التسلح في شبه القارة الهندية.. العيش في ظلال سحابة نووية

“إن كانت أيّ أمة دائبة-شغفًا بالسلطة-على مضاعفة أسلحتها على حساب روحها، فإنها هي التي تكون عرضة لخطر أكبر بكثير من تلك التي التي يتعرض لها أعداؤها”. كانت تلك كلمات الشاعر البنغالي “طاغور” والتي تتشارك ثقافيًا كل دول شبه القارة الهندية إلى درجة أن نشيد الهند الوطني وبنغلاديش كليّهما من كلماته.
في مطلع القرن العشرين كان طاغور شغوفًا باليابان شعبًا وإمبراطورية صاعدة، لكن رغم ذلك الحب والشغف، وجه طاغور تلك الكلمات إلى اليابان واندفاعها نحو النزعة القومية الموسعة الشاملة، حيث شعر بمقدار كبير من الانزعاج إزاء انحرافها عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية نحو العسكرة القائمة على العدوان. لو قُدر لطاغور أن يعيش في القرن العشرين، فربما لن يعرف إلى أي بلد بالتحديد ينتمي، من بلاد الراج البريطاني، ولكنه سيكون نابهًا بدرجة كافية إلى أن يوجه ذاك النقد ذاته إلى نزعة العسكرة التي أكلت روح بلديّ الهند وباكستان، في سباق محموم، يحمل مضماره زرًا نوويًا قد يضغطه أحد البلديّن في لحظة تهور لتحيل أكبر منطقة حاوية للسكان في العالم إلى جحيم أرضيّ.
فعلى مدار عقود، خيضت جولات من حربٍ بين البلديّن بسبب إقليم كشمير، لم تكن تلك الحروب كبيرة بما يكفي لتضع العالم على الحافة النووية، ولكنها لم تكن صغيرة بما يكفي لكيّ بتجاوزها البلدان ويعتبراها شيّئًا من الماضي، فحالة كشمير وُلدت بميلاد البلديّن عام 1947، وتطورت لإنشاء خط السيطرة الجدلي عام 1972، والمرارة الباكستانية تجاه الهند التي تدخلت لدعم استقلال بنغلاديش عام 1971، لكن جولة “حرب كارجيل” التي وقعت عام 1999، كانت الإنذار الأول للعالم، بما يمكن أن تفعله تطورات حرب كتلك بين البلديّن، حيث وضعت العالم على الحافة النووية مجددًا، ولكن معها، ولدت ما باتت تُعرف بسياسات الردع النووي بين البلديّن، وأيضًا زادت النزعة العسكرية التي وصلت إلى آفاقها في عام 2019، حيث التقت الصين وباكستان في شراكة ستضع الكثير من الضغط على جارتهما، العدوة، الهند.
إنفاق مهول وتناقض جوهري
إن كان لصراع التسلح المحموم في شبه القارة الهندية أن يعكس شيئًا أكثر من حالة العداء المستحكمة والتاريخية بين البلديّن، فسيكون هو مدى تضارب المصالح في منظمة “بريكس”، التي يبدو من الواضح أنها لم تصل إلى أجندة أمنية واحدة مشتركة، حيث يلعب البلديّن روسيا والصين، الدور الأهم في إمداد نيران الحرب بين الهند وباكستان، بالحطب المطلوب، والتناقض الآخر الكامن في كيف يبتلع الإنفاق العسكري أموالًا كان بإمكانها أن تساعد في التغلب على كثير من المشاكل الاجتماعية التي تعوق عملية التنمية في باكستان بالأخص، ومناطق من الهند الفيدرالية.
في تقرير معهد ستوكهولم للسلام (سيبري) الصادر عام 2024، تظهر الهند كالمنفق العالمي الخامس على السلاح والجيش بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا، حيث بلغت ميزانيّتها العسكرية 83.6 مليار دولارًا، في سعيّها لتأمين جبهتها ضد الخطر الصيني والباكستاني. يُعد هذا الرقم من الناتج المحلي الإجمالي ما نسبته 2.3%، ويستحوذ على نسبة 3.2% من الإنفاق العالمي العسكري أجمعه، وقد زادت الهند من إنفاقها العسكري بمقدار 1.6% مقارنة بعام 2023، وبزيادة قدرها 42% عمومًا مقارنة بعام 2015. وتُعد الهند واحدة من أكبر مستوردي الأسلحة في العالم، ولذلك، خصصت 22% من إنفاقها العسكري لتمويل المشتريات العسكرية المحلية وتعزيز الإنتاج المحلي، وفي هذا الصدد استطاعت تحقيق تقدمًا كبيرًا على مر السنوات، حيث أصبحت تمتلك القدرة على إنتاج المركبات المدرعة والمروحيات والغواصات، إلا أنها ما زالت تستورد بعض الأنظمة الأكثر تقدمًا مثل الطائرات المقاتلة.
