع اتفاق 10 آذار بين الرئيس السوري «أحمد الشرع» وبين «مظلوم عبدي» متزعم «قسد» ظن سكان الجزيرة أن الأمور ستسير نحو الحل ونحو الاستقرار، لكن ما حصل بعدها كان مزيداً من التصعيد والمماطلات، وبقي الاتّفاق لليوم حبيس التصريحات الصحفية فقط. و​لم يغير كذلك إجراء امتحانات الشهادات العامة “البكالوريا والتاسع” للمناهج الحكومية في مدينتي الرقة والحسكة من هذا الواقع الجديد، فتصعيد “قسد” الأخير إزاء المدارس المسيحية ماهو إلا جزء من تصعيدها الشامل منذ سقوط النظام في الجزيرة، والهادف لترسيخ نفسها كسلطة أمر واقع تود الحفاظ على المكتسبات التي حققتها منذ 2015.

وما زالت محافظات الجزيرة لليوم تعيش تحت وطأة الاعتقالات اليومية من قبل “قسد” والحشود العسكرية وحفر الانفاق في إجراءات توحي بأنها جبهة قتال وليس ترتيبات إندماج ضمن الدولة السورية. ومع هذا السجال الحاصل بين “قسد” والحكومة السورية يقع أهالي الجزيرة بين المطرقة والسندان، ومؤخراً قامت القوات الحكومية بإغلاق جميع الطرقات الواصلة بين «الرقة» وبقية المحافظات، عبر إغلاق طريق «إثِريا» بريف حماة الشرقي، وطريق «دير حافر» شرقي حلب، حيث مازالت مغلقة للشهر الثاني توالياً مما خلق مشاكل جديدة للمدنيين القادمين من «الجزيرة» والذين ناشدوا الحكومة السورية بإعادة فتح طريقي إثريا ودير حافر أمام حركة المواطنين، كون طريق دير الزور- تدمر مسافته طويلة وغير آمن لغاية اليوم ومعروف بكثرة حوادثه، لذلك لا تستخدمه غالبية شركات النقل.

يُذكر أن مئات المواطنين المسافرين والقادمين من الجزيرة أغلبهم مرضى وطلاب جامعات ومدارس ويتوجهون يومياً من مناطق سيطرة “قسد” إلى العاصمة دمشق ومدن أخرى، وكذلك يسافر آخرون بهدف استخراج جوازات السفر والوثائق الرسمية بسبب إغلاق “قسد” مؤسسات الدولة في مناطق الجزيرة.