إلى أين وصلت مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب”؟

شهد مسار مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب” تحولًا نوعيًا خلال الأشهر الأخيرة، مع إعلان حزب العمال الكردستاني التخلي رسميًا عن العمل المسلح، في استجابة مباشرة لنداء زعيمه المعتقل عبد الله أوجلان. ففي مايو/أيار الماضي، أنهى الحزب أربعة عقود من الكفاح المسلح، بعد صراع دامٍ أودى بحياة أكثر من 40 ألف شخص.
وجاءت أولى الإشارات الرمزية لهذا التحول في يوليو/تموز، حين نظّم مقاتلو الحزب مراسم رمزية لإحراق أول دفعة من الأسلحة في جبال قنديل شمالي العراق، إيذانًا ببدء مسار نزع السلاح.
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن الحزب سحب جميع عناصره من الأراضي التركية إلى شمال العراق، في خطوة منسّقة مع الحكومة التركية، اعتُبرت الأوضح حتى الآن في تأكيد نية الحزب طي صفحة العمل المسلح. وخلال فعالية ميدانية أقيمت في قنديل، شارك 25 مقاتلًا – بينهم ثماني نساء – في ما عُدّ أول مجموعة تغادر رسميًا الأراضي التركية، فيما أُحرقت بعض الأسلحة مجددًا خلال المراسم كتأكيد رمزي على الجدية.
في أنقرة، قوبلت الخطوة بترحيب حذر، فقد وصف مدير الاتصال في الرئاسة التركية الإعلان بأنه “إيجابي واستراتيجي” في إطار مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب”، فيما اعتبر الرئيس رجب طيب أردوغان حرق الأسلحة في يوليو/تموز بمثابة “فتح صفحة جديدة في التاريخ” باتجاه بناء تركيا خالية من العنف.
وهكذا، مهّدت هذه التطورات غير المسبوقة الطريق لانتقال القضية من جبهة القتال إلى طاولة السياسة، واضعةً أسسًا واقعية لتسوية كانت لعقود أبعد ما تكون عن التحقق.
ما الذي تحقق حتى الآن؟
على الصعيدين الميداني والأمني، يمكن القول إن مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب” بدأت تترجم فعليًا إلى واقع ملموس، فمنذ إعلان حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار وبدء سحب مقاتليه من الأراضي التركية، خمدت أصوات السلاح تقريبًا، وتراجع مستوى الاشتباكات التي كانت تشهدها مناطق الجنوب الشرقي بصورة شبه يومية.
الحكومة التركية من جهتها أقرت بهذا التغير، إذ أكد الرئيس رجب طيب أردوغان في خطاب حديث أن بلاده “دخلت مرحلة جديدة في مكافحة الإرهاب”، معتبرًا أن ما تحقق حتى الآن يمثل منعطفًا مهمًا في مسار إنهاء التهديدات الداخلية وتهيئة الأرضية لسلام دائم.
أما حزب العمال الكردستاني، فقرار حل جناحه العسكري وإلقاء السلاح يُعد إعلانًا فعليًا عن نهاية أطول تمرد مسلح عرفته الجمهورية منذ تأسيسها عام 1923. فقد بدأ الحزب بالفعل مرحلة الانتقال من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي السلمي، تنفيذًا لنداء عبد الله أوجلان الذي دعا أنصاره من محبسه إلى “تحويل طاقة المقاومة إلى مشروع ديمقراطي”.
فعالية رمزية في #السليمانية تدشّن بداية إنهاء الصراع المسلح لحزب العمال الكردستاني. pic.twitter.com/AJH7loWl8l
— نون بوست (@NoonPost) July 7, 2025
في المقابل، انعكست هذه التطورات إيجابًا على الشارع الكردي؛ فكثير من المواطنين الأكراد ينظرون إلى الهدوء الحالي كفرصة طال انتظارها، بعد عقود من العنف والنزوح والخسائر.
خطوات الدولة التركية ودور اللجنة البرلمانية
بالتوازي مع الهدوء الميداني، تحركت أنقرة لترسيخ المسار عبر جملة من الخطوات السياسية والمؤسساتية، في مقدمتها تشكيل لجنة برلمانية خاصة حملت اسم “لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية”، تضم نوابًا من مختلف الأطياف السياسية برئاسة رئيس البرلمان نعمان كورتولموش. أُوكلت لها مهمة بلورة الإطار الاجتماعي والقانوني والسياسي لمرحلة ما بعد الصراع، وصياغة أسس تشريعية تضمن انتقال البلاد من المعالجة الأمنية إلى المصالحة المستدامة.
