ما الذي يجري في مالي؟

تشهد مالي خلال الأيام الأخيرة تصعيداً لافتاً في منسوب الاضطراب الأمني والسياسي، بعد أن انزلقت العاصمة باماكو إلى دائرة اشتباكات مستمرة بين الجيش المالي وعناصر “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” ( (JNIM) المرتبطة بتنظيم القاعدة.
هذا التصعيد جاء على وقع حصار فرضه التنظيم المسلح على خطوط إمدادات الوقود المؤدية إلى العاصمة، ما أدخلها في حالة شلل شبه كامل، ومنح الجماعة لأول مرة قدرة على الضغط المباشر على مركز القرار السياسي والدولة المركزية.
وتحوّلت باماكو نفسها إلى ساحة مواجهة مفتوحة، بعد أن كانت هذه الجماعة تتحرك وتتمركز في نطاق مناطق قريبة لا تتجاوز الخمسين كيلومتراً من العاصمة، وهو تطور يطرح تساؤلات استراتيجية حول قدرة التنظيم على نقل الاشتباك من الأطراف إلى قلب الدولة، وحول حقيقة قدرة المؤسسة العسكرية على منع شكل من أشكال الانهيار أو الاختراق المباشر داخل العاصمة.
وتعيش مالي منذ انقلاب أغسطس/آب 2020 أزمة بنيوية متراكمة لم تعد أمنية فقط، بل تحولت إلى عقدة سياسية – اقتصادية – اجتماعية، تداخل فيها صراع الشرعية مع صراع النفوذ ومع إعادة ترتيب موازين القوة بين الفاعلين المحليين والخارجيين.
وخلال السنوات الخمس الماضية، عاشت البلاد مرحلة انتقالية مضطربة ومرهقة، تخللتها انقلابات متتالية وتغييرات في رأس السلطة، في مقابل تراجع تدريجي لفاعلية مؤسسات الدولة وتآكل حضورها في الأطراف الريفية تحديداً، ما تسبب بفراغ سياسي وأمني استثمرته التنظيمات الجهادية وقوى محلية أخرى.
أما على المستوى الإنساني، فقد أدى الانزلاق الأمني المستمر، خاصة في الشمال والوسط، إلى موجات نزوح واسعة، وتفاقم غير مسبوق في المؤشرات الإنسانية، ومع اختلاف ردود الفعل والمقاربات الإقليمية والدولية، لا تزال مالي ساحة تنازع نفوذ بين القوى التقليدية في غرب أفريقيا وشبكات التأثير الدولية، في ظل غياب رؤية موحدة للحل وفي ظل استمرار تحوّل الصراع إلى ملف مفتوح طويل الأمد.
وتحاول هذه المادة الشارحة تفكيك المشهد الراهن: أسبابه، أطرافه، مساراته، وردود الفعل الإقليمية والدولية، وصولاً إلى استشراف سيناريوهات المستقبل المحتملة، وحدود ما يمكن أن تؤول إليه الأزمة في دولة تبدو وكأنها في اختبار وجودي جديد.
ماذا نعرف عن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين؟
تقدّمت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” خلال السنوات الأخيرة لتصبح الفاعل الجهادي الأكثر تأثيراً في معادلات الأمن في الساحل الغربي الأفريقي، بعدما تحولت إلى المحرك الرئيس لتفاقم الهجمات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وسط عجز حكومي متزايد عن احتواء تمددها.
تعود قوة الجماعة إلى بنيتها الائتلافية التي تأسست عام 2017 من خلال دمج خمس تنظيمات سابقة، أبرزها أنصار الدين وكتيبة ماسينا والمرابطون والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، تحت قيادة إياد أغ غالي وأمادو كوفا، ما أوجد شبكة موحدة تمتلك عمقاً اجتماعياً متعدد المكونات وقدرة على توظيف الروابط العرقية والقبلية.
وسّعت الجماعة نطاق عملياتها من شمال ووسط مالي إلى دول الجوار وامتدت أحياناً إلى السواحل الأطلسية، قبل أن تعلن في يوليو/تموز 2025 عن هجوم منسق استهدف سبعة مواقع عسكرية قرب الحدود مع السنغال وموريتانيا، في مؤشر واضح على انتقالها من حرب العصابات التقليدية إلى عمليات عسكرية أكثر احترافاً ذات أثر استراتيجي مباشر على مراكز الثقل.
