استثمار المأساة: اقتصاد الحرب في دارفور بين الدعم السريع وحركة عبد الواحد

لم تكن محلية طويلة بولاية شمال دارفور غربي السودان، قبل اندلاع النزاع القائم، سوى بلدات نائية تفتقر إلى كل شيء يتطلع إليه الإنسان من مياه شرب وكهرباء وطرق إمداد، لكنها أصبحت الآن تؤوي 665 ألف نازح، معظمهم فرّوا من بطش مليشيا الدعم السريع في الفاشر.

أصبحت طويلة، التي تبعد حوالي 60 كيلومترًا غربي الفاشر، المنطقة الأكثر استقبالًا للنازحين في السودان، حيث تهرب الأسر من العنف دون أي موارد لتقع في مصيدة دفع ضرائب ورسوم لا يقابلها تقديم أي خدمة.

حوّلت حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور أزمة النزوح إلى مكاسب مالية من خلال فرض رسوم على المجتمعات المحلية والعمل الإنساني الذي يغيث الفئات الأكثر ضعفًا، خاصة النساء المعيلات والأطفال الذين انفصلوا عن أسرهم في الفاشر.

يُعد فصيل عبد الواحد أكثر حركات دارفور المسلحة تشددًا حيال عدم الانخراط في مفاوضات السلام الرسمية، مستفيدًا من الدعم الراسخ من عرقية الفور له، كما يتمسك بخطاب المقاومة ضد ما يصفه بالاختلال في نظام توزيع الثروة والسلطة.

تسيطر الحركة على سلسلة جبال مرة، وهي مناطق وعرة تقع في وسط وجنوب دارفور، حيث استفادت من التضاريس الطبيعية في صد محاولات الحكومة المركزية لاستعادة السيطرة على الجبل الذي أطلقت عليه “المناطق المحررة”، مقيمةً فيه حكمًا مدنيًا.

وفي بداية اندلاع النزاع، استغلت الحركة انسحاب الجيش من مناطق نائية في جنوب ووسط وشمال دارفور، بما في ذلك طويلة، وسيطرت عليها في خطوة قالت إنها بهدف حماية المتأثرين بالحرب والمدنيين وتوفير سبل الحياة الضرورية وتأمين المنطقة، رغم تأكيدها أنها تقف على الحياد ولا تدعم أي طرف في الصراع.

كيف يعيش النازحون؟

باتت طويلة وجهة مفضلة للفارين بسبب تواجد وكالات الأمم المتحدة والمنظمات العالمية التي تقدم الخدمات مثل أطباء بلا حدود، دون أن تقدر على تغطية احتياجات جميع النازحين، الذين يقيم منهم 21% في مخيمات، بينما استقر 74% في مستوطنات عشوائية وأماكن تجمع مفتوحة، ويعيش البقية مع العائلات المضيفة.

وتضطر العائلات إلى النوم في العراء، بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، مما يزيد من مخاطر تعرض النساء والفتيات للعنف والاستغلال والإساءة، فيما يدفع نقص المراحيض المشتركة وانعدام الخصوصية النساء والفتيات إلى البحث عن أماكن منعزلة ليلًا، مما يفاقم مخاطر الحماية.

وقالت منظمة الهجرة الدولية، في تقرير نشرته في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إن 98% من الأسر في طويلة تفتقر إلى أدوات النوم مثل الأغطية والفرش والناموسيات، بينما تعاني 80% من الأسر من ضيق المساحة و41% من انعدام الأمان أثناء النوم.

ولا تقتصر أزمات النازحين على النوم على الأرض دون مفارش والتكدس، بل تمتد إلى الغذاء، حيث أبلغت 86% من النازحين بأنهم يعانون من سوء في استهلاك الغذاء، كما أن 30% من الأطفال دون الخامسة نحيفون أو لا ينمون جيدًا، وفقًا للتقرير.

وأشار إلى أن غالبية الأسر في طويلة تواجه صعوبات كبيرة في الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية، حيث لم تتلقَّ نصفها العلاج الذي تحتاجه بسبب نقصه وعدم القدرة على تحمل تكلفته المالية، رغم انتشار الملاريا والإسهالات وأمراض الجهاز التنفسي.

وتحدث التقرير بأن 76% من الأسر أفادت بوجود قيود على حركتها داخل طويلة، بسبب انعدام الأمن ونقاط التفتيش والألغام، مما يشير إلى أن حركة تحرير السودان تفرض قبضة أمنية قوية على المنطقة.

ونشر المجلس النرويجي للاجئين في 18 أغسطس/ آب 2025 تقييمًا للوضع في طويلة، ذكر أن 98% من الأسر غير قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية بسبب نقص الموارد المالية وعدم توفر فرص العمل والإعاقة والمرض، حيث تعتمد 46% من الأسر في الغذاء على الإغاثة والمطابخ الجماعية، فيما يعتمد 44% على التبرعات والمشتريات، بينما تعتمد البقية على القروض والتسول.

