من الأدارسة إلى العلويين.. العواصم المغربية تروي تاريخ المملكة

يُشكّل تاريخ العواصم المغربية مدخلًا غنيًا لفهم تشكّل الدولة المغربية ومسار تطورها بوصفها كيانًا سياسيًا وثقافيًا متجذرًا في التاريخ، فمنذ قيام الدولة الإدريسية في القرن الثامن الميلادي، تعاقبت على حكم المغرب سلالات متعددة جعلت من مدن معينة عواصم سياسية وإدارية، غير أنّ هذه المدن تجاوزت وظيفة الحكم لتصبح فضاءات لصياغة الهوية المغربية في أبعادها الدينية والعلمية والعمرانية.

كانت فاس منارة للعلم والفقه، ومراكش رمزًا للقوة العسكرية والانفتاح التجاري، ومكناس نموذجًا للتنظيم المركزي والعمران الملكي، بينما جسدت الرباط مفهوم الاستمرارية والانفتاح في العهد الحديث. ومن خلال تتبّع مسار هذه المدن، يمكن تلمّس كيف عبّر التحول من عاصمة إلى أخرى عن تطور في بنية الدولة المغربية وتفاعلها مع التحولات السياسية والاجتماعية في كل حقبة من تاريخها. 

فاس بين الدين والعلم والسياسة 

مدينة فاس ظهرت كعاصمة للدولة الإدريسية في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، ومنذ تأسيسها سنة 808م على يد إدريس الثاني، مثّلت القلب النابض لتاريخ الدولة المغربية، ومركزًا للعلم والفقه والعمران. 

وقد اختيرت المدينة عاصمةً للدولة الإدريسية لما تمتاز به من موقع جغرافي وسط البلاد، وكان هذا الاختيار يعني تحوّل الدّولة من مجرد حكم قَبلي إلى سلطة سياسية مركزية، ما جعلها ملتقى للطرق التجارية وفضاءً لتشكّل النخبة الدينية والعلمية. وحتى خلال الفترات التي فقدت فيها مركزها السياسي، كما حدث حين نُقلت العاصمة إلى “حجر النسر” لأسباب أمنية، بقيت فاس محتفظة بدورها الحضاري بوصفها عاصمة للثقافة.

مع صعود المرابطين ثم الموحدين، انتقلت العاصمة إلى مراكش، وهو الانتقال الذي يعكس تحوّل الدولة نحو التوسّع العسكري والانفتاح التجاري عبر الصحراء والأندلس. وعندما قامت الدولة المرينية سنة 1244م، أعيدت فاس إلى موقعها السياسي، فغدت مركزًا جامعًا بين الدين والسلطة، وبلغت أوجها العلمي والعمراني، واستمرّت في أداء هذا الدور في عهد الوطاسيين رغم التحديات التي واجهتها أمام صعود السعديين الذين أعادوا لمراكش دورها السياسي والاقتصادي.

أما في عهد الدولة العلوية فقد استعادت فاس مكانتها كعاصمة أولى للمغرب، واحتفظت بها معظم الوقت إلى غاية سنة 1912م حين اختيرت الرباط عاصمة للدولة الحديثة. هذا التقلّب في موقع فاس يعكس حيوية الدولة المغربية وقدرتها على إعادة إنتاج مراكزها بحسب متطلّبات المرحلة، لكن حضور فاس ظل ثابتًا بوصفها عاصمة الثقافة المغربية.

مراكش بين القوة السياسية والازدهار العمراني

ازدهرت مراكش في عهد الدولة المرابطية التي كانت عاصمة لها، وكانت المدينة مركزًا سياسيًا وإداريًا للدولة الناشئة، غير أن طبيعتها القاحلة وموقعها البعيد عن الموانئ والطرق التجارية الرئيسية جعلاها في بداياتها محدودة النشاط الاقتصادي، مقارنة بمدينة أغمات القريبة التي كانت آنذاك مركزًا تجاريًا نابضًا بالحياة. ومع حكم علي بن يوسف بن تاشفين شهدت مراكش نقلة نوعية في عمرانها، إذ أمر بتشييد قصر فخم على الطراز الأندلسي، وبتنفيذ نظام متكامل لإمدادات المياه يعتمد على الصهاريج والخطارات. وقد أسهم هذا المشروع في تزويد المدينة بالمياه وإنعاش زراعتها وحدائقها، مما ساعد على توسّعها الديموغرافي والعمراني.