تُعد روسيا العمود الفقري لسلاح الجو الهندي، وهي المورد الأكبر للهند في السلاح عمومًا، كما أنها تستحوذ على 50% من المنصات العسكرية الهندية العاملة. تستورد منها الهند مقاتلات سوخويّ سو-30 ونظام الدفاع الجوي المتقدم إس-400 وكذلك دبابات تي-90، وبعض الفرقاطات، وتأجير غواصات نووية. لقد كانت روسيا على الدوام المعاون الأكبر للهند في امتلاكها السلاح النووي منذ تجارب العام 1974، وقد ظل هذا التعاون قائمًا حتى بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث استطاعت الهند أن توازن علاقتها جيدًا بين روسيا وشركاؤها الغربيين، وأعلنت اتفاقية لبناء ست محطات نووية في مدينة تاميل نادو في عام 2024. كانت نسبة الصادرات العسكرية الروسية إلى الهند بين عاميّ 2009-2013 هي 76% لكن النسبة انخفضت إلى 36% بين عاميّ 2019-2023، رغم ذلك تظل الأكبر، وانخفاضها يُعزى إلى نجاح ونمو سياسة “صُنع في الهند” العسكرية.
رغم ذلك برزت فرنسا كشريك رئيسي أيضًا للهند، ويُنظر إلى أن المستقبل في واردات السلاح الهندية سيكون أكثر اعتمادًا على الشركاء الغربيين في الأسلحة الثقيلة بدلًا عن روسيا، حيث صدرت فرنسا 36 مقاتلة رافال حاملة للصواريخ النووية وغواصات سكوربيّون، وإسرائيل بالنسبة للهند هي المصدر الرئيسي للتكنولوجيا الفائقة والدرونز من طراز “هيرون” وأنظمة الرادار وأنظمة دفاع جوي وصواريخ جو-جو.
من ناحية أخرى تقبع باكستان في المرتبة 29 في تقرير (سيبري) حيث تُنفق على ترسانتها العسكرية ما معدله 10.2 مليار دولار، ولكنه يُعد كبير قياسًا بالناتج المحلي الإجمالي الذي تبلغ نسبته 2.7% ويُشكل عبئًا هائلًا على اقتصادها المتعثر.
لكن لباكستان سمة أخرى تتمثل في كونها قد ارتفعت وارداتها من الأسلحة بنسبة 61% بين 2015-2019 و 2020-2024 مما يجعلها خامس أكبر مستورد للأسلحة في العالم، وقد زودت الصين الحصة الأكبر من واردات باكستان من الأسلحة الثقيلة في جميع الفترات الخمسية منذ 1990-1994، قبل أن يزيد هذا التقارب بشكل أقرب في سنة 2019، حتى استمرت تلك الحصة في النمو لتصل إلى أن تزود الصين باكستان بـ 81% من واردات أسلحتها بين عاميّ 2020-2024مقارنة بـ 74% بين عاميّ 2015-2019، وتلك الحصة ذاتها تمثل 63% من وارادات أسلحة الصين المُصدرة.
منذ عام 2019 وجد البلدان منطقًا جيواستراتيجيًّا يحثهما على التقارب والتعاون في وجه الجارة لكليّهما، العدوة الهند. تعمل الشراكة الاستراتيجية الصينية على تحويل باكستان إلى أكثر من قوة إقليمية، بحلول عام 2049. ففي هذا الإطار، أدى التوافق الجيواستراتيجي بين البلديّن إلى التحويل من المشتريّات إلى الإنتاج المشترك والبحث والتطوير المشترك، وفي إطار الاستيراد الباكستاني للسلاح الصيني، فإن باكستان تحصل على أنظمة أرخص نسبيًّا من بقية الدول، وامتيازات مالية على فواتير المشتريات الدفاعية من الصين.