منذ انطلاق أعمالها، عقدت اللجنة سلسلة جلسات استماع مكثفة في أنقرة، شارك فيها وزراء ومسؤولون أمنيون ونشطاء وخبراء قانون وممثلون عن المجتمع المدني، إضافة إلى عائلات الجنود الذين سقطوا في الصراع، في مسعى لتحقيق مقاربة شاملة لا تستثني أي طرف من معادلة السلام.
بموازاة ذلك، فتحت الحكومة قنوات تواصل سياسية مع المعارضة الكردية الشرعية، إذ لعب حزب الديمقراطية والمساواة الشعبي – الامتداد الجديد لحزب الشعوب الديمقراطية – دور الوسيط بين الدولة وقيادة حزب العمال الكردستاني المعتقلة.
وبصفته ثالث أكبر كتلة في البرلمان، مكّن الحزب من تبادل رسائل غير مباشرة بين أنقرة وعبد الله أوجلان خلال الأشهر الماضية، كما سمح لوفود برلمانية بزيارة جزيرة إمرالي، كان آخرها في 3 نوفمبر/تشرين الثاني. وفي خطوة لافتة، عقد الرئيس رجب طيب أردوغان في 30 أكتوبر/تشرين الأول اجتماعًا مغلقًا مع قيادات من الحزب، بينهم الرئيسان المشتركان السابقان برفين بولدان ومثلات سانجار، واصفًا اللقاء بأنه “بنّاء وإيجابي”، ومؤكدًا توافق الجانبين على ضرورة المضي بحذر وثبات في العملية.
بلغ الزخم السياسي ذروته حين أعلنت اللجنة البرلمانية عزمها عقد جلسة في 6 نوفمبر/تشرين الثاني لمناقشة إرسال وفد رسمي إلى سجن إمرالي للقاء أوجلان، بناءً على اقتراح مفاجئ من زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي – المعروف بتشدده السابق ضد أي حوار مع الأكراد. وقد أثار إعلان بهتشلي استغراب الأوساط السياسية، إذ لم يكتفِ بتأييد الفكرة بل أعلن استعداد حزبه للمشاركة في الوفد.
وتستعد اللجنة خلال الأسابيع المقبلة لتقديم تقرير شامل إلى البرلمان يتضمن توصيات تشريعية، تمهيدًا لإطلاق حزمة إصلاحات قانونية وعد بها الرئيس أردوغان، تشمل تنظيم أوضاع المقاتلين السابقين وضمان اندماجهم الاجتماعي.
أبرز المطالب
مع تسارع خطوات مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب”، بدأت ترتسم على طاولة النقاش جملة من المطالب المحورية التي ترى الأطراف أن تلبيتها تمثل اختبارًا حقيقيًا لجدّية الدولة في المضي نحو سلام شامل.
الإفراج عن صلاح الدين دميرطاش
يُعد الزعيم الكردي صلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشارك السابق لحزب الشعوب الديمقراطية، أبرز رموز المرحلة الراهنة. فمنذ اعتقاله عام 2016 بتهم تتعلق بالإرهاب أصبح قضيته مرآةً تعكس العلاقة بين الدولة والمكوّن الكردي. وبعد أن أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمًا باعتبار احتجازه تعسفيًا وطالبا بالإفراج الفوري عنه، تصاعدت الضغوط الداخلية والخارجية لتنفيذ القرار.
وفي تحول لافت في الخطاب الرسمي، قال زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إن “إطلاق سراح دميرطاش سيكون خيرًا لتركيا”، وهي إشارة فُسرت على نطاق واسع بأنها ضوء أخضر سياسي لاحتمال الإفراج عنه قريبًا.
إنهاء الوصاية على البلديات المنتخبة
تُعد قضية البلديات الكردية من أبرز الملفات الشائكة في العلاقة بين الحكومة والمجتمع المحلي. فمنذ العام الماضي عُزل عشرات من رؤساء البلديات المنتخبين في مدن الجنوب الشرقي، وحلّ محلهم أوصياء حكوميون بموجب قوانين الطوارئ. وترى القوى الكردية، وفي مقدمتها حزب الديمقراطية والمساواة الشعبي، أن إنهاء هذه السياسة يمثل شرطًا أساسيًا لبناء الثقة وإعادة الحياة الديمقراطية إلى طبيعتها.