تحوّلت مراكش تدريجيًا إلى مركز للحرف التقليدية والتجارة، فاستقرت فيها أعداد متزايدة من الحرفيين والتجار القادمين من مختلف المناطق، حيث كانت الدباغة من أقدم الصناعات التي اشتهرت بها المدينة، وأصبحت الجلود المراكشية معروفة بجودتها حتى خارج المغرب. ومع تزايد النشاط الاقتصادي، ظهرت أحياء جديدة نظمت حول الأسواق والمساجد الكبرى مثل مسجد بن يوسف، وبدأت تُبنى المنازل الفسيحة المزخرفة على الطراز الموريسكي، ما جعل من المدينة فضاءً حضاريًا متكاملًا يجمع بين الصناعة والفنون والعمارة. كما أدى نظام الري الجديد إلى ازدهار الزراعة وإنشاء البساتين والكروم ومعاصر الزيت في أطراف المدينة، فارتبط ازدهارها الاقتصادي ارتباطًا وثيقًا بتطور بنيتها المائية والعمرانية.

في العقود اللاحقة، بدأت مراكش تكتسب ملامحها كمدينة كبرى حين سُكت فيها أولى العملات الذهبية سنة 1092م، لتصبح مركزًا نقديًا إلى جانب سجلماسة. ومع ازدياد التهديدات القادمة من الأطلس الكبير، أقيمت أسوار المدينة وأبراجها لحمايتها، في خطوة استباقية لمواجهة حركة الموحدين التي قادها المهدي بن تومرت. ورغم صمود المرابطين لفترة وجيزة، تمكن الموحدون في نهاية المطاف من دخول مراكش سنة 1147م بعد حصار طويل، وأمر الخليفة عبد المؤمن بهدم مساجد المرابطين وإعادة بنائها وفق المعايير الموحدية، فلم يبق من العمارة المرابطية سوى القبة الشهيرة ونوافير الوضوء وبعض الأسوار.

ومع استقرار الدولة الموحدية، أصبحت مراكش العاصمة الإدارية للمغرب، وشهدت نهضة معمارية كبرى تجسدت في بناء مسجد الكتبية ومئذنته الشهيرة، ثم إنشاء القصبة الملكية جنوب المدينة التي ضمّت القصور والثكنات والمساجد. امتدت تأثيرات العمارة الموحدية إلى الأندلس، حيث ظهرت صروح شبيهة في إشبيلية والرباط مثل الخيرالدة وبرج حسان. 

كما ازدهرت مراكش فكريًا في هذه المرحلة، فاحتضنت علماء بارزين كابن طفيل وابن رشد، قبل أن تدخل في مرحلة اضطراب سياسي عقب وفاة أبو يعقوب يوسف المستنصر سنة 1224م، حين تحولت إلى ساحة صراع بين زعماء القبائل، إلى أن خضعت في النهاية لحكم الخليفة عبد الواحد الثاني الذي أعاد فرض سلطته عليها بقوة السيف، منهياً بذلك حقبة من الفوضى التي أعقبت أفول الدولة الموحدية.

خلال عهد السعديين، الذين جعلوا منها عاصمة دولتهم في القرن السادس عشر، استعادت مراكش حيويتها، فشهدت نهضة معمارية بارزة تجلت في معالم هندسية مثل مسجد باب دكالة ومدرسة بن يوسف التي شُيدت سنة 1570م. وقد حرص السعديون على تزيين المدينة باللون الأحمر الآجوري الذي صار علامة مميزة لها واستمر حتى اليوم لتُلقّب بـ “المدينة الحمراء”.

