كيف فاز ممداني بمنصب عمدة نيويورك؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد أصبحت هذه القصة من الماضي الآن، لكن حين فكّر زهران ممداني في الترشح لمنصب عمدة نيويورك، كان يتوقع أنه سيواجه إريك آدامز. كان ذلك في عام 2021، وكان آدامز قد فاز للتو في الانتخابات التمهيدية بفارق ضئيل، مقنعًا سكان نيويورك بأن ما يحتاجونه بعد جائحة كوفيد هو شرطي سابق واثق بنفسه يؤمن بالقانون والنظام على الطراز التقليدي.
في صيف هذا العام، وبينما كنت أعدّ تقريرًا عن ممداني، تذكر كيني بورغوس، زميله السابق في المدرسة الثانوية وزميله الحالي في الجمعية التشريعية لولاية نيويورك، كيف كان ممداني مكتئبًا بعد فوز آدامز. قال بورغوس متحدثا عن ممداني: “كان يقول: من سنرشح لمنافسة هذا الرجل بعد أربع سنوات؟” فأجبته: “لماذا لا تفعلها أنت؟” فردّ: “أنا صغير في السن، لن يأخذوني على محمل الجد”.
بعد أربع سنوات، تبيّن أن كل المخاوف التي راودت ممداني واليساريين والليبراليين بشأن عهد آدامز كانت في محلها. تهاوت إدارة آدامز وسط سيل من الاتهامات بالفساد أعادت إلى الأذهان ممارسات تاماني هول، وتمكن العمدة من تفادي الملاحقة القضائية عبر صفقة مع الرئيس دونالد ترامب بعد عودته إلى البيت الأبيض.
والآن، بينما يقوم عملاء فيدراليون ملثمون باعتقال آباء وأمهات من محكمة الهجرة، على بعد بضعة شوارع من مبنى البلدية، يستمتع آدامز بآخر أيام ولايته بعد أن تخلّى عن حملة الترشح للمنصب مجددا، وقد قام مؤخرًا برحلة سياحية إلى ألبانيا.
بينما رأى البعض مدينة بلا قيادة، وجد أندرو كومو، الحاكم السابق العبوس الذي استقال عام 2021 وسط اتهامات بالتحرش الجنسي وإساءة استخدام السلطة، فرصة سانحة. في وقت سابق من هذا العام، خرج كومو من قصر شقيقته الفخم في ويستتشستر، وطرد ابنته من شقتها في وسط مانهاتن، ودخل السباق في خطوة سياسية صرفة تهدف إلى تذكير الجميع بقدرته على إخضاع الأصدقاء والخصوم على حد سواء.
لكن حملته البطيئة والكئيبة لم ترُق لأحد تقريبًا. لم يُخفِ كومو ازدراءه لمعظم سكان نيويورك ومنصب العمدة الذي لا يلبي طموحاته، وقد اتخذت تصريحاته ضد ممداني طابع الإسلاموفوبيا بشكل واضح. وفي اليوم السابق للانتخابات، قام بجولة غريبة في المدينة على متن سيارة فورد برونكو بيضاء، قال لاحقًا إنها تشبه سيارة أو جيه سيمبسون، رغم أنها ليست من الطراز ذاته.
في نهاية المطاف، كسب ممداني تأييد سكان نيويورك في انتخابات شهدت أعلى نسبة مشاركة منذ خمسين عامًا، من خلال طرح رؤية تقوم على الحد من الفساد. وفي وقت بدا فيه أن أبرز شخصيات الحزب الديمقراطي متواطئة فعليًا مع الانتهاكات والفظائع التي شهدها عهد ترامب، قدّم ممداني لأنصاره رسالة أمل نقية.
شدّد ممداني على أوجه الشبه بين ترامب وكومو وآدامز، وهي شخصيات بدأت مشوارها السياسي في نيويورك خلال القرن الماضي، ومازالت عالقة في دراما نفسية لم تنته منذ عام 1983. لا تزال بصمات كومو، الذي أمضى عقودًا في السلطة، واضحة في أنحاء المدينة، لكن سجله الطويل لم يكن إلا عبئًا عليه في مواجهته مع ممداني. ففي مناظرة جرت في أكتوبر/ تشرين الأول، قال ممداني لكومو: “ما أفتقر إليه من خبرة أعوّضه بالنزاهة، وما تفتقر إليه من نزاهة، لا يمكن لأي قدر من الخبرة أن يعوّضه”.