مصير عبد الله أوجلان و”حق الأمل”
يبقى زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، المعتقل منذ عام 1999، الملف الأكثر حساسية في المشهد الراهن. فبينما تعتبره الدولة المسؤول الأول عن عقود من العنف، يراه الأكراد مفتاح الحل وأساس أي اتفاق سلام. تطالب الحركة الكردية بأن يُمنح دورًا في العملية الجارية، سواء عبر تحسين ظروف سجنه والسماح له باللقاءات المنتظمة، أو من خلال إطلاق سراح مشروط إذا اكتمل مسار نزع السلاح.
في المقابل، بدأت أنقرة تلوّح بتطبيق مبدأ “الحق في الأمل” – الذي أقرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان – والذي يمنح المحكومين بالمؤبد مراجعة عقوباتهم بعد مرور 25 عامًا، وإمكانية الإفراج المشروط إذا انتفت الخطورة القانونية. وكان بهتشلي أول من فتح هذا الباب العام الماضي حين قال إن أوجلان “قد يُمنح الأمل إذا أعلن نهاية الإرهاب”.

- عبد الله أوجلان – الأناضول
آليات نزع السلاح وإعادة الإدماج
تدخل المبادرة اليوم أكثر مراحلها حساسية، إذ تواجه الاختبار العملي الأكبر المتمثل في آليات نزع سلاح مقاتلي حزب العمال الكردستاني وإعادة إدماجهم في المجتمع.
وحتى اللحظة، تسير الخطوات التنفيذية ببطء وحذر ضمن ترتيبات غير معلنة بالكامل، تجنبًا لأي انتكاسة أو سوء تقدير، فبعد إحراق دفعات رمزية من الأسلحة خلال الصيف الماضي، يُتوقّع أن تبدأ مرحلة جمع الأسلحة الثقيلة تدريجيًا والتخلص منها تحت إشراف أطراف موثوقة.
وفي المقابل، تشترط قيادة الحزب أن تترافق هذه الخطوات مع عفو قانوني مشروط وضمانات أمنية واجتماعية للعائدين، من خلال قانون خاص ينظم وضع المقاتلين السابقين ويختلف عن العفو العام التقليدي. هذا القانون المنتظر يُفترض أن يحدد بوضوح آليات المحاكمة أو الإعفاء، إلى جانب مسارات الدمج المهني والاقتصادي والاجتماعي، في تجربة تسعى تركيا من خلالها إلى الانتقال من المعالجة الأمنية إلى العدالة الانتقالية.
غير أن الطريق إلى التنفيذ لا يخلو من تحديات أمنية وسياسية دقيقة، فغياب الثقة بين الطرفين لا يزال قائمًا: فالحزب لن يسلّم ما تبقى من سلاحه قبل ضمان تنفيذ الإصلاحات الموعودة، بينما تخشى أنقرة تكرار تجربة 2015 حين استُغل وقف إطلاق النار لإعادة تنظيم صفوف المقاتلين.
ومن ثمّ، يُتوقع أن تسير العملية على قاعدة التدرّج المتبادل: خطوة من الحزب تقابلها خطوة من الدولة، حتى الوصول إلى ما تصفه الأوساط السياسية بـ”نقطة اللاعودة عن السلام”.
سياسيًا، يواجه ملف الإدماج معارضة قومية صلبة داخل بعض الأوساط التركية التي تعتبر العفو أو إعادة الدمج “تنازلًا عن دماء الشهداء”. ولتفادي هذا الرفض الشعبي، يُنتظر أن تطلق الحكومة حملة تواصل وتوعية واسعة لتوضيح أن المصالحة ليست مكافأة للمقاتلين السابقين، بل استثمار في استقرار البلاد وأمنها طويل الأمد.
كما أن تمرير أي تعديلات جوهرية في القوانين سيحتاج إلى توافق سياسي عابر للتحالفات، وهو أمر لا يزال محفوفًا بالمخاطر في ظل انقسام المعارضة.
وسط هذه التحديات المتشابكة، تبدو تركيا أمام فرصة تاريخية محفوفة بالمخاطر: فإما أن تنجح في تحويل السلام إلى واقع مؤسسي يطوي صفحة أربعة عقود من الصراع، أو أن تتعثر تحت وطأة الحسابات الداخلية والضغوط الإقليمية، لكن المؤكد أن الوصول إلى تركيا خالية من الإرهاب لن يتحقق إلا عبر إدارة دقيقة ومتوازنة تجمع بين الحزم والمرونة، وبين العدالة والأمل.