تُزود الصين باكستان بالطائرات المقاتلة من طراز جي إف-17 و جي إف-10 بالإضافة لسلاسل إمداد دفاعية متوافقة للمدفعية وأنظمة اتصالات ومعلومات شبكية. كذلك تُشكل صواريخ سام أرض-جو من طراز إتش كيو-9\ب صينية المنشأ، وإل واي-80 متوسطة المدى، وإف إم-90 قصيرة المدى، أحد ركائز الدفاع الجوي المتعدد الطبقات لباكستان. وفي تحديث أسطولها البحري، اعتمدت باكستان على صواريخ كروز المضادة للسفن سي-802، وكذلك الغواصات الهجومية من طراز 039أ المدعومة بنظام دفع مستقل عن الجو ونظام منع الوصول\منع الدخول A2AD.
وتعد طائرة جي إف-17 هي ثمرة الشراكة البحثية والتطويرية بين البلديّن، وهي طائرة متعددة الأدوار من الجيل الرابع. من ناحية أخرى تزود تركيا باكستان بمسيّرات “بيرقدار تي بي-2” وسفن حربية كالكورفيت.
رغم أن الاقتصاد الهندي يشهد حالة من النمو الثابت، إلا أن الهند ما زالت واحدة من الدول التي تحوي أكبر عدد من الفقراء والمهمشين في العالم، وتواجه مشكلات في دعم نظام الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة، ومهمة رفع ملايين من السكان إلى مصاف الطبقة الوسطى كنظيرتها الصين. لذلك يُوجه دائمًا النقد إلى ازدياد نزعة العسكرة لدى الهند، والأموال التي كان يُمكن أن تُوجه إلى مجالات اجتماعية أخرى. لكن من ناحية أخرى يبدو أن الإنفاق العسكري تكلفته أعلى على الجارة باكستان، التي تعاني بانتظام في ميزان المدفوعات وارتفاع التضخم وتعتمد على قروض صندوق النقد الدولي بينما تستمر في تطوير برامج صاروخية ونووية. يبدو لافتًا للأنظار الرقم الذي كان من الممكن أن تجنيه البلدان من “ثمار السلام” إذا وجدت، ففي تقريره عام 2019، قدر البنك الدولي أن البلدان اللذان يجنيّان من التجارة المتبادلة ما مقداره 2.4 مليار دولار كان بإمكانهما دون كثرة الحواجز الجمركية، أن يجنيّا 37 مليار دولار سنويًا من تجارتهما.
الشموس الألف
اقتبس روبرت أوبنهايمر، المولع بالثقافة الهندية، والمتحدث الكفوء بالسنسكريتية، اقتباسًا من البهاغافاد غيتا تعبيرًا عن نشوته بإنجاز القنبلة وهو يتابع الانفجار المالئ الأجواء في صحراء أوسكورو في الولايات المتحدة قائلًا “شروق ألفٍ من الشموس، انفجر في السماء”. وتابع “لقد أصبحتُ الموت، عامل تدمير العوالم”. في يوميّ 11 و 13 مايو 1998 سطعت الشموس الألف في شبه القارة الهندية بعد خمسة تفجيرات هندية في بوخران أعقبها ستة تفجيرات باكستانية فوق تلال تشاغاي في الشهر التالي، وباتت شبه القارة أسيرة مجابهة نووية مكشوفة متنكرة في إهاب مزيد من التمكين لكل من البلدين، كما يرى الفيلسوف الاقتصادي الهندي “أمارتيا سِن”.
يكشف تقرير “اتحاد العلماء الأمريكيين” عن الأسلحة النووية في الهند لعام 2024، بعضًا من الأرقام والاحصائيات الهامة. رغم أن الهند تمتلك مخزونًا نوويًا أقل من الرؤوس النووية لدى القوى العظمى، يُقدر بـ172 رأسًا نوويًا إلا أن ذلك المخزون قد شهد زيادة تدريجية خلال السنوات الماضية بنحو 10 إلى 20 رأسًا سنويًا تقريبًا. ويتنوع ذلك المخزون ليُعطي الهند قدرة على تطوير “ثالوثًا من الردع النووي” يشمل صواريخ باليستية أرضية مثل صواريخ “أجني” وطائرات مثل سوخوي سو-30 ورافال، وغواصات حاملة للصواريخ الباليستية.