هذا الصعود لم يكن أمنياً فقط، بل اقتصادياً كذلك؛ إذ نجحت الجماعة في بناء منظومة تمويل معقدة تقوم على السيطرة على مناجم الذهب الصغيرة، وفرض رسوم على الإنتاج، إضافة إلى سرقة المواشي، والاختطاف مقابل الفدية، والابتزاز، وتدوير الأموال داخل أنشطة مدنية تمنحها قدرة على شراء الولاءات المحلية.
وفي ظل ضعف الدولة وتآكل الثقة بالمؤسسات الرسمية، تنامت قدرة الجماعة على فرض حضور اجتماعي ودعوي في المناطق المهمشة عبر محاكم شرعية وفرض أنماط سلوك وقيم دينية متشددة، وهكذا أصبحت الجماعة ليست مجرد قوة عسكرية تقاتل الدولة، بل لاعب اجتماعي يملأ فراغ السلطة، ما يعمّق جذور الأزمة ويزيد من تعقيد المشهد الإقليمي في الساحل.
ما الذي أدى إلى تفاقم الوضع في مالي؟
المشهد المالي الراهن بات معقداً إلى حد بالغ، إذ تتقاطع فيه المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية بطريقة تجعل الأزمة تراكمية ومفتوحة، وتحوّل حالة التوتر المتصاعدة إلى نقطة انعطاف قد تعيد رسم الخريطة الداخلية بالكامل إذا استمر منحنى الانحدار على هذا المسار.
على المستوى السياسي، اتجه المجلس الوطني الانتقالي في 4 يوليو/تموز 2025 إلى تكريس حكم العسكر عبر المصادقة على تمديد ولاية أسيمي غويتا لخمس سنوات قابلة للتجديد دون انتخابات، وهي خطوة تزامنت قبلها بأسابيع مع قرار حل جميع الأحزاب السياسية، ما يعني فعلياً إرساء نظام أحادي قائم على الشرعية الانقلابية.
مثل هذه الإجراءات عمقت فجوة الثقة وأعادت إشعال الاحتقان الداخلي، ودفعت قطاعاً واسعاً من الرأي العام إلى اعتبار السلطة الحالية تسير في اتجاه الإغلاق السياسي الكامل.
وفي البعد الأمني، تتعرض مالي لموجة غير مسبوقة من الهجمات المتزامنة التي أعادت طرح سؤال قدرة الجيش على الصمود، فالهجوم الواسع في يوليو/ تموز الماضي الذي طال سبعة مواقع عسكرية غرب البلاد تلاه استهداف قواعد رئيسية في تمبكتو وبولكيسي وسقوط عشرات الجنود ما كشف عن تفوق تكتيكي للجماعات المسلحة.
كما انعكس إلغاء اتفاق الجزائر في 2024 سلباً على الشمال بعد تجدد المواجهات مع الحركات الطوارقية. ومع انتقال النفوذ الروسي من مرحلة “فاغنر” إلى “الفيلق الإفريقي” تراجعت الفعالية العملياتية للدعم الخارجي، ما زاد من الضغط على المؤسسة العسكرية المالية في الميدان.
اقتصادياً، غرقت البلاد في أزمة خانقة بفعل تداخل العوامل الأمنية والسياسية، حصار جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لخطوط نقل الوقود أدى إلى شلل شبه كامل في العاصمة، وقفزات هائلة في الأسعار وتراجع النشاط التجاري.
وتفاقمت الأوضاع عقب انسحاب مالي من الإيكواس، وما ترتب عليه من خسارة امتيازات اقتصادية وعزلة مالية حادة، كما طالت تداعيات الأزمة القطاعات الأساسية، انقطاع الكهرباء، توقف النقل، إغلاق مؤسسات التعليم، واضطرار المواطنين للجوء للسوق السوداء لتأمين السلع الأساسية، أما الداخل الريفي فبات أكثر عزلة وانقطاعاً، في ظل غياب الدولة وتنامي نفوذ الجماعات المسلحة.
