ديك تشيني: غراب الموت الناعق باسم العراق في البيت الأبيض

أُعلن مساء الاثنين، الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2025، عن رحيل أحد أبرز صقور السياسة الأمريكية، ريتشارد (ديك) تشيني، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين عامًا بعد صراع طويل مع أمراض القلب والرئة. لم يكن تشيني مجرّد سياسي مرّ في المشهد الأمريكي، بل كان أحد مهندسي العصور المظلمة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، والرجل الذي ظلّ اسمه يتردّد في ذاكرة العراقيين منذ عهد بوش الأب وصولاً إلى بوش الابن، كلّما ذُكرت الحروب أو الحصار أو الاحتلال.
ترددت طويلًا قبل أن أكتب عن وفاته. فمثل هذه الشخصيات لا تُرثى، بل تُراجع. غير أنّ غياب الذاكرة هو الوجه الأخطر من غياب الوعي، ومن هنا وجدت أن من الواجب أن أستعيد مع القارئ العراقي والعربي ملف هذا الرجل الذي مثّل الغراب الأمريكي الناعق بالموت فوق سماء العراق، منذ نهاية الثمانينيات حتى بداية الألفية الجديدة.
تشيني لم يكن مجرد مسؤول نفّذ سياسة، بل كان العقل الذي نظّر للهدم باسم الأمن، وبرّر الغزو باسم الحرية. فمنذ أن قاد وزارة الدفاع أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991، بدأ في رسم ملامح استراتيجية جديدة عنوانها “إضعاف العراق إلى الحدّ الذي لا يعود فيه دولة”.
قال بعد الحرب في أحد لقاءاته التلفزيونية: “لقد أنهينا المهمة. ليس من الحكمة أن نخسر مزيدًا من الجنود الأمريكيين من أجل إسقاط صدام، المهم أن نبقيه تحت السيطرة.” ومن هذه الجملة وُلدت أول خيوط المأساة التي ستمتدّ لاثني عشر عامًا من الحصار، لتنتهي عام 2003 بغزوٍ دمّر الدولة والمجتمع.
في هذا المقال أحاول أن أفتح هذه الصفحة بعيون التاريخ، لا بعيون الغضب، لنفهم كيف صاغ تشيني الأكذوبة الكبرى التي أدّت إلى خراب العراق، وكيف تحوّل من رجل إدارة إلى غرابٍ ناعقٍ بالدمار في أروقة البيت الأبيض.
ديك تشيني بعد حرب الخليج: هندسة الحصار وبذور العداء (1991 – 2001)
مع نهاية حرب الخليج الثانية عام 1991، بدا العراق كجسدٍ أنهكته الضربات الجوية، لكنه لم يُسقط النظام. أما في واشنطن، فقد بدأ نوع آخر من الحرب — حرب الحصار والعقوبات، التي أراد تشيني أن تكون “مستمرة وفعّالة”.
كان وزيرًا للدفاع آنذاك في إدارة جورج بوش الأب، وقد خرج من تلك الحرب وهو مقتنع بأن العراق لا يجوز أن يُترك ليستعيد قوّته. في إحدى جلسات مجلس الأمن القومي قال عبارته التي تلخص عقيدته: “ترك صدام في الحكم يبدو استقرارًا مؤقتًا، لكنه في الحقيقة وهمٌ خطير.”
بهذه الفلسفة تأسّس ما عُرف لاحقًا بسياسة “الاحتواء المزدوج”، التي لم تكن سوى غطاء لحصار شامل أنهك المجتمع العراقي وأعاد العراق عشرات السنين إلى الوراء. فالعقوبات التي فُرضت عام 1991 استمرت حتى 2003، وحرمت العراق من استيراد الغذاء والدواء والتقنيات الحيوية، مما أدى — بحسب تقارير اليونيسيف — إلى وفاة مئات الآلاف من الأطفال بسبب الجوع والأمراض.
رغم مغادرته وزارة الدفاع عام 1993، بقي تشيني حاضراً في المشهد من موقعٍ آخر: عالم الشركات النفطية والعسكرية. تولّى عام 1995 رئاسة شركة هاليبرتون للطاقة والخدمات الهندسية، التي ستغدو لاحقًا الذراع الاقتصادية للحرب الأمريكية في العراق.
في تلك السنوات كان يرفض أي حديث عن رفع العقوبات، معللاً ذلك بأن “هدف الحصار ليس معاقبة الشعب العراقي، بل ضمان ألا يهدّد صدام المنطقة مرة أخرى”.