في عام 1912م، انتقلت العاصمة إلى الرباط، وفي سنة 1985م، أدرجت منظمة اليونسكو المدينة القديمة لمراكش ضمن قائمة التراث العالمي تقديرًا لقيمتها التاريخية والمعمارية. كما تُعرف المدينة باسم “مدينة سبعة رجال” نسبة إلى مجموعة من العلماء والمتصوفة الذين كان لهم تأثير كبير في الحياة الفكرية والتربوية.

مكناس والرباط عاصمتَي الدولة العلوية

تختلف كل من الرباط ومكناس عن مدينتي فاس ومراكش من حيث طبيعة أدوارها السياسية في التاريخ المغربي، إذ ارتبطت العاصمتان الأخيرتان بتعدد الدول والسلالات التي تعاقبت على حكم البلاد، بينما تميّزت الرباط ومكناس بكونهما عاصمتين في ظل الدولة العلوية التي أرست دعائم المغرب الحديث.

تعود أصول مكناس إلى سنة 711 ميلادية حين أسستها قبيلة مكناسة الأمازيغية التي منحتها اسمها، وقد ظلت لقرون مركزًا تجاريًا مهمًا بفضل موقعها الجغرافي عند ملتقى الطرق التجارية التي تربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب. ومع مجيء السلطان المولى إسماعيل في النصف الثاني من القرن السابع عشر، تحوّلت المدينة إلى عاصمة رسمية للدولة العلوية بين سنتي 1672 و1727، لتعيش خلالها فترة ازدهار سياسي وعمراني جعلتها تُلقّب بـ”المدينة الإسماعيلية”.

ويرى باحثون أن انطلاق العلويين نحو تأسيس دولتهم بدأ من تافيلالت بقيادة محمد الشريف، الذي تمكن من السيطرة على فاس، قبل أن يعزز المولى إسماعيل كيان الدولة ويجعل من مكناس مركز حكمه. وبعد وفاته، نُقلت العاصمة من جديد إلى مراكش في عهد السلطان عبد الله بن مولاي إسماعيل، ثم إلى فاس خلال فترة عبد الرحمن بن هشام، لتظل كذلك حتى عهد السلطان عبد الحفيظ عند توقيع معاهدة الحماية.

أما الرباط فقد أنشأها الموحدون في الأصل كحصن عسكري، لكنها اكتسبت مكانتها السياسية مع مطلع القرن العشرين، حين تم اختيارها عاصمة للمغرب سنة 1912 خلال فترة الحماية الفرنسية. ويربط المؤرخون هذا الاختيار بضرورة الانفتاح على الخارج واختيار مدينة ساحلية للمرة الأولى في تاريخ البلاد. ومنذ عهد السلطان يوسف، أصبحت الرباط مركز الحكم العلوي الحديث، واستمرت كذلك بعد الاستقلال مع محمد الخامس ثم الحسن الثاني وصولًا إلى الملك محمد السادس، الذي شهدت في عهده المدينة نهضة عمرانية وثقافية جعلتها تستحق لقب “عاصمة الأنوار”.

إن تتبّع مسار العواصم المغربية من فاس إلى مراكش ثم مكناس وأخيرًا الرباط يكشف عن دينامية تاريخية فريدة تميز بها المغرب عبر العصور، فاختيار كل مدينة كان بمثابة تعبير عن تحولات في بنية الدولة والمجتمع، ففاس مثّلت جوهر الهوية الدينية والعلمية، ومراكش جسّدت طموح القوة والوحدة، ومكناس عبّرت عن المركزية والتنظيم، والرباط تجسّد روح الاستمرارية والانفتاح على العالم. وهكذا تظل العواصم المغربية القديمة سجلًا مفتوحًا لتاريخ الدولة المغربية، حيث تلتقي السياسة بالعمران، والدين بالفكر، في نسيج حضاري مستمر يشهد على قدرة المغرب على التجدد دون أن يفقد جذوره الممتدة منذ قرون.