وعلى المستوى العسكري، شهدت البلاد في العاشر من أغسطس/آب تطورًا بارزًا، بعد إعلان السلطات اعتقال ما لا يقل عن عشرين عسكريًا بتهمة التآمر للإطاحة بالمجلس العسكري الحاكم، الذي استولى على السلطة عبر انقلاب أغسطس 2020، وأثارت تلك الاعتقالات غضبًا واسعًا داخل المؤسسة العسكرية واستمرار حالة الاضطراب التي تعصف بالبلاد منذ خمس سنوات.
بهذا الشكل تبدو الأزمة في مالي ليست مجرد أزمة طارئة أو ظرفية، بل مسار تفكيك تدريجي لمكونات الدولة، يتزامن فيه فراغ السلطة مع صعود الفواعل غير الحكومية، ما يجعل المستقبل مفتوحاً على سيناريوهات أشد خطورة قد لا تقتصر نتائجها على مالي وحدها بل قد تصيب كامل المنظومة الإقليمية في الساحل الأفريقي.
كيف تعاملت الحكومة المالية مع تلك التطورات؟
في اللحظة التي كان يفترض فيها أن تبادر الحكومة المالية نحو احتواء الأزمة والحد من آثارها المتفاقمة، اختارت الهروب إلى الأمام عبر تبني خطاب دفاعي يحاول إلقاء المسؤولية على عوامل خارجية وقوى مسلحة. ففي قراءتها الرسمية، ما يجري هو “مخطط خارجي لزعزعة الاستقرار”، وتحديداً عبر الحصار الذي تفرضه جماعة نصرة الإسلام والمسلمين على خطوط إمداد الوقود، والذي أدى عملياً إلى شلل العاصمة وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق.
وفي السياق ذاته، تستمر السلطة الحاكمة في تبرير قرارها بالخروج من منظومة الإيكواس باعتباره “خياراً سيادياً” اتُخذ رفضاً لما تصفه بالضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارسها المنظمة على الدول التي شهدت انقلابات عسكرية، مؤكدة أنها لن تعود إلى المجموعة ما لم تُحترم خياراتها الوطنية.
غير أن اللافت أن الحكومة تجاهلت وضع خطط انتقالية أو إجراءات وقائية تخفف من انعكاسات الانفصال الاقتصادي، واكتفت بالدفاع السياسي عن القرار دون إدارة عملية لتداعياته على الأرض.
هذا الخطاب الرسمي الذي يصر على التشديد على “الصمود” ورفض “أي تدخل خارجي”، يعكس تمسكاً بمفهوم السيادة في بعده الشكلي، دون ترجمة حقيقية لهذه السيادة في سياسات ميدانية تخفف حجم المعاناة التي يواجهها المواطن.
وبدلاً من أن يكون الخطاب أداة للتعبئة المتوازنة أو لإعادة بناء الثقة، تحوّل إلى وسيلة لتحميل أطراف أخرى مسؤولية إخفاقات الدولة، في لحظة تبدو فيها مؤشرات الانهيار أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.
ماذا عن المواقف الإقليمية والدولية؟
أفرزت التطورات الأمنية والسياسية والاقتصادية المتسارعة في مالي موجة ردود فعل دولية وإقليمية متباينة، عكست في جوهرها عمق الانقسام في قراءة الأزمة وحدود الانخراط الممكن في مساراتها المقبلة. ففي المعسكر الغربي، سادت مقاربة قائمة على التحذير المباشر، إذ سارعت الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وأستراليا إلى دعوة رعاياها لمغادرة البلاد فوراً، محذّرة من احتمالات انفلات أمني واسع بالتزامن مع اختناق العاصمة باماكو بأزمة الوقود، وحمل هذا الموقف في خلفيته قراءة بأن الأزمة لم تعد حالة داخلية وإنما باتت قابلة للانتقال والتمدد، مع ما يعنيه ذلك من تهديد للاستقرار في كامل الإقليم.