وخلال حملته، كان ممداني يذكّر جمهوره بأن نيويورك هي أغنى مدينة في أغنى دولة في التاريخ، وأن حكومتها قادرة على أن تقدّم المزيد لسكانها. وبينما وصف خصومه المدينة بأنها مفلسة وتعاني من خلل وظيفي وتنتشر بها الجريمة، تحدّث ممداني عنها باعتبارها مكانا جميلا، وإن كان فوضويًا، مليئًا بالاضطرابات والظلم، لكنه ينبض أيضًا بالحياة والإمكانات.
“عالم ممداني السينمائي” هو مكان يمكنك فيه أن تستقل المترو وتذهب إلى كاتب عمومي لتتزوج الفتاة التي قابلتها على تطبيق “هينغ”، وأن تمارس التاي تشي وترقص السالسا مع كبار السن في لوير إيست سايد، وأن تغوص في مياه كوني آيلاند المتجمدة يوم رأس السنة، وأن تعبر جزيرة مانهاتن في ليلة صيفية حارة.
جاءت هذه الصورة المفعمة بالمشاعر الإيجابية مكمّلة لسياساته الصارمة. أكثر ما يشبه فيه كومو هو استمتاعه الواضح بالمواجهة السياسية العلنية، فقد خاطب الحاكم السابق قائلًا: “حبيبي، انشر قائمة عملائك”، في إشارة إلى عمل استشاري غامض جنى منه كومو نحو خمسة ملايين دولار العام الماضي.
وعندما تعرّض لضغوط لتخفيف انتقاداته لإسرائيل، لم يتراجع ممداني قيد أنملة. لقد أقنعت هذه الصفات العديد من الناخبين الشباب، على وجه الخصوص، بأنه قد يكون قادرًا على تنفيذ وعوده. لقد صوّتوا له لأنهم تخيّلوا مدينة تُقدَّم فيها خدمة ركوب الحافلات مجانًا، ولأنهم رأوا أن فكرة تجميد الإيجارات في نحو مليون شقة خاضعة لقيود الاستئجار تبدو فكرة عادلة، حتى لو لم يكونوا من سكان تلك الشقق، ولأنهم أحبّوا فكرة أن تكون نيويورك مكانًا يوفّر رعاية شاملة للأطفال بدءًا من عمر ستة أسابيع.
أما البديل الذي قدّمه كومو – دعوات وصلوات جوفاء في مواجهة ارتفاع الإيجارات، والمزيد من الألاعيب والمكائد الغامضة في أروقة السلطة بالمدينة، وتجاهل مسؤولي الحزب الديمقراطي مجازر غزة – فقد بدا قاتمًا للغاية.
منذ الانتخابات التمهيدية، تجاهلت الشخصيات الديمقراطية البارزة في نيويورك زهران ممداني. تأخر زعيم الأقلية في مجلس النواب، حكيم جيفريز، في تأييده لدرجة أنه أحرج نفسه. أما عضوا مجلس الشيوخ تشاك شومر وكيرستن غيليبراند (التي اضطرت لاحقًا للاعتذار بعد أن ألمحت في تصريح إذاعي إلى أن ممداني يدعم “الجهاد العالمي”) فلم يقدما له أي دعم.
لكن الرئيس السابق باراك أوباما رأى شيئًا في ممداني، وقد اتصل به مرتين منذ يونيو/ حزيران للاطمئنان عليه، وكذلك فعلت حاكمة نيويورك المعتدلة كاثي هوكول. في تجمع انتخابي خلال الأيام الأخيرة من الحملة، في ملعب فورست هيلز في كوينز، حاولت هوكول أن تحشد الدعم لممداني، لكن الجمهور هتف في وجهها: “افرضوا الضرائب على الأغنياء!”. بدت الحاكمة الخجولة والمناهضة للضرائب، عاجزة عن الحفاظ على رباطة جأشها، وقالت: “أنا أسمعكم!”، ثم صعد ممداني إلى المنصة، وتقدّم نحو هوكول، ورفع يدها في الهواء. فتحوّل الهتاف ضدها إلى تصفيق حارّ.
عندما تحدثتُ إلى ممداني لأول مرة قبل عامين، كان نائبًا مغمورًا في ألباني، لا يملك سوى عدد قليل من الحلفاء في الهيئة التشريعية. اتصل بي بعد أيام من أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، قلقًا من تصاعد موجة الإسلاموفوبيا في المدينة. بعد ذلك بوقت قصير، تم اعتقاله أثناء احتجاجات للمطالبة بوقف إطلاق النار أمام شقة السيناتور شومر.
