كادوقلي على خطى الفاشر: التجويع لإخضاع المدن وتهجير السكان

لم تكن الفاشر نموذجًا وحيدًا لمدى افتقاد الدعم السريع لأي محاذير أخلاقية؛ فقد سبق أن نفذ إبادة جماعية بحق عرقية المساليت في غرب دارفور، لكن الأوضاع التي آلت إليها كادوقلي في جنوب كردفان تشير إلى أن الميليشيا وحلفائها على استعداد لتوصيل المدنيين إلى المجاعة دون أن يرجف لهم جفن.

وأعلن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو أداة عالمية مدعومة من الأمم المتحدة لقياس أزمات الجوع، حدوث مجاعة في الفاشر وكادوقلي وسط تحذيرات من تمددها إلى 20 منطقة إضافية يتوقع أن تستقبل نازحين في دارفور وكردفان.

أوصلت قوات الدعم السريع المجاعة إلى الفاشر بعد حصار دام 18 شهرًا مع هجمات برية عززتها لاحقًا بقصف المسيرات التي شكلت قاصمة الظهر لصمود طويل انهار تحت ضرباتها المتلاحقة في 26 أكتوبر/تشرين الأول السابق.

وإن كانت الفاشر هُزمت بالاستخدام المكثف للمسيرات والتجويع والاستعانة بطيران أجنبي لقصف مقار الجيش وقطع شبكات الاتصالات التي تعمل بالأقمار الصناعية بين غرف القيادة داخل المدينة وخارجها، فإن كادوقلي تسير على ذات النهج مع وجود فوارق عديدة في مقدمتها الطبيعة الجبلية.

وتحيط بمدينة كادقلي، التي تبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 589 كيلومترًا، سلسلة من الجبال ما يصعّب السيطرة عليها عسكريًا، كما أن معظم سكانها ينحدرون من أُثُنِيَّة النوبة الذين اشتهروا من جملة أشياء أخرى بحب الجندية.

وتعد كادوقلي العاصمة الإدارية لولاية جنوب كردفان التي تقع في حزام السافانا الغنية، وهي منطقة زراعية تنتج عددًا من المحاصيل بما في ذلك الصمغ الحربي، إلى جانب إنتاجها الوفير من المواشي، إضافة إلى وجود بعض الصناعات الخفيفة فيها مثل الغزل والنسيج والصابون ودباغة الجلود.

التجويع سلاحًا ضد الضعفاء

جرى إعلان حدوث المجاعة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، بعد أن توصلت لجنة المراجعة في التصنيف المرحلي إلى أن 40.2% من سكان محلية كادوقلي يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما لم تُصنَّف الدلنج بأنها منطقة مجاعة رغم إقرارها بأن الأوضاع فيها مماثلة للموجودة في كادوقلي بسبب نقص البيانات.

وجاء إعلان المجاعة في كادوقلي بعد حصار مشترك من الدعم السريع والحركة الشعبية – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، نجح في عزل المدينة من إمدادات الغذاء والأدوية مما أدى إلى ندرة شديدة في السلع مع ارتفاع أسعارها.

وأجبر الحصار سكان الفاشر والدلنج على اتخاذ تدابير قاسية شملت هروب المدنيين عبر مسارات تعرّضوا فيها لانتهاكات القتل والاغتصاب والإذلال، فيما اضطر من لم يستطع الفرار إلى تناول أوراق الأشجار والأعشاب الموسمية.

ولم تكن لتصل الأوضاع في كادوقلي إلى مرحلة المجاعة لولا عرقلة الحركة الشعبية الوصول إلى اتفاق توصيل المساعدات إلى جنوب كردفان عبر الجو من جنوب السودان في مايو/أيار 2024، حيث اشترطت توصيلها إلى كل البلاد مع وقف العدائيات.

كانت الحركة قبل تحالفها مع الدعم السريع، وهي تضع شروطًا مستحيلة التحقق، هدفها عرقلة التوصل إلى الاتفاق؛ صعوبة وصول الإمدادات برًّا في ظل الحصار الذي تفرضه الميليشيا على الدلنج بسيطرتها على الطريق الذي يربطها بمدينة الأبيض وصولًا إلى وسط السودان.

تعتمد كادوقلي في تأمين الغذاء والعلاج على الطريق الذي يربط الدلنج بالأبيض الذي لا يزال خاضعًا لسيطرة الميليشيا، إضافة إلى سوق النعام قرب الحدود مع جنوب السودان والذي قطعته الحركة الشعبية والدعم السريع معًا في أبريل/نيسان 2025.

ومنعت الحركة وصول المحاصيل الزراعية التي تزرع في المناطق الأخرى إلى كادوقلي، كما شنت مع الدعم السريع حملات على مجموعات تنشط في تهريب السلع عبر الدواب والسيارات الصغيرة لخنق كادوقلي والدلنج.

وتأسست الحركة الشعبية – شمال كتنظيم مستقل قبل انفصال جنوب السودان بفترة قصيرة، حيث خاضت قتالًا في جنوب كردفان والنيل الأزرق ابتداءً من يونيو/حزيران 2011، استطاعت عبره السيطرة على مناطق أقامت فيها حكمًا مدنيًا من ضمنها معقلها الرئيسي في كاودا.