في المقابل، اختارت موسكو نهج النفي والإنكار ووصفت التقارير المتداولة بشأن المخاطر المتصاعدة بأنها “معلومات مضللة”، وحرصت السفارة الروسية في باماكو على التشكيك في الدعوات الغربية للإجلاء، في سياق يبدو متسقاً مع مقاربتها العامة في مالي والتي تقوم على الحفاظ على الحضور، وتثبيت نفوذها عبر الفيلق الإفريقي، وعدم منح خصومها السياسيين صورة انهيار أو فشل في الشراكة الأمنية.
إقليمياً، تزامن الانفجار الداخلي المالي مع صمت رسمي واضح من منظمة الإيكواس بعد انسحاب باماكو منها، وهو صمت يعكس في جانب منه محاولة تجنب الاشتباك السياسي والشرعي مع سلطة عسكرية خرجت من المنظومة وكسرت أحد أهم أدوات الضغط الجماعي في غرب أفريقيا.
أما الدول المجاورة مثل السنغال وساحل العاج، فتعاملت مع الملف من زاوية أكثر واقعية براغماتية؛ فهي تراقب التصعيد بقلق بالغ خشية انتقال تأثيراته المباشرة إلى حدودها، خاصة مع تكثيف الجماعات المسلحة عملياتها ضد قوافل الوقود وطرق الإمداد العابرة للحدود، ما قد يفتح الباب أمام أزمة إقليمية مركبة إذا ما فقدت مالي القدرة على السيطرة داخل نطاقها الوطني.
لمن توجه أصابع الاتهام؟
بعيداً عن العوامل الداخلية الهشة التي سمحت بتمدّد الفوضى داخل مالي، تتجه السردية الرسمية في باماكو نحو تحميل أطراف خارجية مسؤولية تغذية التوترات وتشجيع الجماعات المسلحة المرتبطة بالقاعدة، وتتركز الاتهامات أساساً باتجاه فرنسا، باعتبارها طرفاً يسعى – وفق القراءة الحكومية – إلى إعادة تدوير نفوذه المتراجع في دول الساحل، والرد على إقصائه من المشهد المالي عبر تأجيج الوضع الأمني ودعم مسارات غير مباشرة لإرباك السلطة العسكرية الجديدة.
الطرف الثاني الذي يوضع في دائرة الاتهام هو الجزائر، في ظل توتر واضح في العلاقات الثنائية منذ قرار مالي إلغاء اتفاق الجزائر عام 2024. هذا الإلغاء أعاد فتح ملف الصراع في الشمال وأضعف آخر إطار تسوية سياسي قائم، ما جعل الاتهامات ضد الجزائر جزءاً من خطاب إعادة تفسير أسباب عودة الصدام في الشمال، أكثر من كونها اتهاماً مبنياً على معطيات معلنة.
كما تدور اتهامات جانبية تجاه الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، في إطار صراع التوازنات بين المعسكر الغربي من جهة، وبين روسيا التي باتت تمتلك حضوراً عسكرياً مباشراً عبر “الفيلق الإفريقي” من جهة أخرى.
وبهذا الشكل، تحاول السلطة المالية إعادة تعريف الأزمة ليس كنتاج انهيار داخلي وتفكك مؤسسات، بل من خلال صياغتها ضمن سياق منافسة دولية على النفوذ في الساحل، بحيث تصبح مسؤولية الخارج جزءاً أساسياً من تفسير ما يجري داخل البلاد.
هل تسقط باماكو؟
رغم التقدم الميداني اللافت الذي حققته جماعة نصرة الإسلام والمسلمين واقترابها النسبي من تخوم العاصمة باماكو، حيث لم يعد يفصلها عنها سوى قرابة خمسين كيلومتراً، إلا أن معظم التقديرات الاستراتيجية تستبعد سيناريو سقوط العاصمة في المدى القريب.
فالتنظيم لا يزال غير قادر على إحكام السيطرة على الحدود بشكل كامل، وإن كان يستغل نقاط ضعف وثغرات في بعض المنافذ الحدودية تسمح بتسلل مقاتلين ودعم بشري من دول الجوار، وهي نقاط تشكل ضغطاً على الجيش المالي الذي يعجز عن فرض سيطرة كلية على الحدود واسعة الامتداد.