في تلك اللحظة، كان على هامش السلطة إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن يبلغه مسؤول منتخب. لكن في الأشهر الأخيرة، بدا ممداني أكثر مرونة في التعامل مع التنازلات والمفارقات التي يفرضها عليه منصب العمدة. فقد عبّر عن تقديره لشركات التطوير العقاري الخاصة، ووعد بالإبقاء على مفوضة الشرطة جيسيكا تيش، المقربة من النخبة الثرية في المدينة.
وقال جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان تشيس، مؤخرًا: “إذا أصبح عمدة، فلا بأس بذلك”. مازال ممداني يفتقر للخبرة، وشبكة حلفائه القدامى ضيقة، ولا يملك الروابط والتجارب داخل أروقة السلطة في المدينة، وهي الروابط التي يعتمد عليها الجميع لأداء المهمة، بمن في ذلك التقدمي الطموح بيل دي بلاسيو. لكن هذا بالتحديد ما بحث عنه سكان نيويورك، لم يريدوا شخصًا من داخل أروقة السلطة يملك عقودًا من الخبرة. أرادوا زهران ممداني.
كتب الصحفي الاستقصائي لينكولن ستيفنز في مجلة “ماكلورز” عام 1903: “هل نريد نحن الأمريكيون حكومة رشيدة حقا؟ هل نعرفها حين نراها؟”. كان ستيفنز قد أمضى حينها شهورًا في التحقيق في القيود والتجاوزات الغريبة التي عصفت ببيروقراطية مدينة نيويورك في عهد تاماني هول.
لا يعني ذلك أن سكان نيويورك لم يعرفوا أن المنظومة السياسية فاسدة. في الواقع، كانوا نادرًا ما يكترثون لذلك. كتب ستيفنز: “تاماني هو الفساد بموافقة الشعب. إنه نظام حكم سيء قائم على أصوات الناس”.
أحيانًا، عندما تبلغ تجاوزات المنظومة ذروتها، يتحرك الناس للإطاحة بالسياسيين. يتقدّم مرشح من خارج النظام لمنصب العمدة، متعهدًا بـ”تطهير شامل”، ويجمع شتات المعارضة السياسية في المدينة، ويخوض حملة انتخابية حماسية، لكن النهاية لا تكون سعيدة. في آخر المطاف، تعود الوجوه ذاتها إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. أطلق ستيفنز على هذه العملية المخيبة للآمال اسم “المسار النمطي للإصلاح البلدي”.
باستثناء فيوريلو لا غوارديا، واجه كل المسؤولين الإصلاحيين الليبراليين منذ أواخر القرن التاسع عشر هذا “المسار النمطي” المخيب. خسر سيث لو، الرئيس السابق لجامعة كولومبيا، والذي كان يشغل منصب العمدة حين كتب ستيفنز هذه الكلمات، ولايته الثانية أمام جورج ماكليلان الابن، الذي كان المرشح المفضل لزعيم تنظيم “تاماني هول” ريتشارد كروكر.
وفي الستينيات، تولّى جون ليندسي المنصب وسط موجة من التفاؤل، لكنه غادر بعد ثماني سنوات تاركًا وراءه خيبة أمل وميزانية منهارة. أما ديفيد دينكنز، أول عمدة أسود للمدينة (وكان أيضًا أول عمدة ينتمى إلى منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا)، فقد أطاحت به أحداث العنف العنصري والمخاوف من انتشار الجريمة، وخسر أمام رودي جولياني في محاولته الفوز بولاية ثانية.
أما دي بلاسيو، الذي يعتبره ممداني أفضل عمدة عرفه في حياته، فقد أنجز الكثير من وعوده الانتخابية بعد وصوله للمنصب في 2013، لكن سكان نيويورك سئموا منه في نهاية المطاف. كتب ستيفنز: “العمدة الجيد يتبيّن أنه ضعيف أو أحمق، أو ليس جيدًا كما ظننا.. أو أن الناس يشعرون بالاشمئزاز”.
هل يستطيع ممداني أن يتفادى هذا “المسار النمطي”؟ لا شك أنه ينتمي إلى فئة أخرى من المرشحين القادمين من خارج أروقة السلطة، مقارنة بالإصلاحيين المهذّبين الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر، أو التقدميين الذين جاؤوا لاحقا.