استطاعت الهند أيضًا أن تمتلك قنابل هيدروجينية ذات قدرات حرارية أعلنت أنها نجحت في اختبارها خلال تجاربها دون تفاصيل دقيقة. تشتمل الترسانة النووية الهندية كذلك على صواريخ باليستية أرض-أرض تغطي مدىً من مئات إلى أكثر من 5000 كيلو متر، ونظام صواريخ كروز أرض-أرض قابل للحمل النووي، وطائرات مقاتلة قادرة على حمل رؤوس نووية بما في ذلك طائرات استراتيجية ومقاتلات متوسطة المدى، كذلك تمتلك الهند غواصات نووية من فئة “أريهانت” حاملة لصواريخ باليستية مثل ك-15 وأخرى قيد التطوير ذات مدى أطول مثل ك-4 لتعزيز الردع البحري. وتواصل الهند تطوير ردعها النووي واضعة في الاعتبار ليس فقط جارتها باكستان، بل الصين أيضًا والتي يبدو العداء معها قابل للتفجر في أي لحظة، وقد اختبرت الهند بالفعل في سبتمبر 2025 صاروخ من طراز أجني-5 قادر على حامل رأس نووي مباشرةً للصين.
من ناحية أخرى، تقدر نشرة العلماء الذريين لعام 2025، أن المخزون الباكستاني من الرؤوس النووية لم يرتفع منذ تقديرات عام 2023 وهو المُقدر بـ 170 رأس نووي مع توقعات بإمكانيات وصولها إلى 200 في نهاية عشرينيات القرن الحالي، حيث بدأت باكستان تطوير العديد من أنظمة التوصيل الجديدة وأربعة مفاعلات لإنتاج البلوتنيوم وبنية تحتية واسعة لتخصيب اليورانيوم. يُنظر إلى المفاعل النووي الباكستاني قيّد الإنشاء، ضمن سلسلة أربعة مفاعلات لإنتاج البلوتونيوم بالماء في الثقيل في مجمع خوشاب شرعت باكستان ببناء ثلاثة منهم آخر خمسة عشر عامًا، يُنظر إليه بصفته أنه سيكون ضعف قوة المفاعلات الثلاثة الأخرى تقريبًا.
لا يُمكن رصد التطورات الباكستانية النووية بسهولة بسبب النظام الديكتاتوري، لكن منذ بداية عام 2024 قدرت اللجنة الدولية للمواد الانشطارية أن باكستان لديها مخزون يبلغ حوالي 5300 كيلو غرام من اليورانيوم عالي التخصيب الصالح للاستخدام في الأسلحة، وحوالي 580 كيلو غرامًا من البلوتنيوم الصالح للاستخدام في الأسلحة. وُتعد تلك الكمية كافية نظريًا لإنتاج ما يصل إلى 211 إلى 453 رأسًا حربيًا أحادي المرحلة قائمًا على اليورانيوم عالي التخصيب، و96 إلى 116 رأسًا حربيًا أحادي المرحلة قائمًا على البلوتنيوم، أو ما مجموعه افتراضيًا 308-569 رأسًا حربيًا. مع الأخذ في الاعتبار أن حساب حجم المخزون بناء على مخزون المواد الانشطارية فقط هو منهجية تميل إلى المبالغة في تقدير عدد الرؤوس المحتمل إنتاجها. لذلك تميل نشرة العلماء الذريين إلى تقدير النمو النووي الباكستاني بين 8 إلى 10 رؤوس نووية في السنة.
تحوز القوة الباكستانية سربًا من الطائرات ميراج 3 وميراج 5 قادرة على حمل الأسلحة النووية، كذلك تمتلك باكستان قوة صاروخية تتمثل في صاروخ رعد ثنائي القدرة الذي يُطلق جوًا والذي تم اختباره سبعة مرات من قبل على الأقل، كان آخرها في فبراير 2020. وتُصرح الحكومة الباكستانية بأن رعد يستطيع إيصال رؤوس حربية نووية تقليدية بدقة عالية إلى مدى 350 كيلو مترًا. أما صاروخ رعد-2 فيقدر على الوصول إلى أهداف على بعد 600 كيلو متر، وقد عُرض الصاروخان في عرض اليوم الوطني عام 2024، إضافة إلى أنها تمتلك نحو 50 منصة إطلاق صواريخ أرض-أرض، كذلك تمتلك باكستان صاروخ حتف-9 الذي يُمثل عمقًا للترسانة النووية الباكستانية قصيرة المدى، يتساوق صاروخ حتف-9 وعقيدة تطوير الأسلحة النووية التكتيكية لدى باكستان، حيث تم تصميم هذا السلاح خصيصًا لمواجهة عقيدة البداية الباردة الهندية التي تفترض شن هجوم بري سريع ومحدود داخل باكستان، وتكمن خطورة صاروخ حتف أنه يطمس الخط الفاصل بين الحرب التقليدية والنووية، ويزيد من خطر سوء التقدير والتصعيد السريع من مواجهة محدودة إلى حرب نووية شاملة.