ورغم هذا الزخم في الانتشار الجغرافي والعملياتي، يفتقر التنظيم في المرحلة الحالية إلى المقومات العسكرية واللوجستية الضرورية لشن عملية اقتحام واسعة ومنظمة على العاصمة، ويضاف إلى ذلك عامل الردع الإقليمي المحتمل، حيث يمكن لتحالف دول الساحل التدخل بشكل مباشر ورفع مستوى التنسيق العسكري في حال اقتراب خطر حقيقي من باماكو.
وبناءً على هذا السياق، لا يبدو سيناريو انهيار المركز في باماكو مرجحاً في الوقت الراهن، حتى مع توسع نفوذ الجماعة شمالاً وغرباً، ما يجعل الأزمة أكثر ارتباطاً بحرب استنزاف طويلة المدى لا بمشهد حسم ميداني سريع ينتهي بسيطرة التنظيم على العاصمة.
أي تداعيات على دول الساحل؟
تطرح الأزمة المتصاعدة في مالي أسئلة جوهرية حول مستقبل تحالف دول الساحل (يضم النيجر وبوركينا فاسو ومالي)، خاصة وأن باماكو تمثل اليوم مركز الثقل في هذا التحالف، ليس فقط لاعتبارها نقطة الارتكاز الجغرافية، بل لأنها الأكثر تقدماً في مسار الانفكاك عن المنظومة الغربية وإعادة بناء علاقاتها مع شركاء بديلين.
فمنذ إخراج القوات الفرنسية وتعزيز التعاون مع موسكو، أعادت باماكو هندسة تموضعها الإستراتيجي، لتجد في النيجر وبوركينا فاسو امتداداً طبيعياً لرؤية مشتركة تقوم على استعادة السيطرة الوطنية على الأمن والسيادة.
هذا التحالف الذي بدأ كاتفاق دفاعي ثلاثي في 2023، سرعان ما تطور في العام التالي إلى كونفدرالية تسعى للتحرر من الأطر التقليدية وعلى رأسها الإيكواس، والتأسيس لبنية سياسية وقانونية وأمنية مستقلة.
ووفق قراءات سياسية متعددة، فإن الأزمة الحالية في مالي قد لا تكون عامل إضعاف للتحالف بقدر ما قد تشكل دافعاً لتسريع عملية الانفصال والتحرر من المعادلات القديمة التي كانت تربط دول الساحل بالمراكز الغربية.
فالتكتل لم يعد مجرد انعكاس لسلسلة الانقلابات العسكرية، بل تحول إلى مشروع سياسي استراتيجي يرمي إلى إعادة تعريف قواعد اللعبة في غرب أفريقيا بمنطق السيادة والمصلحة المشتركة، ومع استمرار الضغوط الداخلية على مالي، يزداد التحالف تماسكاً من الداخل، ويعمل على بناء أدوات مؤسسية أكثر صلابة، تعزز فكرة انتقال ساحل غرب أفريقيا نحو نموذج بديل، قد يغيّر موازين القوة وشكل الخارطة الإقليمية لعقود مقبلة.
في الأخير..
في ضوء تشابكات الداخل وتعدد دوائر التداخل الخارجي، يبدو من المبكر إصدار حكم نهائي على مسار الأزمة في مالي أو توقّع نقطة استقرار قريبة، فالمشهد لا يزال في طور التشكل تحت ضغط ديناميات مفتوحة تتغذى من هشاشة الدولة، وامتداد الصراع من الأطراف إلى قلب المركز، وتقاطعات صراع النفوذ الدولي في الساحل.
ومع أن سيناريو الانهيار الكامل لباماكو وسقوطها ميدانيًا في قبضة القاعدة لا يبدو وشيكًا في المدى المنظور، إلا أن استمرار تدفق عوامل الاضطراب، وتكاثر منصات إنتاج التوتر داخليًا وخارجيًا، يرجّح اتجاه الأزمة نحو مرحلة استنزاف طويل، لا نحو تسوية قريبة؛ ما يعني أن الوضع في مالي سيبقى حالة غير مستقرة قابلة لإعادة التصعيد والانزلاق مجددًا عند كل منعطف، وأن الاستقرار – إذا ما تحقق لاحقًا – لن يكون نتاج عامل واحد، بل نتاج جهد مركّب يعالج جذور التفكك البنيوي وليس فقط مظاهره العاجلة.