قبل الحرب العالمية الأولى، ظهر مرشحون اشتراكيون لمنصب العمدة في أكثر من ستة انتخابات، لكن معظمهم واجه صعوبة في الحصول على الدعم من خارج أحياء المهاجرين الألمان واليهود في لوير إيست سايد. (كان هنري جورج، الاشتراكي الإصلاحي الداعم لفرض ضريبة على الأراضي، من أنجح هؤلاء، إذ احتل المرتبة الثانية في انتخابات عام 1886، متقدمًا على المرشح الجمهوري، وهو إصلاحي شاب يُدعى ثيودور روزفلت).
كتب ستيفنز محذّرًا من التعويل على الانتخابات لتحقيق تغيير دائم: “أي شعب قادر على أن ينهض غضبًا ويطيح بالحكام السيئين. فعلت نيويورك ذلك عدة مرات. حين تكون هناك فضائح جديدة تستوجب الانتقام، وأشرار يستحقون العقاب، وحالة غضب جماعي قابلة للتأجيج، فإن الخروج مع الحشود لتحطيم شيء ما يمنح شعورًا بالرضا”.
استطاعت المنظومة الصمود والتكيف مع الظروف، وبقيت دائما جاهزة لاستعادة الحكم حين يتعثر القادمون من خارجها. تساءل ستيفنز إن كان بإمكان أي سياسي أن يكسر هذا النمط.
في أوائل القرن العشرين، أصيب الإصلاحيون في مدن مثل شيكاغو وديترويت بخيبة أمل من إخفاقات حكوماتهم المحلية إلى درجة أنهم بدأوا يناقشون فكرة سحب صلاحيات العُمد. لكن مدينة نيويورك أرادت، ولا تزال تريد، أن يكون لعمدتها سلطات واسعة.
لا يوجد مسؤول منتخب في البلاد يجسّد هذه التجربة كما يفعل عمدة نيويورك، ولا أحد يملك مثله هذه القدرة على تغيير طبيعة الحياة الحضرية. لقد جعلت هذه السلطة من بعض العُمد أبطالًا، وحوّلت آخرين إلى مهرّجين أو شخصيات مكروهة.
ثمة عقبات لا مفر منها: شكّلت فضائح الشرطة والنقاشات حول الجريمة وإنفاذ القانون أبرز القضايا في إدارة المدينة لأكثر من قرن. وقد دخل العُمد في صراعات مع حكّام الولايات ورؤساء الولايات المتحدة، ما أدى أحيانًا إلى نتائج كارثية. كما لعبت المصالح الخاصة في مجالي العقارات والأعمال التجارية دورا محوريا في تقويض سلطة العمدة، حتى عندما كانت تستفيد من سياساته. أما الناس، كما أدرك ستيفنز، فهم متقلّبون. يمكن فقط أن تسأل دي بلاسيو.
سيختبر ممداني قدرة مدينة نيويورك على تبني حكومة جيدة، أو على الأقل أفضل من الحالية، من خلال انتخاب رجل ملتزم بأيديولوجيا يسارية أكثر من أي عمدة في تاريخ المدينة.
لا تزال نيويورك تُدار، في كثير من جوانبها، كآلة سياسية، وسرعان ما سيجد ممداني نفسه غارقًا في أكثر ديناميكيات السلطة رسوخًا. لقد غيّرت حملته بالفعل بعض التصورات عن المدينة، إذ دفعت المسلمين والجنوب آسيويين إلى قلب المشهد السياسي لأول مرة، ونسفت القوالب القديمة حول التحالفات السياسية ومشاركة الناخبين.
في مسرح باراماونت وسط بروكلين، حيث أقامت حملته حفل الإعلان عن نتائج الانتخابات، بدا أن الحاضرين يشعرون بأن التاريخ يراقبهم. كانت أجواء مختلفة تمامًا عن الحفل الذي أقامه آدامز قبل أربع سنوات في قاعة فندق ماريوت على بعد بضعة شوارع فقط من باراماونت.
ومع توالي صدور النتائج، تصاعدت الابتسامات والأحاديث المفعمة بالنشوة بين مؤيدي زهران وفريقه، واشتدّ الترقب لصعوده على المنصة. في تلك القاعة، على الأقل، كان الجميع مستعدًا لاستقباله.
المصدر: نيويوركر