وأفاد بأن الأسر في طويلة لجأت إلى استراتيجيات تكيّف سلبية في ظل عدم توفر فرص سبل العيش، تشمل تقليل كمية الوجبات اليومية، واستهلاك طعام أقل جودة، وتقييد الحركة لتوفير المال، وتجنب خدمات الرعاية الصحية بسبب التكلفة، والاعتماد على المساعدات.

ابتزاز إنساني

فرضت حركة تحرير السودان رسومًا بلغت مليوني جنيه – نحو 550 دولارًا تقريبًا – على مبادرة المهاد الخيرية مقابل إنشاء مطعم جماعي يوفر الغذاء للفارين حديثًا من الفاشر، حيث جرى تسريب الإيصال المالي في مواقع التواصل.

ويُعد هذا التكسب امتدادًا لتاريخ طويل من اقتصاد موازٍ بدأته الحركة بفرض الضرائب على أسواق مخيمات النازحين، لتنتقل بعد سيطرتها على طويلة إلى فرض ضرائب متنوعة على المجتمعات المحلية، بما في ذلك حصة من المساعدات الإنسانية التي فرضت عليها قيود شملت الرسوم. 

وقال متطوع في طويلة إن الحركة تفرض رسومًا على المنظمات المحلية تصل إلى 1500 دولار، وعلى المنظمات الدولية 5 آلاف دولار، مقابل مزاولة أنشطة إغاثة الضعفاء، إضافة إلى اقتطاع نسب تتراوح بين 4% و20% من التمويل الوارد إلى المنظمات.

وتفرض حركة تحرير السودان أيضًا رسومًا على الباعة الجائلين والمحلات التجارية، وأخرى على تفريغ الشاحنات العابرة لمنطقة طويلة، ما زاد من أعباء السوق المحلي ورفع أسعار السلع.

إن تحويل الإغاثة إلى مصدر لتمويل التنظيم المسلح، الذي لا يفتقر إلى موارد مالية، حيث ينتج يوميًا بين كيلوجرامين إلى ثلاثة كيلوجرامات من الذهب من منجم كيدينير الواقع شرق جبل مرة ليبيعه إلى مليشيا الدعم السريع وتجار محسوبين عليها في دارفور؛ لا يمكن وصفه بغير الابتزاز الإنساني.

ولا يُستبعد أن تكون الحركة، التي تمسك جبل مرة بقبضة من حديد وتفرض عليه تعتيمًا إعلاميًا مع عدم السماح بدخول أي فرد إلى مناطقها إلا إذا كان منحدرًا من قبيلة الفور، قد حولت الأموال التي تجنيها من الضعفاء والعمل الإنساني في طويلة إلى وسيلة لإعادة بناء قوتها العسكرية، حيث تعلن بين الحين والآخر عن تدريب مقاتلين جدد.

تأثير دائم

لا يملك النازحون أي خيار غير دفع الضرائب التي تُفرض عليهم، رغم تدهور أحوالهم المالية وانعدام فرص العمل، نظرًا إلى صعوبة النزوح مرة أخرى إلى مدينة الدبة في شمال السودان أو الطينة على الحدود مع تشاد، بسبب انعدام الأمن وانتشار مقاتلي المليشيا في الطرق وارتفاع تكلفة الترحيل.

ووصل حال بعض النازحين إلى عدم امتلاكهم مبلغ الترحيل من مشارف الفاشر إلى طويلة، مما يجبرهم على الفرار مشيًا على الأقدام، ناهيك عن تغطية رحلة قد تستغرق ثلاثة أيام إلى مدينة الدبة يمرون خلالها بعشرات الارتكازات العسكرية.

إن استمرار فرض الرسوم على أنشطة الإغاثة يعيق تقديم المساعدة إلى أشخاص فقدوا كل شيء وعانوا لفترة طويلة من الجوع والعنف، واستقروا الآن في أكواخ مبنية من الأقمشة والمشمعات البلاستيكية أو يعيشون في العراء تحت حرارة الشمس.

كما أن الاقتطاع المالي المتواصل من موارد المطابخ الجماعية سيدفعها إلى التوقف، خاصة أنها تعتمد على متطوعين يستقطبون التبرعات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والتي عادة ما تكون محدودة بعد أن تآكلت مدخرات معظم السودانيين جراء تطاول أمد النزاع.

تبرز سياسات حركة تحرير السودان مثالًا صارخًا على استثمار مآسي النازحين لمآرب مالية من خلال فرض الرسوم على المدنيين وأنشطة الإغاثة في ظل غياب السلطة المركزية وانهيار الخدمات.

لقد دفع السودانيون أثمانًا باهظة في الصراع المندلع منذ 15 أبريل/ نيسان 2023، حيث تعرضوا لانتهاكات القتل والتشريد والعنف الجنسي ونهب الممتلكات وتدمير البنية التحتية، ليصلوا في خاتمة المطاف إلى استخدام الجماعات المسلحة للسطو بطريقة غير مباشرة على الإغاثة.