رغم تلك القوة المتكافئة، أو بسببها، خلصت إحدى الدراسات من مركز ستيمسون للدراسات الأمنية عن حرب الـ 88 ساعة التي اندلعت بين البلديّن في مايو 2025، أن الإشارات النووية العلنية كانت أقل مما كانت عليه في العديد من الأزمات الهندية الباكستانية السابقة، لكن الأزمة تؤكد أن جنوب آسيا هي واحدة من المسارح الأكثر احتمالًا للحرب النووية، حتى لو لم يكن هذا الاحتمال وشيكًا في هذه الحالة.
لا تتصادم العقيدة النووية لدى البلدين، فكلاهما يعتبرانه كسلاح للرد أكثر من الهجوم، ولكن بدا أن تلك العقيدة بدأت في التغير تحت ضغط الصراع في السنوات الأخيرة، ولكن، بينما يُرى في الردع النووي وسيلة للسلام البارد، إلا أن خطر الحرب النووية بالصدفة في شبه القارة الهندية أكبر منه في الحرب الباردة بالذات، ولا يعود السبب في ذلك لمجرد كون الضوابط وأشكال التحكم أكثر رخاوة وحسب، بل ولأن المسافات الفاصلة بين الهند وباكستان أقصر من أن تتيح أي فرصة للكلام لدى نشوء أزمة والخوف من حصول ضربة أولى.
هناك حاجة لتقويم ما إذا كان السلام الذي تمتع به العالم في ظل الردع النووي إبان الحرب الباردة الكوكبية قابلًا في الحقيقة للتنبؤ وراسخًا وسببيًّا وعلميًّا، كما يرى الفيلسوف “أمارتيا سِن”، فبينما ظل الدفاع عن توازن الرعب كافي الوضوح مدة طويلة، تجلى بأبلغ صوره في خطاب تشرشل الأخير أمام مجلس العموم في مايو 1955 لعباراته الطنانة الساحرة عن الموضوع، حيث قال “ستكون السلامة البنت القوية للرعب، وسيكون البقاء الأخ التوأم للإبادة”. إلا أن تشرشل نفسه أتى فعلًا على ذكر استثناءات لهذه القاعدة، حين قال بأن منطق الردع “لا يغطي حالة المجانين أو الحكام الدكتاتوريين من نمط هتلر حين وجد نفسه في خندقه الأخير”. وفي حالة شبه القارة الهندية، فهي ولا شك حبيسة بين توأميّن أحدهما عسكري دكتاتوري، والآخر مجنون.
في مناخ كهذا، تعيش شبه القارة الهندية في ظل نبؤة مشؤومة للروائية الهندية أرونداتي رويّ، تقول “مدننا و غاباتنا، حقولنا وقرانا ستظل تحترق أيامًا. الأنهار ستغدو سمومًا. الهواء سيصبح نارًا. ستتولى الرياح نشر ألسنة اللهب. وعندما يكون كل ما هو قابل للاحتراق قد احترق ولفظت النيران أنفسها، سيتصاعد الدخان ويحجب الشمس”. يمكننا أن نقول، أن مأساة القارة الهندية في واقعيّتها، تُشبه كثيرًا مأساة “أطفال منتصف ليل” سلمان رشدي في واقعيّتها السحرية، أو بإستعارة كلمات تيم مارشال في كتابه سجناء الجغرافيا، نقول “يمكن للهند وباكستان أن تتفقا على شيء واحد يتلخص في أن لا أحد منهما يريد الآخر، وتلك مشكلة عويصة إلى حد ما نظرًا لانهما يشتركان في حدود طولها 1900 ميل”.