وانشقت الحركة إلى فصيلين في 2017، حيث قاد الأول مالك عقار الذي يتولى منصب نائب رئيس مجلس السيادة، والآخر بزعامة الحلو الذي قبل، قبل اندلاع النزاع القائم، شروطًا عديدة منها حق تقرير المصير والعلمانية وإجراء تغييرات في نظام الحكم ومؤسسة القضاء مقابل توقيع اتفاق سلام مع الحكومة.

وانضم الحلو إلى تحالف يقوده الدعم السريع حيث سُمِّي نائبًا لرئيس المجلس الرئاسي في حكومة الميليشيا التي اتخذت مدينة نيالا بجنوب دارفور مقرًا إداريًا.

لماذا التجويع؟

ويُوضح حديث الأمم المتحدة بأنها اضطرت إلى التفاوض شهور لتسيير قافلة إغاثة واحدة إلى المجتمعات المحاصرة في جنوب كردفان بما في ذلك الدلنج وكادوقلي، مدى استخدام الحركة الشعبية والميليشيا الجوع سلاحًا ضد المدنيين.

وتفيد بأن الناس في كادوقلي عانوا لعدة أشهر دون وصول موثوق إلى الغذاء أو الرعاية الطبية، مما أدى إلى انهيار الأسواق وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل كبير، فيما ارتفعت معدلات سوء التغذية الحاد إلى 29% في المدينة.

يهدف التجويع إلى تحقيق عدة أهداف؛ أولها الضغط غير المباشر عبر تدفّق النازحين إلى مناطق سيطرته لإضافة عبء جديد إليه، حيث يفضل الفارين الذهاب إلى المناطق الآمنة خاصة بعد تحسّن الأمن الغذائي فيها بسبب القدرة على الوصول إلى الأسواق والخدمات.

ويتمثل الهدف الثاني في دفع الجيش المتواجد في كادوقلي والدلنج إلى تركيز جهوده على توفير الإمدادات والغذاء بدلًا من الانفتاح إلى مناطق جديدة تخضع لسيطرة الحركة الشعبية والميليشيا.

وبعد أن ظلت الحركة الشعبية تقصف كادوقلي بالمدافع، بدأت مع الميليشيا منذ أكتوبر/تشرين الأول شن هجمات بطائرات مسيّرة دون أن تستثني مناطق جنوب كردفان الأخرى، حيث استهدفت في البداية المواقع العسكرية وسرعان ما انتقلت إلى المدنيين في محاولة لتهجيرهم وتدمير الخدمات.

وشنت المسيرات في نهاية الشهر المنصرم قصفًا على مركز إيواء داخل مقر منظمة الهجرة الدولية في كادوقلي بالتزامن مع قصف مدرسة تأوي نازحين في مدينة العباسية لتختتم الأسبوع بهجوم مروع على مستشفى الدلنج.

تكرار تجربة الفاشر

تؤكد المؤشرات الماثلة أن الدعم السريع تحاول نسخ نموذج الفاشر في كادوقلي، عبر الضغط الإنساني ثم القصف الجوي بالطائرات المسيّرة، لخلق بيئة من الفوضى تشمل الحصار وتدمير المرافق الصحية ثم الانتقال إلى الأسواق ومصادر المياه وسبل العيش وربما ختامًا بنصب أنظمة دفاع جوي.

إن بدء إعادة استخدام التكتيكات القاسية في كادوقلي ينبي بسيناريو واحد يتمثل في تجويع المدينة واستنزاف الجيش في محاولات توفير الغذاء للمدنيين، رغم اختلاف الوضع الجغرافي في المدينة عن الفاشر، حيث إنها محاطة بسلسلة جبال تشكل دفاعًا طبيعيًا صلبًا يصعب اختراقه بريًا.

 

عرض هذا المنشور على Instagram

 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎نون بوست | NoonPost‎‏ (@‏‎noonpost‎‏)‎‏

ولا تملك قوات الدعم السريع إزاء هذا الوضع غير استخدام قوات الحركة الشعبية المسيطرة على مناطق جبلية حول كادوقلي في أي هجوم عليها، وبالتالي ترميهم في التهلكة مع استمرار فرض المجاعة بالحصار والخوف بالطائرات المسيرة.

ويبدو أن الحركة الشعبية، من واقع ما يجري حاليًا في جنوب كردفان، قد تخلت عن مبدأ حماية النوبة دون مقابل، حيث إنها تشارك في تجويع المدنيين مما يفقدها أي شرعية لتمثيل المنطقة في المستقبل حال بقي السودان موحّدًا.

وأخيرًا، إن أي محاولة لإنقاذ كادوقلي والدلنج من الجوع بعد إعلان المجاعة ستكون جزئية ولن تشمل جميع الجوعى باستثناء إنهاء الحصار، وهذا لن تفعله الميليشيا أبدًا، مما يعني الوقوع أمام كارثة من صنع تحالف الدعم السريع والحركة الشعبية.