لكنّ النتيجة كانت معاقبة ملايين الأبرياء، وتحويل العقوبات إلى أداة تفكيك ممنهجة للدولة والمجتمع.
في منتصف التسعينيات، بدأ تشيني يقترب أكثر من الأوساط الفكرية المحافظة في واشنطن التي كانت تروّج لفكرة “تغيير النظام في بغداد”. وعندما وُلد في عام 1997 مشروع فكري تحت اسم «القرن الأمريكي الجديد»، كان تشيني أحد أبرز الموقعين على وثيقته التأسيسية، التي طالبت علنًا باستخدام القوة العسكرية لإسقاط نظام صدام حسين.
وجاء في إحدى رسائل المشروع الموجّهة إلى الرئيس بيل كلينتون عام 1998: “لا يمكن ضمان أمن الولايات المتحدة إلا بإزالة نظام صدام حسين من السلطة.”
وهكذا تحوّل تشيني من وزير دفاع سابق إلى منظّر سياسي لحرب لم تبدأ بعد. كان يدرك أن الزمن يعمل لصالحه، وأن ذاكرة الأمريكيين لم تنسَ صور غزو الكويت أو تهديدات “أسلحة الدمار الشامل”، فاستثمر تلك المخاوف بذكاء ليُبقي العراق في خانة “العدوّ الجاهز”.
في عام 1998، حين سُئل عن فكرة إسقاط النظام بالقوة، أجاب ببرود يُخفي ما سيأتي بعد خمس سنوات: “من يُسقط نظام صدام عليه أن يستعدّ للبقاء هناك طويلًا، لأن ما سيحدث بعد السقوط لن يكون سهلاً.”
كانت تلك الجملة نبوءة سياسية بقدر ما كانت اعترافًا مسبقًا بأن الغزو لن يكون تحريرًا، بل بداية فوضى طويلة الأمد. والمفارقة أنّ شركته “هاليبرتون” كانت من أوائل المستفيدين من هذه الفوضى، إذ حصلت بعد الغزو على عقود بمليارات الدولارات لإعادة إعمار العراق الذي ساهم تشيني نفسه في تدميره.
من عام 1991 إلى عام 2001، كانت واشنطن تُخضع العراق لأطول عملية إنهاك في تاريخه الحديث. وخلف كل قرار بالحظر، وكل جلسة تمديد للعقوبات، وكل خطاب تحريضي في الكونغرس، كان يقف ديك تشيني، يُدير المشهد بعقلٍ بارد وقلبٍ محسوب.
لقد نجح في نقل العراق من خانة “الدولة الخارجة عن السيطرة” إلى خانة “العدو الدائم”، ومن هذا المربع سيتحوّل بعد سنوات قليلة إلى الهدف الأول في الحرب الأمريكية الجديدة على الإرهاب.
تشيني بعد 11 سبتمبر: صناعة الأكذوبة الكبرى وتبرير الغزو (2001 – 2003)
مع صباح الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، تغيّر وجه العالم. اصطدمت الطائرات ببرجي مركز التجارة العالمي، واصطدم الخوف بالعقل الأمريكي. في تلك اللحظة تحديدًا خرج ديك تشيني من الظلّ إلى الضوء، ليقود واحدة من أخطر التحولات في تاريخ السياسة الأمريكية: الانتقال من الحرب على الإرهاب إلى الحرب بالذريعة.
كانت صدمة 11 سبتمبر بالنسبة له هديةً مؤلمة لكنها ثمينة؛ فرصةً لإعادة صياغة النظام الدولي وفق ما بشّر به منذ التسعينات في مشروع “القرن الأمريكي الجديد”. فمنذ الساعات الأولى للهجوم، كان تشيني يضغط باتجاه توسيع دائرة الاتهام لتشمل دولًا لا علاقة مباشرة لها بالهجمات، وفي مقدمتها العراق.
يروي الصحفي الأمريكي بوب وودوورد في كتابه خطة الهجوم أن تشيني قال في اجتماع مغلق بالبيت الأبيض بعد ساعات من التفجيرات: “علينا أن نتحرك ضدّ من وفّروا الملاذ والدعم للإرهابيين، سواء كانوا متورطين في الهجوم أم لا.”
وهكذا وُضِع العراق في خانة الاتهام قبل أن تبدأ أيّ تحقيقات. كان تشيني مقتنعًا بأن الحرب على أفغانستان لن تكفي لإعادة الهيمنة الأمريكية، وأن الهدف الحقيقي هو بغداد، بوصفها الرمز الأكبر لتحدّي واشنطن في الشرق الأوسط.
من الخوف إلى التصنيع الإعلامي
بين عامي 2001 و2002، أطلق تشيني حملة سياسية وإعلامية ضخمة لتشكيل رأيٍ عامّ مؤيّد للحرب. وفي خطابه أمام قدامى المحاربين في مدينة ناشفيل في السادس والعشرين من آب (أغسطس) 2002، قال بلهجة قاطعة: “لا شكّ أنّ صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، وإن تركناه اليوم فسوف يستخدمها غدًا ضدّ أصدقائنا أو ضدّنا نحن.”
كان هذا التصريح بداية التحوّل من الشكّ إلى اليقين المزيّف، ومن التحليل الاستخباري إلى الدعاية السياسية. لم تكن لدى أجهزة المخابرات الأمريكية أيّ أدلّة قاطعة على امتلاك العراق أسلحة نووية أو كيميائية فاعلة، لكن تشيني كان يرى أنّ “الإقناع أهمّ من الحقيقة”، وأنّ “الشكّ كافٍ لتبرير الضربة”.
وبينما كان وزير الخارجية كولن باول يتحفّظ على المعلومات، كان تشيني يدفعها إلى المنابر الإعلامية باعتبارها حقائق نهائية.
في أواخر عام 2002، تسرّبت إلى الصحافة قصةٌ غامضة عن لقاءٍ مزعومٍ بين “محمد عطا”، أحد منفّذي هجمات 11 سبتمبر، وضابطٍ من المخابرات العراقية في براغ عام 2001. تبيّن لاحقًا أن المعلومة لم يكن لها أي أساس من الصحة، لكنّ تشيني استخدمها في مقابلاته مع شبكات الأخبار بوصفها “إشارة قوية إلى العلاقة بين القاعدة وصدام حسين”.
وبذلك صُنِعت الأكذوبة الكبرى: ربط الإرهاب بنظام بغداد، ليصبح الغزو القادم ردًّا على “تهديدٍ مزدوجٍ للعالم الحر”.
تزييف الأدلة وتهيئة الميدان
داخل أروقة البيت الأبيض، قاد تشيني ما عُرف لاحقًا بـ“مكتب الخطط الخاصة”، وهو فريق صغير تابع لوزارة الدفاع، مهمّته إعادة تفسير المعلومات الاستخبارية بما يخدم قرار الحرب. كان هذا المكتب هو من روّج لفكرة أن العراق اشترى “أنابيب ألمنيوم مخصصة لتخصيب اليورانيوم”، رغم أن خبراء الطاقة النووية في وكالة الطاقة الذرية أكدوا أنها تُستخدم لأغراض مدنية.
لاحقًا، ستكشف لجنة المخابرات في الكونغرس أنّ نائب الرئيس وفريقه مارسوا ضغوطًا مباشرة على محلّلين استخباريين لإبراز المعلومات التي تدعم فرضية الحرب وتجاهل ما ينقضها.
في تلك الفترة، بدأ تشيني يتصرّف كوزير ظلّ، يمسك بمفاتيح الأمن القومي والجيش والاستخبارات. كان حضوره طاغيًا في كلّ الاجتماعات الحساسة، حتى إن الصحف الأمريكية وصفته بأنه “الرئيس الحقيقي خلف الكواليس”. وفي كانون الثاني (يناير) 2003، صرّح في مقابلة تلفزيونية قائلًا: “إن الولايات المتحدة لا تستطيع انتظار الدليل النهائي قبل أن تتحرّك، فحين يظهر الدليل يكون الوقت قد فات.”
كانت تلك الجملة ترجمة صريحة لعقيدة “الضربة الاستباقية” التي اعتمدتها إدارة بوش لاحقًا كمبدأ رسمي في الأمن القومي. وهكذا، انتقل تشيني من ترويج الشك إلى تبرير الحرب قبل وقوعها.
نحو الغزو: الكذبة التي أصبحت حقيقة
في آذار (مارس) 2003، انطلقت الطائرات الأمريكية لتقصف بغداد في عملية سُمّيت “الصدمة والرعب”. كان تشيني يطلّ عبر شاشات التلفاز بوجهٍ باردٍ وثقةٍ حديدية، قائلاً: “نعرف يقينًا أنّ صدام يمتلك أسلحة دمار شامل، وسوف نجدها قريبًا.”
لكن بعد أشهر من الغزو، لم يُعثر على شيء. تحوّلت الوعود إلى فضيحة، والعراق إلى فوضى. وبدل أن تُكتشف أسلحة الدمار الشامل، اكتُشفت الحقيقة: أنّ الحرب بُنيت على سلسلة من الأكاذيب والتلفيقات.رئيس لجنة التفتيش الدولية هانز بليكس قال حينها:”لقد استُخدمت معلومات لم تكن مؤكّدة على الإطلاق لتبرير الحرب، رغم أنّنا لم نعثر على أيّ أدلةٍ جدّية.”
ورغم كلّ ذلك، ظلّ تشيني حتى آخر أيامه في المنصب يدافع عن الحرب، مصرحًا عام 2004: “لقد فعلنا الشيء الصحيح، حتى لو لم نجد الأسلحة، لأنّ العالم أصبح أكثر أمانًا بعد سقوط صدام حسين.”
لكن الوقائع كانت تصرخ بعكس ذلك: أكثر من مئتي ألف قتيل، ملايين النازحين، وبلد خرج من تحت الحصار إلى حطام الاحتلال.
من الأكذوبة إلى الخراب
ما فعله تشيني لم يكن قرارًا عابرًا، بل هندسةً كاملةً لسياسة الخراب، فهو من مهّد للحصار، وصاغ الأكذوبة، ودفع نحو الحرب، ثم أشرف على إعادة إعمار العراق من خلال العقود التي حصدتها شركته السابقة “هاليبرتون”. لقد جمع بين ثلاث وظائف متناقضة في الظاهر متكاملة في الجوهر: العسكري الذي يشعل الحرب، والسياسي الذي يبررها، ورجل الأعمال الذي يحصد أرباحها.
ومع كلّ تصريح أو تبرير، كان العراق يفقد جزءًا من بنيته ومجتمعه ومستقبله، ليصبح ساحةً مفتوحة لكلّ التدخلات والانقسامات. وهكذا تحققت نبوءة تشيني التي قالها عام 1998، حين حذّر من أن “من يُسقط نظام صدام عليه أن يستعدّ للبقاء طويلًا”، لكنه لم يقل حينها إنّ البقاء سيكون على أطلال وطن.
ختاما
رحل ديك تشيني، لكنّ صوته لم يرحل. ما زال صدى نعيقه يتردّد في ذاكرة العراقيين كلما مرّوا بجسرٍ دُمّر، أو حيٍّ تهدّم، أو وطنٍ تمزّق. مات الرجل الذي كان يُطلّ من البيت الأبيض ليعلن الموت من وراء الأبواب المغلقة، لكنّ الأثر الذي تركه في الجغرافيا والسياسة والوعي لا يُمحى برحيله.
لقد مثّل تشيني نموذجًا نادرًا في التاريخ السياسي الأمريكي: السياسي الذي جمع بين سلطة القرار وسلطة المال وسلطة السرد.
فقد خطّط للحصار كوزير دفاع، وحرّض على الغزو كنائب للرئيس، واستفادت شركاته من إعادة الإعمار كمقاولٍ للحرب.
لم يكن مجرد رجل إدارة؛ بل رجل عقيدة آمن بأنّ القوة وحدها تصنع النظام، وأنّ الفوضى قد تكون وسيلة لإعادة تشكيل العالم وفق الرؤية الأمريكية.
لكنّ العراق كان الثمن الأكبر لتلك العقيدة.
منذ عام 1991 وحتى 2003، مرّ البلد بكلّ أشكال الاستنزاف: حصار أكل أجساد الأطفال، حرب أحرقت المدن، واحتلال بدّل الهويات وبدّد الدولة.
وإن كانت الأكاذيب التي روّجها تشيني قد أقنعت الأمريكيين يومًا بأنّهم يخوضون حربًا من أجل الحرية، فإنّ الحقيقة التي كُشفت لاحقًا أوضحت أنهم خاضوا حربًا من أجل الوهم.
في التاريخ، لا يُقاس القادة بما قالوه فحسب، بل بما خلّفوه وراءهم. وتشيني، مهما حاول المبررون تلميع صورته، سيبقى في الذاكرة العراقية والعربية رمزًا لمرحلة الخراب المنهجي الذي جرى باسم الديمقراطية.
لقد كان الغراب الذي سبق العاصفة، ونعق باسم العراق في البيت الأبيض، حتى سقطت بغداد وامتدّ الليل في الشرق كله.
ولعلّ في رحيله اليوم فرصة لاستعادة الوعي لا للشماتة؛ فالمشكلة لم تكن في شخصه وحده، بل في النظام الذي أنتجه، والفكر الذي تبنّاه، والإعلام الذي زيّن أكاذيبه، إنّ الذاكرة العراقية التي نجت من الحروب مطالبة ألا تنسى، لأنّ النسيان هو الوجه الآخر للهزيمة.